لم أكن أعرف أنني أكتب رواية. كنت أقاوم العنف آنذاك بكتابة نتفٍ هنا وهنالك. أكتبها على ورق الفواتير. كتبت أيضاً على أوراق كانت تعلق على مدخل بابنا في كسروان. تعلقها القوات اللبنانية بداية كل شهر طلباً للمال. نوعٌ من الخوّة. كتبت على فواتير الكهرباء المقطوعة دائماً... وعلى الورق المقوى الذي كنت أجمعه. أكتب على كل ما تطاله يدي من أوراق شبه بيضاء. ذاكرة كتابة الرواية الأولى لا تنفصل عن ذاكرة انهيار كل شيء حولي. البيت، بموت أمي وهجرة إخوتي هرباً من الحرب، ثم المدرسة حين أغلقت عام 1976، والبلدة التي هُجّر منها نصف سكانها فقط لأنهم ينتمون الى دين آخر… ثم بيروت التي لجأت إليها فوجدتها منقسمة.
الكتابة بدأت منذ بداية السبعينيات، مرحلة التظاهرات والتنظيمات، مرحلة الأحلام التي أجهضت. كانت الحرب قد ابتدأت وكنا فتيات نتبادل ما نكتبه. أذكر ليلى عيد ودينا بري وأنا. نجتمع في قاعة متروكة لا يدخلها أحد من الطلاب... ثم نقرأ نصوصنا بصوت عال. لا أعلم أين دينا بري الآن، وماذا فعلت بها الحياة. انقطعت أخبارنا عن بعضنا بعضاً منذ بداية الحرب. أما ليلى عيد فقد أصبحت شاعرة وروائية هي أيضاً. أفكر الآن أن شاعرية روايتي الأولى «باء مثل بيت... مثل بيروت» التي صدرت عام 1997، تأسست هناك مع فتيات الصف. ثم تابعت الكتابة وسط حرب أقاومها بأن أبقى حيّة على الأقل... بأن أحمي طفليّ منها. «باء مثل بيت...» تنقلت نتفُها الصغيرة معي، والتي لم تكن مشروع رواية بعد، من بيت الى آخر. لا أصدق الآن أنني في عام واحد غيرتُ ثلاثة بيوت، وانتقل معها ابني الصغير إلى ثلاث مدارس! كانت كتاباتٍ مبعثرة كحياتي آنذاك. لم أستطع جمع هذا التبعثر إلا بعد انتهاء الحرب. أخذ مني الأمر وقتاً طويلاً كأنني كنت أعيد بنائي. وكما كانت حياتي موزعة بين «البيروتين» و«الجبلين»، كذلك أتت كتابة روايتي الأولى. بعد صدورها، وجدت كتابات موزعة على أوراق نسيتها في أدراج بيت الجبل الذي كنا نلجأ إليه حين يشتد القصف في بيروت. كتابات مبعثرة ومتعلقة بشخصية خامسة وهي خوسيفا. نشرت الرواية ولم أفرد لخوسيفا فصلاً مستقلاً مثل باقي نساء الرواية.
كمراهقة، عشت أول تماس مع المدينة في شقة كانت تقطنها أختي التي تكبرني بأكثر من عشر سنوات. في ذاك البيت بدأت ببناء صلاتي مع بيروت الثقافة والسياسة. اخترت المبنى الموجودة فيه هذه الشقة ليكون مبنى النساء الأربع في روايتي. الشقة كانت نقطة بداية في حياتي كفرد، شيء يشبه الرواية الأولى. أول رصاصة سمعتها وأنا في فراشي في تلك الشقة الصغيرة. أول تجربة مع الموت عشتها في هذا المبنى حين انهال على سريري أثناء الليل كمٌّ هائل من الحصى والأتربة بسبب قذيفة أصابت جدار الشرفة. كذلك أول تجربة مع الحب.
كما كانت حياتي موزعة بين «البيروتين» و«الجبلين»، كذلك أتت كتابة روايتي الأولى


قد يكون أجمل شيء حدث أثناء كتابة «باء مثل بيت ...» هو أنني لم أكن متأكدة أنني أكتب رواية
كان لا بد للعودة بعد انتهاء الحرب الى ذلك المكان وجعله بطلاً مكانياً في الرواية، ولم أكتف بذلك المكان، بل جعلت واحدة أو اثنتين من شخصياتي تزوران البلدة حيث الموت كان قريباً أيضاً ولزمنٍ طويل. كأنني عبر الرواية كنت أزور الأماكن التي أصيبت روحُها مثلي. عدت إلى تلك الأماكن لا لتذكرها فحسب، بل لأقبل موتها أو موت علاقة ما معها، ولأنهي حداداً طال. لكن الخسارات لا تُمحى. تتراكم فوقها خسارات أخرى ننشغل بها عما سبق.
