يتبع رايموند هينبوش في كتابه «تشكيل الدولة الشموليّة في سورية البعث» (رياض الريس ـــ ترجمة حازم نهار) الذي يتوزع على عشرة فصول، منهجاً تفكيكياً، بحيث يقارب حالة البعث السوري من زاوية تاريخيّة، وينطلق من الأرض حتى يصل إلى خلاصات محايدة في ظاهرها، ومعترضة في جوهرها على الطابع الشمولي النهائي للدولة. وفي ضوء الراهن، قد يخرج القارئ بخلاصات غير كافية، ذلك أن الكتاب بنسخته الأصليّة (قبل الترجمة) صدر في 1999، أي قبل الأزمة، وقبل وصول الأسد الابن إلى السلطة، لكنها قد تكون خلاصة وافية، لتكوين صورة عن «كوجيتو» بعثي، لا يلحظ غير البعثيين والمقربين منهم في أي من مواقع السلطة، على قاعدة: أنا بعثي إذاً أنا موجود.
وإن كانت أجهزة حزب البعث ـ حسب هيبونش ـ لا تعدو أكثر من كونها نسخة باهتة عن النموذج اللينيني، بحيث أن البناء الأساسي للحزب كمؤسسة يلحظ دوره «الطليعي»، بالمعنى اللينيني الدقيق للطليعيّة، على أن يقوم البعث بتجديد طبقة النخبة بكوادر ايديولوجيّة ملتزمة، مهمتها «قيادة الثورة من الأعلى». وهذا الـ«كوجيتو» المُفترَض، هو نتاج التباينات السوسيولوجيّة في بنية المجتمع السوري، واصطدامها بالتجربة البعثية بعد «الحركة التصحيحيّة» التي قادها الرئيس حافظ الأسد. منذ «تشكل المجتمع السوري عبر التاريخ»، انقسم «موازييك» المجتمع هناك إلى حشدٍ كبير من العائلات المتنافسة المتمتعة باكتفاء ذاتي، والعشائر والقبائل وسكان الأرياف والطوائف الدينيّة والمجتمعات العرقيّة، وقد ترافقت هذه «الشرائحيّة»، مع ثقافة عصابويّة لمصلحة المجموعة. ويلحظ هينبوش خلال رحلته الطويلة بين «الدولة ونخبة السلطة في ظل النظام القديم» و«الشعبويّة الاستبداديّة وتشكيل الدولة في ظل البعث»، عوامل طبقيّة قد تكون حاسمة في صوغ المشهد العام برأيه أحياناً. في حين سيطر الإقطاعيّون بعد الاستقلال على البرلمان والمجموعة الضيقة التي جاء منها السياسيّون (رؤساء ووزراء)، حيث تمحورت السياسة لوقتٍ طويل حول التنافس بين التحالفات الإقطاعيّة للحصول على المكتسبات، جاء حزب البعث كأحد راكبي موجة التغيّرات التي ترتكز إلى ظهور «طبقة وسطى» في سوريا. ورغم أنه لم يكن قوة معارضة راديكالية في سوريا ما بعد الاستقلال، فقد كان الأكثر أهميّة، لأنه كان نموذجياً في صياغة التحالف الشعبوي القادر على إحداث التحويل في سوريا، وينتهي الكاتب إلى هذا، في معرض القراءة، لا الموافقة على الآليات والنتائج.
في الواقع، حملت تلك المرحلة اسم «التصحيح» لأن ما قبلها كان خراباً، غير أن «التصحيح» في الحالة البعثية اصطلاح بدلالة لفظيّة، بحيث تنامى الخراب إلى درجة لا يمكن تصحيحها. وهذا تاريخي وسجالي في آن، بما أن الفصيل النخبوي، الذي جلبه الأسد للحكم، بعد «الحركة التصحيحيّة»، لم يكن من الممكن تمييز تركيبته الاجتماعية من الراديكاليين. وكان كلاهما متقاطعاً طائفياً، عبر تحالفات عسكريّة متمدنة بقيادة ضباط سياسيين علويين. وعلى مراحل، تمت الاستعاضة عن النُسق الطبيعيّة للشرعية، بإيديولوجية مُهجنة من عروبة شعبويّة وإسلام سياسي بأسس اجتماعية ضاربة في جذور المجتمع السوري، لم يتمكن البعث من تجاوزها، بل حاول مسايرتها والاتساق معها، منذ لحظات البناء الأولى، وإن كان البعث في بداياته واعياً لعاملين أكثر أهميّة في بناء المجتمع السوري. في بداية عهد حافظ الأسد، كان المجتمع يحتفظ بتركيبة من مجموعة قطاعات مستقلة، يبرز فيها المثقفون اليساريون الراديكاليون، والنقابات المهنيّة، وقد أضاف إليها البعث طبقة جديدة، تزامنت مع صعوده، وإن لم يكن موافقاً على جميع عناصرها. إلى جانب ضباط الجيش الكبار، كانت الطبقة البورجوازية صاحبة تأثير في بدايات حكمه.
