«القصيدة مهداة إلى إحميدة العيّاشي»
خمسون عاماً؟
إنها خمسون عاماً، وهي ماثلةٌ، لدَيّ
كأنني في اللحظةِ الأولى
كأني أهبِطُ، الآنَ ...
القطارُ من «الجزائرِ» وهي عاصمةٌ، أتى بي.
إنني في سِيدي بلعبّاس.
قالَ رفيقُنا حِمْراسُ، يشفعُ مَطْلَبي بوزارة التعليمِ:
سوف تكون في بلديةٍ كالمبتغى،
بلديةٍ، يا صاحبي، لرفاق دربِكَ، للشيوعيّين ...
سوف تكون، يا سعدي العراقيّ، السعيدَ
وسِيدي بِلْعبّاس سوف تكون بيتَكَ، أيها المتشرِّدُ!
الآن القطارُ توَقّفَ ...
التبسَتْ عليّ الخطوةُ الأولى.

ولكني سأمضي نحو نُزْلِ المتروبولِ ...
وسوف أدفعُ للموظفِ، ما سأدفعُهُ:
الجوازَ
مزوّراً ...
ويقولُ لي: يا مرحباً، يا شيخُ!
أحملُ، كالرصاصِ، حقيبتي، عبرَ الممرّ المعتمِ.
انتهت المسيرةُ بين بيروتَ العجيبةِ
والجزائرِ.
إنني في «المتروبول»
وإنني في «سِيدِي بِلْعبّاس» ...

■ ■ ■


كان ذلك في 1964

قَسَـماً!
وتعرفُ أن تاريخَ المدينةِ دوَّنَتْهُ شهادةٌ
وهناك مَن كانوا بِـ«وجْدةَ» يأكلون حياتَهم بين البطالةِ والبطاطا...
لا تَضِعْ!
ها أنتذا في قلبِ بِلْعبّاس:
كانت هذه الثُّكُناتُ للدرَكِ الفرنسيّ.
المَراقصُ أُغلِقَتْ./ والعاهراتُ، بلا جنودٍ ما يزلْنَ بذلك المبغى.
وثَمَّ حديقةٌ للناسِ.
ثَمَّ «المسرحُ البلديُّ» ... حيثُ رأيتَ بِنْ بلاّ ،
(عشِيّةَ حِبْسِهِ)!
وتظلُّ تهتفُ، هامساً:
قَسَـماً!

■ ■ ■


هل كنتَ تعرفُ أنّ بِلعبّاس سوف تكون بيتَكَ؟
أنّ ميلادَ ابنتَيكَ هناكَ،
والوادِي، الذي ضحضاحُهُ عفِنٌ، سيملأُ صحنَكَ الفخّارَ بالسمَكِ ...
الحياةُ بهيّةٌ.
والكرْمُ يملأُ كأسَكَ الفخّارَ بالشمسِ التي سالتْ إلى حافاتِها،
ورديّةً .../ قَسَماً!

■ ■ ■


قد كنتَ تدخلُ «لامْبِيانْس» الحانةَ:
السردين يُشْوى
والرِّميتي،
والحلازينُ المملّحةُ ...

■ ■ ■


الدروبُ طليقةٌ،
سيكون في «الفرْساي» بيتُكَ!
Les Versailles ...

■ ■ ■


كنتَ، أحياناً، ترودُ جزائرَ الأعماقِ ...
تمضي في ترابِ الريفِ:
بَسْكرة. تْلاغ. سيدي ابراهيم. معسكر. عين البرد. سفيزف
بو حنيفيّة. تسالة. سيدي لحسن. ريو سالادو. مَغْنِيّة.
عين البرد. رأس الماء. سيدي خالد. باريّا آلتو. سيدي علي بوسيدي.
سيدي خالد. العمارنة. زروالة. سيدي حمادوش. غليزان.
بور ساي ...

■ ■ ■



المرافئُ، إذْ تعودُ مع المساءِ، مراكبُ السمَكِ ...

الحياةُ بهيّةٌ ...
قَسـَـماً!

■ ■ ■



إنْ كانت الأقدارُ أرحمَ ...
إن نجَوتَ،
وإنْ ترفّقَت الرياحُ، ورقَت الأمواجُ حتى أوصَلَتْكَ هنا
إلى فردوسِ بلعبّاس ...
إنْ كان المقامُ مقدّساً
فلِمَ ارتحالُكَ؟
أيُّ جِنٍّ قد ألَمَّ بكَ؟
الرحيلُ!
ألم تَقُلْ: قسَماً؟

■ ■ ■



غادرْتَ، بِلْعباسِ، ممسوساً، وأخرقَ ... تقطعُ البحرَ المحيطَ، وتقطعُ المتوسِّطَ، الجبَلَ العظيمَ. تبيتُ ليلَكَ في مخيمِ بلدةٍ من بعدِ أخرى. تُرْهِقُ الأطفالَ، تثملُ في المرافئ ... تقطعُ الصحراءَ مندفعاً، تقود كناقةِ البدويّ ما سميتَه سيارةً. وتنام عند الفجرِ منحنياً إزاءَ المِقْوَدِ. الأفقُ العجيبُ يقولُ: بغدادُ! الخرائطُ سوف تلمِظُ ... إنها بغدادُ، بغدادُ.
انتبِهْ!
قد أقبلَ الشُّرطيُّ
& الحزبيّ ...

■ ■ ■



والآنَ؟
تنأى، مثل ما تنأى بنا الأحلامُ، بِلْعبّاس ...
أنتَ الآن في ريفِ البحيراتِ الغريبةِ
وسْطَ غاباتٍ
وأوديةٍ ...
لقد راحَ العراقُ،
ورُحْتَ، أنتَ، متوَّجاً بالشوكِ.
أنتَ، الآنَ، تهدأُ.
أنتَ تهدأ.
أنت، بِلْعَبّاس ...
فارفَعْ كأسَها
واهدأ
لأنك لم تُغادِرْها، وإن شطّتْ بكَ الأيام ...
قَسَماً!
لندن 04.01.2015
* شاعر عراقي