زاهر الجيزاني*
1


كنتَ محظوظاً جداً، حين عرفتَ سواء بانتباهتكَ أو بمصادفة ما، أو بتذكير من نصوص لآخرين قرأتها في أول بداية شوطكَ، عرفتَ الموضع الصحيح الذي يجب أن توضع فيه الجملة الشعرية،
في الشعر كما أرى: هناك مشكلتان تواجهان الشاعر الذي أعد نفسه للمواجهة، (وأنتَ شاعر مواجهة، فارس على خطوط قتال شرسة)، تركيب الجملة الشعرية، والمكان الذي توضع فيه، كل جملة شعرية في سياق التدفق والانفعال، ثرثرة لا معنى لها، يجب إخراجها من سياقها الانفعالي

(لذلك أكثر الشعر السياسي، والديني، والاحتفالي يمكن وصفه بشعر منفعل، شعر هياج)، يجب أن تنقل الجملة الشعرية إلى السياق الصحيح الذي يليق بها، وأن تكون في سياق التاريخ أو الدين أو المرأة أو في التعقيد الاجتماعي، لان طبيعة الجملة الشعرية، معترضة، مفسِّرة، ومبتكرة جمال نادر، من سيعترض على ثقافة رسخت أركان اليقين بالقوة الغاشمة غير الشعر وهذه وظيفته التاريخية، منذ قصيدة بانت سعاد إلى شعر أبي نؤاس والمعري، وجزء كبير من المتنبي، مروراً بالجواهري، والياس أبي شبكة والسياب والبياتي، وأدونيس ونزار قباني، وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل، ويوسف الصائغ.
أنتَ أوفر حظاً، بقيتْ جملتُكَ الشعرية، معترضةً، مفسِّرةً، ومبتكرةَ جمالٍ نادر، الآن ماتزال وستستمر أكثر لمعاناً من أوقاتكَ الماضية. أذكّرُكَ وأنتَ الذي تسبق بصيرتُكَ لغتَكَ، أن جملة شعرية قديمة وردت في قصيدة حسان ابن ثابت عشية فتح مكة، أطاحت بكل تفسيرات التاريخ ومروياته، (ألا أبلغ أبا سفيان عني ............) وصورت لنا كيف أن السلطة يمكنها في وقت ما أن ترتدي قناع المقدس، وتختفي فيه حتى لا نكاد نرى لها أثراً، كيف أن جملة شعرية وردت في قصيدة الشريف الرضي في رثاء القاضي الصابي، أعادت السلطة المطلقة للشاعر ووضعتها فوق كل سلطة واعترضت على القضاء والقدر (يا آمر الأقدار كيف أطعتها........ ).
كيف أن جملة شعرية وردت في قصيدة أبي نواس نحتت لنا قبلة لا تخطر على بال لأنها ولدت في طقس يفصل بين المرأة والرجل، لكن الشاعر وضعها في هذا السياق الخطر، أن تخلق شيئاً جميلاً وسط الخطر، أقصى الجمال، لذلك كانت أغلب قصائدكَ، مكتوبة على حافة الهاوية، تعترض، وتفسر كما ترى، وتصنع جمالاً، كأننا نراه أول مرة.

2


مرة أخرى أنتَ محظوظ، في اكتشاف صورة أخرى للمرأة التي كتبتَ لها معظمَ شعرك، نحن شرقيون بالمعنى الممتلئ للكلمة، أنوثة المرأة كل شيء في المرأة، الصورة التي رسمها إمرؤ القيس، للمرأة الضجيعة بقيت كما هي حتى جاء نزار قباني وجعلها امرأة مودرن، الأنوثة ذاتها لكن عطورها وثيابها وإكسسوارها ولغتها تغيرت، أو كما وصفها امرأة ترتدي بنطلوناً وتسوق سيارتها المكشوفة بسرعة فهد أفريقي، أنتَ عدلتَ في أنوثتها، من أنوثة الجسد إلى أنوثة الحياة، المرأة في شعرك، الحياة التي لا يمكننا أن نكون إلا فيها.
لنقرأ كل قصائدك، سنكتشف أن الجوهر الأساس (المرأة) ونحن الرجال (العرض) العالق به، حياتنا مرهونة بالارتواء منه.
في قصيدة روبرت هاس (المتحف) يصف رجلاً وامرأة شعرهما غير مرتب كأنهما نهضا تواً من الفراش، يجلسان على طاولة يشربان القهوة ويتبادلان طفلهما النائم كلما أراد أحدهما أن يقرأ الجريدة أو يقف ليدخن، جوهر القصيدة ليست أنوثة المرأة، إنما هذا الطفل الخيط الرابط بينهما وكأنه الأمل الذي يشدهما إلى بعض، كذلك الأمر مع قصيدة جان اشبيري، فكرة فلسفية، يسأل، هل يستطيع الذهن أن يفكر بقضيتين في آونة واحدة أم أن الذهن لا توجد فيه إلا فسحة واحدة لفكرة واحدة، وتتشعب القصيدة صاعدة إلى مستويات متعددة، الغربيون تجاوزوا مشكلة إخضاع جسد المرأة إلى مشكلة إخضاع العالم، أنتَ أنسي الحاج خضتَ في مختلف الظواهر لكن انطلاقاً من المرأة، نحن شرقيون مازلنا في مشكلة أنوثة المرأة، لكنك نقلت هذه الأنوثة من حيّز الجسد إلى حيّز أكبر، حيّز -الحياة، تتنفس جسدها كما تتنفس الحياة، ما حصل أن المرأة، في شعركَ أصبحت أكثر من الجسد، ليست متاخمة للحياة أو في تناظر معها، أصبحت هي الحياة، وهذا يقلق الخط الديني والسياسي والاجتماعي.
أنتَ شاعر أوفر حظاً ممن سبقوك، فرياح الشعر اليوم في الأرض العربية، تهب من ناحيتك.


*شاعر عراقي مقيم في أميركا.