نساء أربع. رقم 4 قد يشكّل زوايا جدران تحمينا من عنف الخارج. تردّدت كثيراً في أن أضيف الشخصية الخامسة في الرواية ( خوسيفا) كشخصية مستقلة ثم تراجعت. شعرت بأن تلك المرأة تملك حرية روحية تتجاوز فيها الشخصيات الأربع اللواتي تعرفهن. ثمة سعادة نائمة بداخلها كأنها تحوي العالم أجمع بروحها وبكفيها. هي تعرف كل واحدة منهن، تعرف حياتها وتاريخها. إلا أنه لا أحد يعرف الكثير عن خوسيفا. بقيت حلماً في الرواية، مبتغى لم يصله أحد.
المسافة كانت ضيقة جداً بين الشخصية وبيني ككاتبة في الرواية الأولى. كنت أشعر باختناق سببه تلك العلاقة العضوية. من الصعب التحرر من الشخصيات أثناء كتابة رواية أولى. لا نلعب معها تماماً كما نفعل لاحقاً وفي تجارب إبداعية أخرى. كاميليا الى حد ما هي أنا... تلك التي حرّرتها الحرب من السلطات كلها تقريباً: الدين والمدرسة والأهل. أعطتها الحرب وهم حرية وسلبتها الأمان. مع كل تلك التغيرات في حيوات الشخصيات النسائية ومع كل سلوك لأي واحدة منهن هناك موقف ما. موقف الكاتبة التي هي أنا من الحرب والسلطة والفقدان والانقسام والسياسة. هناك موقف من كل ذلك، عبّرت عنه بطريقة مرتبطة بتجربة وزمان ومكان.
من الصعب التذكر من أين جمعت شخصياتي. شيء يشبه الـ «Patchwork» أو الكولاج.
إحدى شخصيات الرواية، وردة، التقيت بها في نيقوسيا عام 1989 وتحمل الاسم نفسه. امرأة ضائعة أوصلها ضياعها الى حافة الانهيار. خسرتْ كل شيء، البيت والعائلة وحتى الأولاد. ما عادت تملك سوى خيالها وجنونها، ووجدتها تدخل بكل قوة إلى روايتي. ثم بدَت، أثناء كتابتي للرواية، كأنها إناء بلّوري لا أدري أين أضعه كي لا ينكسر. لكن في النهاية عمدت الى كسره. وجدت نفسي مع وردة أمام حائط مسدود. ذلك أن الجنون قد لا يجد من يوقفه. يغدو من الصعب حتى على من رسم الشخصية اللحاق به. إلا أنني بقيت أجد خيطاً يشدني الى وردة. هي الجنون الذي انتبهتُ إلى أن لا أقع فيه. أدرتُ العبث و«التروما» خاصتي بحكمة أكثر من وردة. بأقل تصديق لما يُقال. هي ماتت، أما أنا فنفدت بجلدي. بكيت كما لم أبك من قبل حين ماتت وردة. انتحرت بطريقة شكسبيرية رائعة. ماتت غرقاً متوهمة أنها تركض نحو الحياة. مهى، الشخصية الرابعة، قد تنجو بنفسها أيضاً لا أعلم. مع «باء مثل بيت ...»، لم أقف لأتامل أو حتى لأراجع ما أكتب... كنت أشعر بأنني إذا توقفت قد أخسر حياة، قد أموت مثلاً كما ماتت وردة. فقط في تلك اللحظات كنت أعلم أن عليّ ألا أتمهل. لكن رغم ذلك، تبقى طبيعة العلاقة مع النص الأول مختلفة عن أي علاقة تالية قد تبنيها مع الكتابة. في النص الأول، ليس لديك حق كامل على الشخصيات. كأنها هي التي تريد القول لا أنت. إعادة صياغة جملة ما وردت على لسان إحدى الشخصيات قريب من الخيانة.
قد يكون أجمل شيء حدث أثناء كتابة «باء مثل بيت ...» هو أنني لم أكن متأكدة أنني أكتب رواية. أن تكتب لتخرج الألم منك دون التفكير بما ستفعله بتلك المادة التي تراها تنمو وتكبر أمامك على الورق. وُلدتْ «باء مثل بيت...» دون أب، دون اسم ودون قرار بموضوعها وأحداثها. في الساعات الأخيرة قبل أن أرسل النص إلى الطباعة والإخراج ثم إلى المطبعة، كنت محتارة هل أرمي النص في سلة المهملات أم أدعه يرى النور؟ هذه تجربة من المستحيل أن تتكرر. يختلف الشعور في الرواية الثانية والثالثة وتلك التي أنجزها الآن. العلاقة أكثر نضوجاً، لكنْ ثمة أمر ناقص لن أستعيده أبداً أثناء الكتابة. قد يكون هذا الناقص هو ما يجعل من الكاتب محترِفاً!