عادةً ما أعتبر الأرشيف ليس إلا ذلك الضريح المقام بين المدافن. وكل عودة إليه تُعدُّ فعلاً جنائياً يقوم على فتح الجنازات القديمة من أجل إعادة جدولة الموت، أو للاستعانة بعينات من الـ «DNA» للبحث في شأن يخص الحياة الشخصية لكائن ما.
كتابي الشعري الأول «ذبحت الوردة... هل ذبحت الحلم» الصادر في دمشق عام 1977، كان ثمرة من ثمار الجحيم، لأن نصوصه كافة كانت من مواليد حكم الإعدام الذي صدر وقتها بحقي عام 1975 في العراق. فهو شعر خرج من مجرى الموت ليعيش وينمو في تربة جسدٍ لم يكن يقوى على مواجهة حكم بإعدام الوجود. لذلك لم يكن أمام القصائد أن تتعرف إلى اللغة إلا من خلال التفاصيل الحافلة بالنفي وبالعدم. فكل تشكيل فني لبناء هذا المقطع أو ذاك، كان يجرى ضمن معيار واحد: الخوف.
كنت أبحث عن قارئ خائف هو الآخر من مصير أسود قد يكون بانتظاره، ليؤمّن لي ذلك التفاعل الحار ما بين كلمات يائسة وبين قارئ منهك، وذلك من أجل أن يتم استكمال الطقوس الخاصة، حيث يتم فيها معهُ تبادل بهجة الخراب وطيورَ الحواسّ الخربانة وجبال الآلام الحادة التي تُعزّز في الجسد نيران الكلمات المستعرة.
كان كتابي الشعري الأول تأليفاً ممتلئاً بكل مبتكرات الخنق والتعذيب النفسي، وكنت وقتها ذلك الطفل السومري الذي يخرج من الأساطير، ليجلس بمفردة إلى مائدة الهلاك الحكومية.
أن تعود إلى الزمن الفائت، فذلك أمر شبيه برفع الغطاء عن مقبرة زمنية، ولكنه في الجانب الوثائقي تمرين على تجميع حطام الذاكرة واستحضار مخلوقاتها التي ربما استنفدت الكثير من مخزونها الخاص بالطاقة والأوكسجين والتحايل على النصوص القديمة، من خلال نفض الغبار عنها في محاولة، ولو موقتة، لإعادتها للحياة في مجرى الزمن المعاصر.
لغة كتابي الأول إذاً كانت مزيجاً من الفاشية والرومانسية معاً. الفاشية المقولبة بالإرهاب والدم الذي أغرق العراق، ومن رومانسية ساخنة تائهة تقاذفتني بين العديد من الطبقات الجمالية، فلم تجد لها مستقراً فيما بعد إلا في آبار الأساطير والأمكنة المنتجة للبلاغة والفلسفة والمهدئات السريعة للعزاء الشخصي المستنسخ عن ثورات النفس المتراكمة تدهوراً وفصاماً وتشتتاً ووهماً.
ما الذي يمكن أن يفعله شاعرٌ لم تنلْ المشنقةُ من رقبته سنتمتراً، ولا السجن ساعةً، لأنه أفلت من الاعتقال وعقوبة القتل، فاجتاز حدود العراق، ليُحكم بعدها من قبل محكمة الثورة بالإعدام غيابياً في القضية رقم 2638 بتاريخ 28/5/1975 بتهمة التآمر ومحاولة إسقاط نظام الحكم؟!
