حسن بلاسم *تركوني وحدي!
قالوا: انتظر هنا.. سنتصل بك لاحقاً... لا تتجاوز حدود القرية!
بدا أن الأهالي قد هجروا القرية منذ وقت قريب. ثمة عنزات ما زالت تتجول هنا وهناك. لم أكن أدري كم سيطول انتظاري. تسكعت داخل البيوت المهجورة لقضاء الوقت. كنتُ أشعر بالتعب. لست متأكداً إذا كان النوم ما زال ضمن نطاق حياتي الجديدة. صعدت إلى سطح أحد البيوت وألقيت نظرة على الجوار.

كان دخان المعارك يتصاعد من البلدات المجاورة، ومروحيتان عسكريتان كانتا تقطعان خط الأفق. حقول القطن تحيط بالقرية من كل الجهات. لم يُقدر لي من قبل أن أرى زهرات القطن. ربما شاهدتها في البرامج الوثائقية والافلام. لا أذكر تماماً! قضيت حياتي أعمل في مخبز ثم سائق تاكسي وأخيراً حارساً في سجن. هربت من عملي الأخير حين اندلعت الثورة. التحقت برجال المقاومة وقاتلت حتى النفس الأخير. بدت زهرات القطن وكأنها ندف ثلج اصطناعية وإلا لكانت أشعة الشمس اللاهبة سيّحت كل هذه الحقول. ثم لمحت فتاة جالسة على سطح أحد البيوت القريبة. انتقلت الى جوارها. من المؤكد أنها لا تراني. كانت بشرتها محروقة من كثرة التعرض لأشعة الشمس. كانت تسرّح شعرها الطويل بمشط أخضر، وتجلس على تخت خشبي صغير. نادت امرأة من حوش البيت:
«ابقي تحت الشمس... لا تتزحزحي من مكانك»!
أطلقت البنت تنهيدة وغطت وجهها بيديها
انتقلتُ الى جوار المرأة
عيونها منتفخة، يبدو أنها لا تأخذ حصتها الكافية من النوم. كانت في أواسط الثلاثين من العمر. قروية بجسد مكتنز وحركاتها نشيطة وعصبية. تبعتها الى داخل البيت. جلستُ قبالتها على كرسي مغطى بصوف خروف. كانت تشاهد الأخبار في التلفزيون. ما زالت المعارك الوحشية والمرعبة تدور بين قوات النظام ورجال المقاومة. ذبح واغتصاب وتشريد وحرق وحتى إن بعضهم أكل أكباد القتلى.
رحت أفكر في الأسباب التي منعت المرأة والفتاة من الرحيل. لقد هجر أغلب الناس مدنهم وقراهم ولجأوا للبلدان المجاورة. كانت الكلاب تنبح مسعورة. انتقلت الى خارج البيت وشاهدت أكثر من 20 كلباً مربوطاً أمام الباب الخارجي. عادت المرأة الى حوش البيت ونادت مرة أخرى على الفتاة:
«سوسن... انزلي الآن ... الرز والحساء في المطبخ».
راقبتْ سوسن المرأة من سياج السطح وهي تغادر البيت. كانت تحمل حبلاً. تبعتها أنا. أخذت أصوات مدفعية النظام تصل من بعيد وهي تدك البلدات المجاورة. دخلت المرأة الى زريبة أحد البيوت المهجورة. لم يكن هناك سوى كلب خائف يجوب الزريبة وكأن به مسّ من الجنون. أخرجت المرأة من جيبها فخذ دجاجة باردة وألقتها أمام الكلب. التهمها بشغف. مسدت المرأة على رأسه، ربطته بالحبل وقادته الى الخارج.
عدتُ إلى جوار الفتاة. كانت تضع رأسها أسفل حنفية الماء في حوش البيت، لتبريد رأسها من حرارة الشمس. جلستْ في ظل شجرة تفاح وراحت تبكي. ربطت المرأة الكلب أمام البيت مع الكلاب الأخرى، وجالت ببصرها في أرجاء القرية الساكنة. جلستُ أنا فوق أغصان شجرة التفاح، ورحت أفكر بعودتهم من أجل مساعدتي في العبور الى الجهة الأخرى. آمل أن لايتأخروا! تأملت العصافير والتفاحات وشعر الفتاة المبلل. مجرد مفردات من الحياة التي عشت فيها 34 سنة. ليس زمناً طويلاً. لكنني غير نادم. كنت شجاعاً، وسيتردد اسمي في ذاكرة الاجيال. عادت المرأة إلى حوش البيت وطلبت من سوسن أن تتناول الطعام. صرخت الفتاة غاضبة، فطارت العصافير خائفة. قالت، وهي تبكي وتلطم خدها، بأنها لن تأكل وأنها تفضل الموت جائعة على الموت بسبب لهيب الشمس. أنت أم قاسية ومجنونة! أريد أن أموت وأخلص...
