تَسكنُ في أوبَرفيليَيْهكأنك تسكنُ في قسطنطينةَ
أو في سوقِ بَراغيثَ...
وأحياناً
تشعرُ أنك في جُرْفٍ عالٍ
قد ينهارُ لِـمَـهْبِطِ عصفورٍ
فتموتُ...

الشارعُ بين محطة مترو أوبرفيلييه، وبيتِكَ
تقطعُه، حذِراً
تتلفّتُ.
إنك لا تعرفُ في المَبْنى أحداً.
لا يعرفُ وجهكَ، في المبنى، أحدٌ.
والمصعدُ خالٍ،
تدخلُه حذِراً...
والشقّةُ مؤصَدةٌ
لكنك تخشى أن تفتحَ بابكَ.
تُرْهِفُ سمعَكَ...
لا صوتَ.
وتدخلُ...
تنهارُ على أوّلِ كرسيٍّ، وتضيع.

■ ■ ■


في أوبرفيلييه
كان الصيفُ الأوّلُ...
جاءتْ أوكتافيا، بكتيبتها المسحورةِ:
ألقتْ كلَّ حقائبِها
وأقامتْ.
كانت تخرجُ فجراً
وتعود مساءً في العاشرةِ.
كانت متعَبةً، دوماً:
تُغْمِضُ جفنَيها، بعد قليلٍ، وتنامُ عميقاً
حتى الفجر.

■ ■ ■


إنْ أردتَ أن تحيا، فعليك أن تكتشفَ. الحياة غيرُ متاحةٍ للمتغافل.
وبما أنك في أوبرفيلييه، فعليك أن تكتشف أوبرفيلييه. جاك راليتْ
Jack Ralite وزير الصحة الشيوعي سابقاً، عُمدةُ أوبرفيلييه
حاليّاً، أعانك في أن تجد موئلاً ومأوى. هكذا بدأتَ تطوِّفُ. تقرأ
أسماءَ الشوارع: مناضلون ومغَنّون. ليس من جنرالاتٍ هنا. جاك
راليت، فقط، هو رئيس أركان الثقافة. تنضَمُّ إلى الكتيبة الثقافية.
سوف تلقى رشيد بو جدرة معك. عبد اللطيف اللعَبي معك.
أوبرفيلييه تتفتّحُ مثل زهرةِ صيفٍ.

■ ■ ■


بعد هذا سيأتي إلى بيتِكَ، النحلُ.
والبابُ هذا الذي كنتَ أوصدْتَه، الآنَ أشرعتَهُ للرياحِ. الفراشاتُ تأوي
إليك. ومن طين باريسَ صارَ طِلاؤكَ. أحببتَ يوماً ممثِّلةً. كان مسرحُها
في الضواحي...
سماءٌ مبارَكةٌ ظلّلَتْكَ.
السعادةُ أرهَفُ من أن تُسَمّى!

■ ■ ■


وكما أخبرتُكَ. لم تعُدْ أوبَرفيلييه مُلتجَأً. إنها مُتَوَطَّنٌ. وأنت لم تَعُدْ مَن أنت.
الآن لَديكَ ما يهَبُكَ التوازُنَ. لا أعني أنك ستكون مُتّزِناً. الخللُ هو الحلُّ.
لكنك في مَضافة جاكْ رالِيتْ. نعم. إلا أنك سوف تدفعُ إيجار الشقّةِ
من لا مَدْخولِكَ. لم تقُلْ لأحدٍ أنكَ اخترتَ الموتَ سبيلاً للحريّةِ. ستُلقي بنفسِكَ
من الطابق الحادي عشر...
سعاد الصباح، بلَغَها أنكَ ستنتحرُ بسببٍ من عوَزٍ وإباءٍ.
تفتحُ صندوقَ البريدِ الفارغَ دوماً
لتجد شِيكاً بعشرين ألف دولار…

■ ■ ■


ستجيءُ، مونتَيني، الرفيعةُ، في الصباحِ.
تجيءُ مونتَيني مع الآحادِ،
تحملُ من عطايا السوقِ في الأحدِ الفرنسيّ، العجائبَ:
زعتراً
ثوماً
قديداً من لحومِ الريفِ،
جبْناً منزليّاً...
ثم نثملُ بين فِعْلِ الحُبِّ، والكأسِ الرفيعةِ، والندى،
وتظلُّ مونتَيني معي،
تظلُّ مونتيني إلى أن تؤذِنَ الشمسُ العجيبةُ بالرحيلِ.
تقول لي:
Je vais partir !
أي أني سأذهبُ...