هل يتحمل الشعرُ هاجس الإعدام عملياً أو نظرياً، ليكون بمنأى عن تلك المرآة التي يرى الموتُ فيها نفسه في الداخل الباطني للشاعر وذاته النموذجية لذلك الهلاك المرتقب؟
في النقد أو في الثرثرة العامة للكلام العابر للوقائع، يمكن أن تُنظّر فتكتب: أن الفرق ما بين السجين السياسي وبين المحكوم بالإعدام ضئيلٌ جداً. فالأول غرفةُ إعدامٍ للوقت، فيما الإعدام للثاني هو نهايةٌ للزمن البيولوجي للجسد. ولكن تأليفاً كهذا لا يقطع حبلاً لمشنقة، ولا يُبعد موتاً من رقبتك. إلا أنه بالتأكيد يؤسس في الباطن الإنساني طبقة لغوية خالية من الأوزون. طبقة جيولوجية من آلام تنبع منها مياه سوداء وفئرانٌ وزلازل ومخلوقاتٌ مسكونة بمختلف صنوف الرعب والفاقة والأنين والبؤس.
كانت تجربتي في كتابة الشعر آنذاك، تجربة متمزقة لغة وحواساً ووجوداً، فالهارب من الإعدام – الذي يسكن في داخلي – لم يستطع السيطرة على هياج نصوص كانت تخرج من التربة القلقة، لتهذي على الورق فتُحرقه من الأسى، ممهدةً لأفضل التعابير التي تليق بتيار المقبرة. كان على الشعر أن يؤسس لذلك التيار، فهو الأقوى مثلما كان ولا يزال في التاريخ العربي. فالموت في الشعر طاقة تعبيرية تحمل تأثيرات اللغة بالمكونات الأبعد للكون بشموسه وكواكبه ونجومه وكهوف غباره الأسود.
لم يكن كتاباً شعرياً وحسب،
بقدر ما كان سجناً حاولت فيه الكلمات التمدد إلى خارج الغرف المظلمة

كنتُ خليطاً عجائبياً من جميع أنقاض المدارس السلفية: الدادائية والسوريالية والواقعية والرمزية والرومانسية والانحطاطية والبوهمية، ولكنني لم أمنح مدرسة ما بعينها ملكية اللغة التي أكتب بها، بعد أن وجدتُ نفسي مُحرّراً من كل الذنوب والعقوبات التي فرضت علي من كبار المعلمين في العالم الغربي والشرقي على حد سواء.
كل المدارس الأدبية استعملت العصا والسوط، عندما أرادت من النصوص أن تمشي على صراط اللغة المستطيل، حتى وإن حاولت الادعاء بعدم ضرورة الالتزام بالقواعد والقوانين الفنية التي كانت تُرسم للمؤلف.
ولكن الشعر دائماً... رافضيٌ محنّكٌ لشروط أهل سقيفة الآداب الرملية.
ما إن نُفذ حكم الإعدام بـ 19 شخصاً من خلية معارضة لنظام الحكم في العراق، وكنت فيها الرقم (20) الذي نجا من الموت وحيداً، حتى قررتُ طباعة كتابي الشعري الأول، بعد أن اتخذت له عنوان «ذبحت الوردة... هل ذبحت الحلم» عام 1977.
اقترح عليّ صديقي القاص الراحل جميل حتمل، وكان وقتها يكتب في جريدة «المسيرة» التي كنت أعمل فيها مسؤولاً للقسم الثقافي، أن يقوم الفنان يوسف عبد لكي بتصميم الغلاف. وهو ما تم بالفعل، فقد صمم طبعة الكتاب الأولى بالاسم الفني المستعار «نيوسفسكي». أما الطبعة الثانية للكتاب نفسه، فقد كانت من تصميم الفنان أحمد معلا وباسمي الحقيقي.
أما سبب وضع اسم «نيوسفسكي» مؤلفاً على غلاف الكتاب، فقد بدأت الفكرة بأن التركيز على الاسم ليس ضرورياً، بقدر ما كانت الضرورة تقتضي أن يذهب الشعر للناس ويفضح الفاشية وديكتاتورية الدم. أضف إلى ذلك أن أجهزة النظام العراقي السابق كانت جادة وعملية بمطاردة شعراء العراق وكتّابه في المنافي. لذلك كان لكلٍّ منا اسمه الحركي الذي يستخدمه في الكتابة، من أجل دفع الأذى عن عائلاتنا الموجودة في الداخل. وهكذا جاء اسم «نيوسفسكي» تجميعاً لحروف من الاسم الحقيقي الكامل.