اقتربت المرأة من سوسن وأمسكت بقوة بذراعها. كانت على وشك جرّها أو ضربها لكنها انهارت فجأة باكية وجلست قربها متكئة على جذع الشجرة. ألقت سوسن برأسها في حجر أمها وراحت الدموع تسيل من عينيها. كانت في الخامسة عشرة من العمر. نحيفة وجميلة وفي عينيها نظرة غريبة وكأنها على وشك الغوص في مكان مجهول.
لم أفهم ما الذي يدور!
رن هاتف المرأة الخلوي وراحت الأخيرة تتوسل بالمتصل أن يبحث عن زوجها. تمنيتُ أن أقفز الى جوار المتصل وأكتشف هويته. كان أمر الانتقال سهلاً، لكنهم أمروني أن لا أتخطى حدود القرية. لا يمكنني مخالفة القوانين. سأعبر قريباً وينتهي كل شيء.
مرت الأيام والأسابيع رتيبة. لم يكن أمامي ما أتسلى به في هذه القرية المهجورة غير سوسن وأمها. لم يحدث الكثير. واصلت الأم إجبار سوسن على التعرض لأشعة الشمس على سطح البيت. وكانت تُجري بين الحين والآخر اتصالاً هاتفياً للبحث عن زوجها. ربما تقتحم قوات النظام القرية في أي لحظة. لكن من يهتم. لم تعد الحرب والحياة تخيفني، لقد تحررت، ولم يتبقَّ سوى خطوة واحدة!
خُيّل لي أخيراً أنني فهمت ما يدور بين سوسن وأمها. لم تغادر المرأة القرية، بسبب زوجها. اتصل بها هاتفياً قبل أيام من مغادرة الأهالي للقرية. طلب منها أن تنتظره. قال لها إنه سيهرب. كان يقاتل مع قوات المعارضة في إحدى المدن القريبة. لكن الزوج اختفى. لم يعد يرد على هاتفه. خشيت أم سوسن أن تغادر الى بلد آخر من دون زوجها. هذه المرأة القروية كانت تتخبط في رعبها. لقد انتزعت فجأة من الحياة الأليفة التي عاشتها في القرية طوال حياتها وقذف بها داخل كابوس وحشي. كانت قد سمعت عن جرائم ميليشيات النظام. كانوا يسمونهم «الأشباح» وكان الناس يقولون إن الاشباح يغتصبون النساء وكانوا يفضلون النساء والفتيات ذوات البشرة البيضاء. كان الأشباح قد اقتحموا جميع القرى المجاورة. فكرت الأم بأن تُحرق بشرة سوسن بأشعة الشمس. كانت تُجبرها على الجلوس تحت الشمس لساعات. ظنت المرأة أن الشمس هي ستارة حديدية ضد الاغتصاب. ربما سيتركون ابنتها لحالها لو كانت بشرتها مثل خبز شعير محروق. أخذت المرأة احتياطات أخرى. كانت تملك مسدساً. وكانت تجمع كلاب القرية أمام بيتها. لعلها تخيف كل من يفكر في الاقتراب من البيت. لم تملك سوسن الكثير لفعله. كانت مرعوبة مثل أمها. فكرت في الهروب أكثر من مرة لكنها كانت خائفة وليست لديها أي فكرة عن المكان التي ستهرب إليه.
