لم يكتفِ الطوفان السوري بما لديه من جرائم الغزو، إذ تتناهب البلاد ضباع الجيف من كل صوب منذ سنوات. أفرز حطام الجغرافيا، ما تسميه حسيبة عبد الرحمن «غزو المصطلحات ـــ المجتمع المدني السوري نموذجاً» (كراسات البوصلة ــ برلين). غزو لا يقل وطأة عما يفعله المسلحون على الأرض. مصطلح برّاق مثل «المجتمع المدني» يتحوّل هنا إلى نقيضه، تحت وطأة الفضائح التي طالت معظم المشتغلين فيه. الوقائع التي تسردها إحدى أقدم المعتقلات السوريات (رابطة العمل الشيوعي)، تميط اللثام عن جرائم حقيقية، أطاحت بكل تعريفات المجتمع المدني، من أفلاطون، مروراً بجان لوك، وروسو، إلى غرامشي. ذلك أن «النموذج السوري» أنتج مصطلحاً هجيناً، يصعب تأطيره في سياق تاريخي صريح، نظراً إلى الاشتباك والالتباس بين ما هو مدني وأهلي، قبل أن ينتج ظاهرة مركّبة ثلاثياً (العولمة، النيو ليبرالية، التصحيح الهيكلي) وفقاً لأطروحات صموئيل هنتنغتون.
تلفت عبد الرحمن إلى أن زبغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر دعا منذ السبعينيات إلى وجوب اهتمام الولايات المتحدة «باختراق الحركات القومية والمثقفين، وحتى المزيّفين منهم في بلدان الأطراف، بهدف انتزاع المثقفين من حركات التحرر الوطني»، وتالياً، تفريغها من هؤلاء المثقفين، فتصبح الحركة الجماهيرية بلا رؤية. بصعود ظاهرة العولمة وسيطرتها على كل المجالات، «تعولم المجتمع المدني» ليؤدي دوراً فعّالاً في «الثورات الملوّنة» التي اجتاحت أوروبا الشرقية أولاً، فقرّر الاتحاد الأوروبي الاعتراف بالمجتمع المدني كشريك فاعل في التنمية. هكذا زحف مصطلح المجتمع المدني إلى سوريا متأخراً، إذ كان المشتغلون به، منهمكين في العمل لمصلحة «لجان الدفاع عن حقوق الإنسان» (1989)، بعد انقطاع عقود عن العمل في هذا الشأن. تستعرض الباحثة السورية تاريخ الجمعيات الأهلية السورية، إذ يعود تأسيس أول جمعية أهلية («جمعية ميتم قريش الخيرية») إلى العام 1880، ليصل عددها أيام الاحتلال الفرنسي إلى 600. جمعيات استمرت في العمل خلال مرحلة الاستقلال، بصدور «قانون الجمعيات»، ليتراجع دورها بعد صعود «حزب البعث» إلى السلطة. حينها، تم ربط المنظمات النسائية والشبابية والنقابية بالسلطة السياسية، إضافة إلى استحالة ترخيص جمعيات جديدة، فانتشرت ظاهرة الجمعيات والمنتديات غير المرخّصة، أبرزها «لجان إحياء المجتمع المدني». اندلاع الانتفاضة السورية (2011)، تكشّف عن «العجز والغياب الفعلي لمنظمات المجتمع المدني»، وتبيّن أنها «أسماء من دون محتوى».
تنطوي الوثائق المعلنة على فضائح مخابراتية من العيار الثقيل

لكن تحوّل الانتفاضة إلى العمل المسلّح فرض مهمات جديدة في العمل المدني مثل الإغاثة، والإيواء، والتعليم، ما أدى إلى تشكّل جمعيات مدنية (إغاثية، وحقوقية، ونسائية)، تدور في فلك التجمّعات السياسية. تلفت حسيبة عبد الرحمن إلى أن هذه التجمعات «أخذت شكلاً استعراضياً لافتقادها إلى المقومات المجتمعية، ولأن القوى المسلحة، الإسلامية خصوصاً، كانت تريد الاسم فقط، فانقضّت عليها، واعتقلت بعضاً من ناشطيها، وهرب آخرون». كما أسهم تدفّق الأموال في تكاثر الجمعيات والمنظمات المدنية، تحت عناوين إنسانية برّاقة، للهاث وراء المال والثراء في المقام الأول. وتتوقّف عند تجمّع «تماس» (التحالف المدني السوري) الذي يضم نحو 50 منظمة، بوصفه أحد أهم تعبيرات منظمات المجتمع المدني في سوريا. بفحص بسيط لوثائقه وأهدافه يتبيّن أن مقاصده سياسية أكثر منها تعبيراً عمّا هو مدني، وذلك للبحث عن دور سياسي مستقبلي، والهيمنة على التمويل الخارجي، رغم غياب فاعليته على الأرض. أما سمات هذه المنظمات فيمكن اختزالها في ثلاث نقاط: «معظم هذه الجمعيات تشكّلت في دول اللجوء السوري، وأنشأت فروعاً