أتذكر مرةً أن الشاعر السوري الراحل محمد عمران قام بنشر قصيدة لي في «ملحق الثورة الثقافي» آنذاك باسم «نيوسفسكي» مع صورة شخصية لي، وهو ما أثار حذق الشاعر الراحل ممدوح عدوان الذي علق على الاسم ممازحاً محمد عمران: إما أنك تريد قتل أسعد بالكشف عن صورة صاحب الاسم المستعار، وإما أنك تريد أن تضيف للروس شاعراً من قبيلة «الجبور»!
في أثناء طباعة الديوان في دار «الكاتب العربي» الواقعة في شارع خالد بن الوليد قرب الإطفائية. كانت ترافقني حبيبتي وزميلتي في العمل الصحفي الشاعرة فاديا الخشن، حيث كنا نراقب عمليات التصحيح والتنضيد والطباعة والتغليف بنشوة عارمة. كان ذلك قبل زواجي بها بعام، ولذلك كان الإهداء الأول لها.
«ذبحت الوردة... هل ذبحت الحلم» لم يكن كتاباً شعرياً وحسب، بقدر ما كان سجناً شُيِّد على كل صفحة من ذلك الورق. سجن حاولت فيه الكلمات التمدد إلى خارج الغرف السحيقة المظلمة، مثلما فعل ذلك الفنان يوسف عبد لكي، عندما أقحم قدم الحصان خارج لوحة الغلاف.
ومثلما كنت أبحث عن نقاط من الأوكسجين، كانت الكلمات والصور والتعابير تفعل ذلك. الديوان كما أراه اليوم، وثيقة لأحداث جرت ولا تزال تجري بصوت عالٍ في أوردتنا. سأختطف من الكتاب هذا المقطع: «إني أتحملُ عبء الحرب في العالم/ لا لأني ماو. كيسنجر. أو علم يرفرف فوق الكرملين/ إذا أن أية رصاصة تطلق في وجه الإنسان/ تكون موجهة لي بالذات/ ولكي يكون كيسنجر بريئاً، بات عليه جلياً أن يذهب/ إلى إحدى الاستديوهات الصوتية ويكبس مخّهُ على هيئة أسطوانة/ من البلاستيك/ فقد شهدتُ طائر البحر يُشنق على أعمدة الكهرباء/ وسمعتُ «بدغورني» من إذاعة موسكو وهو يتلو الفاتحة على جثة «لين بياو»/ وقرأتُ في ذاكرة كولن ولسن تفاصيل عن عشق «إليزابيث» في حي سوهو./ وتعلمتُ كيف أكون معقولاً أو لامعقولاً عند دخولي «بلفاست» أو حين مروري قرب متاريس القصر الجمهوري/ فالمرحلة الراهنة من هذا العالم/ لا تجعل من أمي إلا امرأة درويشة/ تعلّقُ في عنقي التعاويذ والخرز الملونة/ بدلاً من أن تلصق على وجهي منشوراً سريّاً/ وتطلقني كلباً مهووساً، يطوف زقاق «الحيدرخانة»/ ويلوذ بين فروج العاهرات عند شعوره بالتعب/ أو بملاحقة شرطي للأمن».
وهكذا إذاً، مضت الكلمات في مجرى اللغة، تعبئةً لذلك الظلام الفاشي الأحمر، قابلها الشاعر برومانسية تقدّحت هي الأخرى بفيروسات الغربة والاغتراب والنوستالجية عالية الأنين، لتصنع كتاباً اختلط فيه السيف بالوردة بالحلم برأسي الذي ما زال البنك الأعظم لمخيلة المطلق. فكل قصورٍ في التَّخَيُّل، توسيعٌ لحلقات العدم في النصّ.
* شاعر عراقي مقيم في الدانمارك