نظام ذو رئاسة قومية عامة، يدعمه الجيش

وخلاصة «البدايات» حسب هينبوش، هي أن صعود الأسد كان مؤشراً حاسماً لانتصار الجيش على النخبة المثقفة الراديكاليّة، وهي خلاصة يسبقها قراءة طويلة لدور الجيش السوري في مأسسة شرعيات سلطات ما قبل البعث.
في عرضهِ، يحاول الكاتب الاستكلندي أن يكون منهجياً، وأن لا يقفز عن العوامل المؤسسة لصعود البعث وتأسيس دولته الحديديّة، كالموروث الطبقي والصراع بين البورجوازية والفلاحين في مجموعة مجتمعات محليّة اكتشفت أنها «دولة» بعد الاستعمار. غير أن أبرز هذه العوامل، من الناحية العملانية على الأقل، هو الجيش السوري. الجيش، الذي تركب على نحوٍ تراكمي، وخضع بفعل الزمن لعمليّة جعلته راديكالياً ومسيساً، يختلف في عهد حافظ الأسد عما كان عليه قبله. والرئيسان الانقلابيّان بدورهما، أديب الشيشكلي وحسني الزعيم، اللذان يتحدران من الطبقة الوسطى، لديهما جذور اجتماعيَة مختلفة عن حافظ الأسد، الذي جاء من مكانٍ مختلف في الهرم الطبقي السوري. وهذه «الهيرارشية الماركسيّة» ضرورية لفهم التحولات في دور الجيش، كمدخل لقراءة المنظومة الأمنية التي حرست النظام خلال عهد الأسد، وسمحت لسيل التناقضات الطويل بفضح زيف العقد الاجتماعي السوري. في أكثر من مكانٍ من الكتاب، واستناداً إلى مصادر أكاديميّة، يظهر التفوق العلوي داخل الجيش، وحصوله على امتيازات اتخذت طابعاً بنيوياً، مع شرح وافر لسيل التجاوزات على مستوى الاستبداد والفساد، من دون أن يفيد هذا طبقة الفلاحين العلويين بشيء. والحال أن الشباب العلويين ما قبل البعث، تأطروا في «أحزاب الطبقة الوسطى الراديكالية»، والبعث أبرزها، بحثاً عن «مجتمع أكبر»، يستطيعون من خلاله مواجهة «المؤسسة السنية» بالايديولوجيا. وعندما جاءت الايديولوجيا، صار «التأطير» عشوائياً، وأخذ مشروع «الدمج» البعثي للطبقات طابعاً هزيلاً. انهار عند أول احتكاك مباشر مع الإسلاميين في حماه. بيد أن ذلك لا يعني أن العلاقة بين الأسد والإسلاميين كانت متوترة بالفطرة كما هو شائع. يؤكد هينبوش أن حافظ الأسد، عندما قاد فصيلاً بعثياً، يدعو إلى إنهاء الاستقطاب الاجتماعي، «قدّم له الإخوان المسلمون والتجار الدمشقيون دعماً ضمنيّاً. وبعد اسكاته العلمانيين المتطرفين، كان الأسد يتصرف كمسلم متدين، وأدخل صيغة دينيّة ملمعة في الشعائر العامة، وكرّم علماء الدين بمراتب شرف ورواتب أعلى».
يشبّه هينيوش البعث السوري في الثمانينيات بالنظام «البونابرتي»، مع إضافات «خاصة»: تقوده رئاسة قومية عامة، ويدعمه الجيش والبيروقراطية وحزب بطابع شعبي جماهيري، كما أنه نتاج ثورة «أفقيّة» ونسل نظام طبقي جديد أعاد إنتاج البورجوازيات القديمة بصيغ أكثر هشاشة، وتالياً، يقف في الأعلى بدلاً من أن يتنحى جانباً بين الطبقات الاجتماعية. والحال أن تلك الطبقات هي التي انفجرت منذ آذار (مارس) 2011. غير أن الانفجار، هذه المرة، كان كبيراً، والتغلغل الأجنبي، وجد ما يبحث عنه، في «الموزاييك» السوري، الذي أعيد تشكيله بصلابة أكثر، وتعززت النزعات الشوفينية في ثناياه، خلال عهد الدولة الشمولية في سوريا البعث.