■ ■ ■


قبلَ أن تكون في H.L.M أوبرفيلييه، كانت الشوارع، وغُرُفاتُ اللؤمِ، بيوتَكَ.
كان العراقيّون يطردونك، ويطاردونك. من مقهى إلى مقهى. من غرفةٍ إلى غرفة. يطردونك
حتى في الليل المنتصِف. مرّة دعاني أحدُهم إلى منزله. كانت مائدتُه خبزَ اللئيم. بعد أن انتصف
الليلُ، وتقطّعتْ أوصالُ باريس، قال لي: اخرجْ ! وكان عليّ أن أمتثلَ...
ومن «ساحة الأُمّة»، Place de la Nation بدأتُ مسيرتي الكبرى، إلى أوبرفيلييه. كنت أمشي وأمشي وأظلّ أمشي.
العسسُ، وأحلاسُ الليلِ، ينظرون إليّ متسائلين. ربما استغرقتْ مسيرتي ساعاتٍ أربعاً في ليلٍ خطِرٍ.
بعدَها أقسمتُ ألا أدخل بيتاً لعراقيّ غيرِ مؤتمَنٍ، في باريس أو غير باريس.

■ ■ ■


نَصٌّ مستعادٌ من رِحلة مصر
02.02.2008
سوف نتركُ للنيلِ هدأةَ أمواجِهِ
والطيورَ
وأشجارَه الناعماتِ بخُضرتِها
النائماتِ بخُضرتِها،
الببغاواتِ
والنخلَ
نتركُ تاريخَنا في يدَيهِ
ونمضي إلى ما وراءَ الجبال.

■ ■ ■


من فضائلِ أوكتافيا:
1- معرفة مَن يبيعون زهرة القِنّب في ضواحي باريس.
2- معرفة الخمور الجيّدة في الحانات الرديئة.
3- معرفة الغرف الرخيصة في الأماكن الغالية.
..............................
..............................
..........................
وهكذا قالت لي في ظهيرةِ أحدٍ: اليوم نذهب إلى «حانة سائقي الشاحنات»
Bar des Camionneurs
ولقد ذهبْنا!
ربّما كانت أحبّتْ سائقاً...
بل رُبما كانت عشيقةَ صاحبِ البارِ!
الحقيقةُ أنّ خمرتَنا، ظهيرةَ ذلكَ الأحدِ، النعيمُ.
أظلُّ أذكرُ من فضائلِها: ظهيرةَ ذلكَ الأحدِ!

■ ■ ■


لكنّ بيتي ليس بيتي...
هكذا، ستكون في المنأى، أوبرفيلييه...
سوف أغادرُ البيتَ الذي أحببتُ،
أنأى عن فرنسا
عن ندى باريس؛
سوف تكون أغنيتي... دمشق!

■ ■ ■


حتماً، ستسألني: كيف؟
وجدتُ رسالةً رسميّة في صندوق بريدي المهجور.
الرسالة من وزارة الداخلية الفرنسية، اسمُ المرسِل:
Henri Leblanc،
Inspecteur National
Bir Hakem
إنري لُبْلان
مفتشٌ وطنيٌّ
بِير حكيم
ذهبتُ إلى المكان الموحش.
قال لي المفتش: أنت تريد الإقامة؟ مرحباً. هل ستتعاون
معنا؟ هذا رقم هاتفي الشخصيّ. قلتُ له: لم أفهم.
قال: سوف تفهم.
أصدقاؤكَ فهموا ما أعني.
وحين تفهم... أرجو أن تتّصلَ!
عندك رقمُ هاتفي الشخصيّ.

■ ■ ■


سعد سلمان قال:
قبلَ سعدي يوسف
ما دخَلَ أحدٌ بير حكيم
وخرجَ رافعَ الرأس...
لندن 09.01.2015