لها في الداخل»، والسمة الثانية هي «الفساد وسرقة الأموال والمواد الإغاثية»، والثالثة «فقدان الاستقلالية». وفي ما يخص السمة الثانية، سنقع على فضائح كبيرة في ملفات الفساد، من موقع خيبة الأمل لما آلت إليه هذه الجمعيات، بناء على ما كتبته بعض مواقع المعارضة السورية نفسها. في مجال الإغاثة، لا تتوقف الحال عند سوء الإدارة، بل تتعداه إلى نهب المواد الإغاثية وإعادة بيعها، بوجود أربع حلقات أساسية تحصل على حصتها بذريعة توزيعها على مستحقيها، وهي: دولة العبور، الكتائب والقوى المسلّحة، وسطاء أعمال الإغاثة والدعم الإنساني، ومؤسسات ولجان وجمعيات الإغاثة في الداخل. المعضلة لا تنتهي عند هذا الحد، فمعظم المواد الإغاثية، منتهية الصلاحية (فضائح اللقاحات والأغذية الفاسدة)، إضافة إلى حصار المدن وتقطيع أوصالها، ما يخلق أجواء من الفساد والكوارث الإنسانية. في تقرير آخر أصدرته «وحدة الشفافية» في المنظمة السورية للاجئين، يصف أحدهم لجان الإغاثة، بأنها «شبكة متكاملة من اللصوص في الداخل والخارج». إذ تعبر شحنات الإغاثة معبر باب الهوى على الحدود التركية (تحت أضواء الكاميرات)، ثم يعاد تهريبها إلى تركيا، وبيعها هناك لتجّار أتراك. على المقلب الآخر للفساد، نجد أكثر من 100 منظمة في «غازي عنتاب» مهمتها تدريب الناشطين، لكنها، في واقع الحال، تقوم بدورات وهمية لأناس غير معنيين، بقصد الربح المادي. إحدى الوسيطات في الداخل تشترط على من ترسلهم للمشاركة في هذه الدورات، الحصول على ما يأخذونه من مواد داعمة ومعدات تصوير وحقائب إعلامية. كما كلّفت إقامة رئيس الائتلاف خلال زيارة إلى أميركا، مدة عشرة أيام، بقصد الحصول على إعانات مالية لثوار حمص المحاصرين 220000 دولار، فيما حصل كل مقاتل على 156 دولاراً عن سنتين. ويتساءل أحدهم بحسرة: «أين ذهبت 9 مليارات من المساعدات؟». فساد منظمات المجتمع المدني، وفقاً لما تقوله الباحثة، ينخر على الضفتين، إذ تطال شبهة الفساد جوانب من عمل «الهلال الأحمر السوري»، وبعض الجمعيات الأهلية، خلال توزيع المساعدات الأممية للشعب السوري. وتؤكد تقارير أن 90 في المئة من هذه المساعدات لا تصل إلى مستحقيها، بل تُباع إلى تجّار السوق. في ما يخصّ الاستقلالية في عمل منظمات المجتمع المدني، تشير حسيبة عبد الرحمن إلى اختراق أجهزة المخابرات الدولية، ومراكز الأبحاث عمل هذه المنظمات «أينما يوجد تمويل، توجد شروط يفرضها الممولون». مع اندلاع الانتفاضة السورية، تدفقت أموال ضخمة لبعض هذه المنظمات، من أطراف عالمية وخليجية، وبدلاً من العمل على الحاجات المحلية الملحّة، كان الاهتمام ينصب على قضايا حقوق الإنسان، والعدالة الانتقالية، وطرق إدارة البلاد، وكتابة تقارير عسكرية وسياسية واقتصادية. الوثائق المعلنة عن عمل منظمتي «آرك»، و«آفاز» تنطوي على فضائح مخابراتية من العيار الثقيل، عن طريق توجيه بوصلة الاهتمامات نحو شؤون لا تدخل في صلب العمل المدني، مثل التخطيط الاستراتيجي، والدراسات الجغرافية عن توزّع حقول النفط، ومحطات الطاقة، والكهرباء، وأهداف غامضة تتكشّف تدريجاً. يروي أحد الذين خضعوا لدورة تدريبية عن «اللاعنف» في بيروت، أن هذه الدورات «تبعدنا عن السلمية»، في تدخلّات تصب في مصلحة الدول المموّلة، بالتنسيق مع «المجلس الوطني»، و«الائتلاف»، و«المجلس العسكري»، وإذا بنا حيال فساد تبادلي بين المنظمات المحليّة والعالمية، وأن واقع الحال يطيح بالصورة الأصلية المعلنة لعمل هذه المنظمات، بكشوف وهميّة، وصراعات شخصية على المصالح. ولعل الايجابية الوحيدة في هذا السياق، تنبّه الباحثة السورية، هي تخطي البلاد مفهوم الجمعيات الأهلية، إلى جمعيات المجتمع المدني، وانخراط المجتمع السوري في العمل المدني، وهذا ما افتقدته سوريا لعقود.