عبلة الرويني *ما كان له أن يأتي
هذا الزحام، وتلك الحشود، والجمهور المتدافع والمتدفق إلى «معرض القاهرة للكتاب». الزحام الضجيج، المزعج والخانق والحميم. بالتأكيد لا يروق ذلك كثيراً لأنسي الحاج، الساكن وحيداً في غيمة بعيدة. المباشرة لا تروقه، والاشتباك يجرح خصوصيته، ويعكر صفو مزاجه.
الآن أدرك أن أسئلة الايديولوجيا تثير استياءه، تخرجه عن صوابه، وتفقده هدوءه. وأدرك أن حديث الليل، والنجوى، والصمت، والشعر الطويل، والرسولة، والينابيع هو حديث الكون وموسيقاه، لن يسمع سواها.

قبل أسبوع، مرت عاصفة من الغبار على القاهرة، فأحالتها مدينةً صحراء يغطيها الأصفر، وانتظر الناس مرور الغيمة، وحلموا بقطرات المطر. لكن الجمهور (الضجيج، المتدفق) يكمل في العواصف، ويواصل حضوره وازدحامه وتوافده واشتباكه. مليونية مصرية أخرى للكتاب حملت هذا العام شعار «تجديد الخطاب الديني»، وأظنه أيضاً شعاراً لا يروق لأنسي الحاج. أنسي المسيحي جداً، الرسولي جداً، ما كان له أن يقبل الحديث عن تجديد الخطاب الديني (مسيحياً أو إسلامياً) هو المشغول بإفساد الخطاب كله، وتحطيم اللغة، وإعادة صياغة الكلام. لا يريد أنسي تطوير الخطاب الديني، ولا الخطاب السياسي. لا يريد خطاباً إيديولوجياً. لا يريد خطاباً في الأساس (لا نريد أناجيلك، ولا تهديداتك) قالها يوماً بوضوح في رسالة إلى السيد المسيح.
نقاء أنسي وتعاليه كان سيحميه من التكرار، وإعادة الكلام. كان سيحميه يقيناً من التناقض والمفارقة التي أوقعت أدونيس في الحرج واللغو في «معرض القاهرة للكتاب» قبل أيام، حين أقام ندوته تحت عنوان «نحو خطاب ديني جديد» بينما حرص على أن يعلن للحاضرين عدم تدينه. التناقض الذي فضحه أحد الحاضرين في القاعة بالسؤال: كيف تأتي متحدثاً عن تجديد خطاب أنت مضاد
له؟!
أنسي الحاج أكثر نقاء من المراوغة، وأكثر تمرداً من التكرار، ومن قبول التحايل والتلاعب، وتحميل الكلمات فوق ما تحتمل. أنسي خال تماماً من الأقنعة والزيف. شعره العاري من الزخارف والمساحيق، من الخوف والتقية، لغة صافية ورائقة. قاسية ووحيدة تماماً كالملائكة والمتطهرين. صادم بطريقته التي لا تشبه أحداً، ولا تريد لأحد أن يشبهها، يحارب وحده، دون أنصار، ودون تابعين.
أنسي الحاج لن يجدد خطاباً، ولن يشارك في زحام، ولن يحتمل ضغط الأصفر على هواء القاهرة، ولن... ربما يجلس في غيمته كحلم، وننتظر أن تمطر!
* كاتبة وناقدة مصرية ورئيسة تحرير «أخبار الأدب» سابقاً