1

أحياناً يكون الكتاب للشاعر عرضة للنسيان، لأسباب فنية ربما اتصلت ببدائية (لئلا أقول سذاجة) النصوص الأولى التي كان تقدم بها للقارئ. وغالباً ما يكون الكتاب الأول جرعة تأسيس نادرة من شأنها وضع صاحبها على محك تجربة تكفّ عن التطور، وفي بعض الحالات، سوف نصادف شعراء يظلون يستنسخون نصوص كتابهم الأول في تجارب الكتب اللاحقة، بصورة تظهر الشاعر يتكرر بشكل آلي يكرر الكتاب الأول ولا يضيف إليه ولا يتجاوزه.
غير أنه في كل الحالات، يظل الكتاب الأول يشي بعلاقة عاطفية حميمة عند صاحبه، قد لا يدركها الكثيرون، ودون أن يقبل الشاعر التنازل عن علاقته السرية بذلك الكتاب، الأمر الذي يجعل الكتاب الأول تجربة خاصة لا تتكرر، في نظر الشاعر، ولا يمكن القياس عليها في آن.

2


بالنسبة لي، بعد مرور السنوات الطويلة والكثيفة على كتابي الأول، كنت أشعر بالحرج والارتباك كلما واجهني أحدهم بالسؤال عن كتابي الأول، ثمة غموض ظل يرافقني طوال الوقت حول ديواني الأول «البشارة». غموضٌ يتراوح بين التحفظ على مستوى نصوص ذلك الكتاب، وكونه الإشارة الأولى لما يمكن وصفه بطموح مكبوت لأن أكون شاعراً يقدر على التعبير. وحين لا أرى في هذين النزوعين تناقضاً سلبياً في نظرتي لكتابي الأول، فسوف أشعر بأن التحدي الفني الذي فرضته تلك التجربة، تسنى لها أن تضعني في مهب الاختبارات المتواصلة في عموم مراحل التجربة عبر السنوات، ما وفر لكتابتي الفرصة لأن تزعم تحولاتها الفنية بين كتاب والآخر، في ما صدر لي لاحقاً. وكثيراً ما أصادف السؤال عن موقفي من ديوان «البشارة»، فأرتجل جواباً غير دقيق ولا شاف، بأنه كان مجرد «بشارة».

3


يوم أصدرت ديواني الأول «البشارة» عام 1970، لم أكن لحظتها أصدر عن وهم المركز والهامش. مع أبناء جيلي، كنا على اطلاع كبير وعميق وصلاة قوية بالتجربة الشعرية العربية الجديدة وقتها، ونصدر عن كوننا جزءاً من ذلك السياق الثقافي الحديث الجارف. لم يكن يعنينا كيف يفكر بنا العرب الآخرون.
لذلك فإن ديواني الأول كان يتصرف كما لو أنه امتداد لتلك التجربة المعبرة عن أمل متعدد الأبعاد في لحظة التخلق الكوني. وليس من غير دلالة أن يكون عنوان كتابي الأول «البشارة». فتلك هي روح لحظتنا، ليست الأدبية فقط، ولكن خصوصاً الفكرية والسياسية والاجتماعية لحظة النضال الوطني.
ذلك العنوان جاء من الروح الشعبية في التراث البحريني.
في العادات الشعبية عندنا، كانت العائلة البحرينية، حين ينجو أحد من مرض أو يعود من سفر أو يخرج من خطر، ترفع على بيتها ثوباً نسائياً مبهج الألوان، يسمونه «ثوب النَشِل»، بمثابة الراية التي تبشّر الناس بذلك الحدث.

كان ديواني الأول «مطحنة أساليب»، يغلب عليه الغناء العاطفي الصادر من الانهماك المبكر في النضال الوطني

لحظتها (منتصف ستينيات القرن الماضي) كان العديد من رفاق النضال يطلق سراحهم من اعتقال طويل، من بينهم «أحمد الشملان» أحد أجمل الأصدقاء، وهو من كتبتُ له قصيدة «البشارة»، ثم اخترتُ العنوان ذاته لديواني الأول الذي صدر في تلك الفترة تقريباً. فإذن كان الانهماك في ورشة العمل النضالي هو أحد أهم مظاهر مشاغل تجربتنا الأدبية.

4


ولأنه الكتاب الأول، فإنه يشتمل على هاجس بحثٍ عن اللغة والأسلوب والطريق، جاءت قصائده عبارة عن «مطحنة أساليب»، حسب التعبير التشكيلي، يغلب عليها الغناء العاطفي الصادر من الانهماك المبكر في النضال الوطني، متصلاً بمناخ الهمّ الانساني حتى ثمانينيات القرن الماضي المتوهجة. كنتُ مزيجاً من شعراء كثيرين، عرب وأجانب. كانت نصوصي تشي بقدر واضح (مباشر) من صدق الأمل والحماس. وكان الكتاب الأول طاقة تكاد تكفي لأن تصير «بشارة» لشيءٍ ما. يبدو أنني شعرت بمسؤولية عنوان الكتاب منذ اللحظة الأولى. بل إنني صرت أدرك يوماً بعد يوم الدلالة الشعرية للعنوان. وبعد كتابي الثاني «خروج رأس الحسين من المدينة الخائنة» (1972)، بدت لي أن ثمة مسافة نوعية بدأت تتماثل بين الكتاب الأول، حتى أنني أوشكت أن أرغب في تفاديه. لكنني سرعان ما استدركت ذلك. ففي الكتاب الأول ما يجعل البداية هو قنديل خطوات الشاعر في مستقبل التجربة.

5


الآن،
حين أنظر إلى «البشارة»، أكتشف كيف أن المصادفات الموضوعية، حسب تعبير السرياليين، هي من بين المكونات التي يمكن أن تصدر عنها التجربة الشعرية في غالب الأحيان. وصار لي، بعد ذلك، أن أرى في تجربة الكتاب الأول امتحاناً نوعياً يتطلب مساءلة كل كتاب جديد عن مبررات صدوره، وما إذا كان يشكل إضافة جديدة بالنسبة لتجربتي. لكي أدرك كيف يمكن أن تكون في الكتابة «بشارةً» ما. ولعل الومضة المسيحية في العنوان قد استهوتني أيضاً، خصوصاً بعد أن أصبحت الأناجيل مصدراً من مصادر معرفتي الثقافية لاحقاً.

6


ليس من الحكمة التخلي عن، أو افتعال نسيان، الكتاب الأول. فقد كان يساعدني على تعلم المشي في طريق الكتابة. لا أحد يقدر على نسيان طفولته أو التخلي عنها. أما عن مستوى القصائد، المبتدئ والبسيط والساذج، كثير الأخطاء، فإنني لا أزال ساذجاً، مبتدئاً، وأخطائي لا تحصى. وإذا كنت أفشل في قصيدة هنا وقصيدة هناك، فذلك لأني لست الله. إنني طوال الوقت في التجربة والعمل، حيث الخطأ هو القنديل. تلك هي طبيعة الحياة.

7


الجميل في الأمر، أن العديد من الأصدقاء والقراء ما زالوا يذكرون كتاب «البشارة»، كلٌ لسبب مختلف، حتى أن بعضهم يقول لي بحسرة: لماذا لم تعد تكتب كما في قصائد «البشارة»؟

8


أخيراً ... كيف يمكن تفادي كتابٍ له هذه السطوة على الروح!؟