في احدى الليالي كنتُ ممدداًعلى الكنبة الخشبية القديمة. وكانت الأم تجلس قريباً فوق السجادة، تشاهد الأخبار وفي نفس الوقت تعالج بشرة سوسن المحروقة. كانت تضع كمادات باردة على وجه ابنتها وتطلب منها أن تكثر من شرب الماء. لقد ساءت حالة البنت. انقطع التيار الكهربائي فأشعلت الأم الفانوس، ثم خرجت الى حوش البيت تجري اتصالاً. التقطت سوسن كتاباً سميكاً من طاولة التلفزيون. لم يكن هناك سوى كتابين في البيت. القران وكتاب حكايات من التراث. اشترى والد سوسن كتاب الحكايات كهدية لها حين بلغت سن العاشرة. عادت الأم وجلست قرب سوسن، مكسورة غارقة في همومها. اسمعي يا أمي، قالت سوسن، سأقرأ لك هذه الحكاية:
«كان شمس الدين ملكاً طاغياً، منغمساً في ملذاته ومنشغلاً عن هموم رعيته، وكان له فيل يحبه كثيراً، فلا يسمح لأحد بإيذائه أو التعرض له، يجوب الفيل الأزقة والأسواق، فيحطم كل شيء في طريقه، تضرر أهل المدينة من ذلك، لكنهم لم يستطيعوا فعل شيء خوفاً من غضب ملكهم القاسي. وذات يوم اجتمع سكان المدينة وقرروا مطالبة الملك بحبس الفيل أو نفيه عن البلاد، دخل الجميع القصر فتملكهم الخوف والرعب، وبمجرد أن خرج عليهم شمس الدين محاطاً بعساكره وحرسه تراجعوا نحو الخلف ولولا أن الحراس أغلقوا الأبواب لفرّ الجميع، ساد الصمت المكان فقرر شيخ هرم البدء بالحديث: «سيدي الملك، إن الفيل... »، ثم صمت، ظناً أن الآخرين سيُتمّون الحديث عنه، لكنه وجد نفسه وحيداً.... قال شمس الدين غاضباً: «ماذا أصاب فيلي العزيز؟ تكلم!».‏ فكر الشيخ في طريقه للخروج من ورطته، فقال وهو يرتعد من شدة الحزن:‏ «الفيل يشعر بالوحدة يا سيدي، فهلا أحضرتم فيلاً آخر يسليه»! ‏
ضحك شمس الدين وقال: «أنت على حق أيها الحكيم، أحضروا فيلاً آخر أيها الوزراء»!
جلب الملك فيلاً آخر فازدادت معاناة سكان المدينة، فقرروا الذهاب ليشتكوا للملك مرة أخرى... وكالمرة التي سبقتها، طلبوا من شمس الدين إحضار فيل آخر.‏
توالت زيارات الأهالي إلى القصر وكل مرة يستقدم فيلا جديداً إلى أن امتلأت المدينة بالفيلة، فرحل أهل المدينة الواحد تلو الآخر... وكل من يغادر يلقي اللوم على جُبن الآخرين... حتى خلت المدينة من أهلها، وغدت مرتعاً لفيلة الملك».
ـ ما رأيكِ يا أمي بهذه الحكاية؟
ـ لا أدري يا ابنتي لا أدري... ليس لدينا سوى الله.
واصلت سوسن مطالعة الكتاب، وراحت الأم الى المطبخ وعادت ببعض الخبز ومربى المشمش. فجأة، سمعنا أصوات رصاص في القرية. نفخت المرأة على لهب الفانوس. انتقلت أنا بلمح البصر الى الخارج. كان خمسة مقاتلين من المعارضة يطاردون طياراً. يبدو أنهم أسقطوا مروحيته وقد اهتدوا للمكان الذي هبط فيه بمظلته. لم يكن الطيار يملك سوى مسدس. والرجال كان بحوزتهم الكلاشنكوف ويطاردونه بسيارة من نوع بيكب. مر الطيار من أمام بيت سوسن بعد أن أطلق ثلاث رصاصات. عدتُ الى داخل البيت. كانت أم سوسن مرعوبة. أخرجتْ المسدس من دولاب الملابس وجلستْ قرب بنتها. عدتُ أنا أتبع الطيار. دخل أحد البيوت فحاصره الرجال. نادوه بأن يستسلم. لم يكن أمامه خيار بعد أن نفدت ذخيرة مسدسه. كانت ليلة مقمرة. خرج الطيار مستسلماً وهو يضع يديه فوق رأسه. أحاط به الرجال. ركلوه حتى أسقطوه أرضاً، ثم أمروه بالنهوض من جديد. طعنه أحد الرجال بسكين ثم توالت الطعنات من الآخرين. سقط الطيار سابحاً في بركة دمه. جلب أحد الرجال البنزين من السيارة وأخرج رفيقه هاتفه الخلوي وراح يصور عملية إحراق جثة الطيار. كبّر الجميع باسم الله. ثم عادوا الى سيارتهم وهم يطلقون الرصاص من نوافذ السيارة مبتهجين. مروا بجوار بيت أم سوسن وحين شاهدوا العدد الكبير من الكلاب مربوطاً أمام البيت، دبت الإثارة بينهم. ترجلوا من السيارة وأمطروا الكلاب بزخات الرصاص. ظنت أم سوسن أنهم الأشباح، وأنهم سيقتحمون البيت. أطلقت المرأة القروية رصاصة على رأس سوسن، ووضعت المسدس في فمها. لم يتمكن المسلحون من سماع الرصاصة من داخل البيت، فقد كان رصاص الكلاشنكوف ونباح الكلاب يثيران ضجة كبيرة. خيم الصمت بعد أن مات آخر كلب. قاد الرجال سيارتهم الى خارج القرية. داخل البيت كانت المرأة القروية تجثو على ركبتيها وبين يديها المسدس ومن دون أن تجرؤ على الالتفات الى سوسن التي كانت تحيط ببشرتها المتفحمة بقعة كبيرة من الدم.
