حسونة المصباحي*عزيزي أنسي
أمطار غزيرة على باريس مساء هذا اليوم، الجمعة 13 فبراير 2015. وخلال الأيام الماضية، وتحديداً منذ أن جئت الى هنا قبل أزيد من عشرة أيام، كان الطقس شديد البرودة. تمشي في الشارع فتحسّ كما لو أنّ سكاكين حادّة تقطّع جسدك. مع ذلك، أشعر بسعادة لا يمكنني أن أحصل عليها في بلادي، وربما في أي بلد عربي آخر. سعادة أن تكون في مدينة تدربت جيداً على مقاومة ثقافة الموت والكراهيّة، وعلى تحدّي فرسانها والمبشرين بها، والمحرضين عليها.

وأنا كنت قد جئت الى باريس وبي شعور أني سوف أجدها بعد مجزرة "شارلي ايبدو" حزينة، خائفة، ومتوجسة من عربي مثلي بات رمزاً للعنف والشر والجريمة والتزمت. غير أنّ كل هواجسي ومخاوفي انزاحت عن نفسي حالما قطعت بضع خطوات في حيّ "بال فيل" حيث أقمت وحيث تتعايش جنسيات وقوميات متعددة. وهكذا يا شاعري الرائع، أدركت مرة أخرى أن باريس لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تستسلم لمن يعملون على قتلها، وتسميم روحها الجميلة بأحقادهم الدفينة، وجرائمهم البشعة، وكراهيّتهم لثقافة الحب، والأخوة بين أبناء الانسانيّة جمعاء! وعندما طلب منّي الصديق بيار أبي صعب أن اكتب لك رسالة في مناسبة مرور سنة على فاجعة رحيلك، دخلت حانة صغيرة معتمة في "الحيّ اللاتيني". ومع الكأس الاولى، تذكرت قصيدة لك تتغنى فيها بالحبيبة التي بدت لي شبيهة بباريس. في هذه القصيدة، أنت تقول:
وآخذ معي وراء الجمر تذكار جمالك
أبديّاً كالذاكرة المنسيّة،
تحتلّ كلّ مكان وتستغربين كيف يكبر الجميع ولا تكبرين
ذهب عينيك يسري في عروقي
لم يعد يعرفني إلا العميان
لأنهم يرون الحب
ما أملكه منك ليس جسدك بل
روح الإرادة الاولى
نعم أيّها الشاعر الرائع. باريس التي أحببتها من بعيد، ربما أكثر من بيروتك التي أبيت فراقها حتى في زمن الموت اليوميّ، والحروب بين الاخوة الاعداء، تعلم أن ارادتها الاولى هي التي أتاحت لها أن تتحدّى أعداءها، وأن تنتصر دائماً على المتربصين بجنونها الجميل، جنون الشعر وحبّ الحياة.
وفي القصيدة نفسها، أنت تقول بأن "كلّ قصيدة هي قلب الحب"، و"أن كلّ حبّ هو قلب الموت يخفق بأقصى الحياة". وأنا أرى أن هذا البيت بعكس فلسفتك في الشعر وفي الحياة. فأنت كنت تعلم أن الحياة مسكونة بالموت. غير أن الحب هو وحده القادر على أن يجعلنا حتى لحظتنا الأخيرة قادرين على تحدي الموت الكامن في أعماقنا. والحب هو الذي احتميت به دائماً وأبداً كي تواصل كتابة الشعر في أزمنة عربية يجثم عليها الحزن والكآبة، وتجعلها الفواجع المتتالية مسربلة بظلمة قد تنزاح حيناً لكي تعود أشدّ كثافة وثقلاً على النفوس والقلوب...
عزيزي أنسي:
أول وآخر لقاء لي معك كان في لندن في ربيع سنة لا اتذكرها. كنت أنت قد جئت الى العاصمة البريطانية لحضور مهرجان عربي للشعر. وأنا كنت هناك لغرض ما. وصديقنا المشترك نوري الجراح الذي كان يعيش آنذاك مع زوجته وابنه الصغير في بيت ريفي في ضواحي لندن دعانا الى مأدبة شرقيّة حضرت فيها الأطباق اللذيذة، والنبيذ الفاخر. ومثل عصفور جذلان بالربيع، راح نوري يتنقل بيننا راغباً في أن يرضي كلّ رغباتنا. وعليّ أن أقول بأنني أحسست بأني وكلّ المدعوين سعداء أن تكون أنت ضيف الشرف لتلك الاحتفالية التي كان الشعر حاضراً فيها بامتياز. نعم أنت. أنت المتواري عن الأنظار دائماً، والهارب من جلبة الجموع، والكاره للعكاظيات الشعرية العربية فلا تحضرها الّا مكرهاً، أو تحت ضغط من تحب من أصدقائك النادرين بجميع المعاني. وفي تلك الظهيرة المشرقة بنور ربيع الريف البريطاني، لم تتحدث كثيراً، بل حرصت على الإنصات الينا، وعلى مراقبتنا بعين وقلب الشاعر الخبير بسحر الكلمة فلا ينطق بها إلا عندما يكون على يقين أن لها دلالة ومعنى. وأنا أودعك أحسست أني ازددت اقتراباً منك ومن عالمك الجميل. وبين وقت وآخر اجدني سابحاً في بحر "كلماتك"، غارفاً منها ما يزيد في تأجيج حبي للشعر وللحياة!
وفي النهاية أهمس لك: حسناً فعلت عندما رحلت يا انسي العزيز، فلا ربيع للعرب، ولا سلوى لنا غير قصائدك المفعمة بالحب، وبالأمل، وبحمى الشعر والحياة!
* كاتب تونسي