مكثت المرأة في مكانها حتى مطلع الفجر. انشغلت أنا لبعض الوقت في مراقبة الكلاب الميتة. كنت أراقب كلباً ما زالت الأنفاس الضعيفة تدبّ في جسده. تخيلت أن روحه ستطلع وتشاركني الانتظار. فتحت المرأة القروية باب البيت الخارجي. كان المسدس في يدها. سارت على غير هدى. تبعتُها. دخلت حقل القطن، وواصلت المشي والذهول يلفها. كان بودي أن أتبعها وأعرف إن كانت ستطلق النار على نفسها، لكنها تخطت حدود القرية، متجهة صوب شروق الشمس.
مرت أحداث عديدة على القرية. اقتحمت قوات النظام القرية. ثم عادت قوات المعارضة للسيطرة على القرية بعد معارك شرسة سالت فيها دماء وبُترت فيها رؤوس. جاءت منظمات دولية إنسانية تبحث عن الأدلة. كانت المنظمات تحصي ارتكاب المجازر من قبل الطرفين، وكأنها حكم يحصي أهداف الطرفين. مباراة دموية يحاول المجتمع الدولي الإشراف عليها من بعيد، عبر تجارة الأسلحة والكذب ودموع التماسيح.
استشهدتُ أنا قبل وصولي إلى هذه القرية. كنت أقاتل مع المجاهدين أبناء الله. كنت قناصاً. طوال عام ونصف وانا أحصد قتلة النظام. قصفوا أخيراً مخبئي بقذيفة من طائرة حربية. أخرجوا جثتي الممزقة وركلوها وبالوا فوقها. لم أكن أهتم لإهانة جثتي. فرحت باستشهادي. سألاقي ربي بوجه حسن. وما أن تحررت من جسدي حتى جاء أخوة كانت لديهم سلطة تنظيم عمليات العبور. قادوني إلى هذه القرية. تركوني وحدي، وقالوا انتظر، سنعبر بك الى الجنة. لا تغادر حدود هذه القرية. لا أدري إن كان الأخوة أنفسهم ينتظرون!
مرّ زمن طويل وما زلت انتظر. أتجول في القرية المهجورة. أتأمل ملابس القرويين، أواني الطعام، ألعاب الاطفال، وعظام حيواناتهم الأليفة الميتة. ماتت حقول القطن أيضاً. كنت أشعر بالملل. ثم دلني السأم على حقيقة قدراتي. أخذت أتنقل مع العصافير فوق الأغصان وعلى سطوح البيوت. أترنح مع الأوراق التي تسقط من الأشجار. ألعب مع الريح وأزحف مع الدود وأشاكس الحشرات. كان بإمكاني فعل أي شيء، من دون هموم ولا جوع ولا خوف. لم تعد الوحدة تزعجني، كانت آخر ذكرياتي عن الحياة الماضية قد أخذت تختفتي. وذات صباح، وأنا أجلس فوق شجرة التفاح في بيت سوسن وأمها، خطرت في بالي فكرة أجهزتْ على مغزى انتظاري: ماذا لو كانت الجنة هي هذه القرية المهجورة!؟
* قاص وسينمائي عراقي
مقيم في فنلندا