«لا أحد يفهم. لا أحد يريد أن يفهم. ما الذي دهاه هذا العالم العربي والإسلامي؟ الجميع ضد «شارلي إيبدو»؟ عجباً!… لماذا لا يريد هؤلاء أن يفهموا؟ نحن نرسم ما نريد، ونسخر مما نريد. لن يعلّمنا أحد ماذا علينا أن نفعل. ما الخطب؟ لا شك أن العطب في الإسلام نفسه (!)». هكذا يفكّر الآن «الرجل الأبيض».
كلما علت نسبة الراديكاليّة والحدّة في الخطاب الفرنسي والغربي حول «حريّة التعبير» و«العلمانيّة» (بأيقونتيهما نتنياهو وأردوغان)، ترتفع بشكل مواز، في المقلب الآخر، وتيرة الرفض والإدانة وعدم الفهم. يزداد رفض «الغرب» على ضفتنا، والشعور بالظلم والأذيّة، ويترسّخ الاعتقاد بأن ما يجري مؤامرة كونيّة («ماسونيّة، صهيونيّة، صليبيّة») ضدّ الإسلام، أي ضدّ معتنقيه في المصاف الأخير. رغم النقاش الخجول الذي بدأ في فرنسا حول العلاقة الجدليّة بين الحريّة والمسؤوليّة، يخيّل إلينا اليوم بعد مجزرة «شارلي إيبدو» وكل ما تلاها من نقد وتنظير ومزايدة واحتواء، أن الشرخ يتسع بين كتلتين عملاقتين: هناك «المتحضرون» و«البرابرة»، أنصار الحريّة وأعداؤها، الخير والشرّ. «استمع أيها الرجل الصغير»… عليك أن تفهم. عليك أن تبذل جهداً إضافيّاً كي تفهم. هذا الذي عانى ويعاني من كل أشكال الاستغلال والقمع والتجهيل والطمس والتهميش، والسياسات الاستعماريّة التي سرقت ثرواته، وصادرت حقوقه، وسدّت بوجهه سبل التقدّم والحريّة والعدالة، ينظر إليه الرجل الأبيض اليوم من عليائه. السيّد ينتهر العبد من على صهوة الجواد، وسوطه يصفر في الهواء: أما آن لك أن تصبح «متحضّراً»؟
المناخ المعادي للإسلام في فرنسا اليوم ليس نتيجة الجريمة الإرهابيّة ضد صحافيين ورسامين سلاحهم التهكّم، بل بالعكس تماماً. هذا العنف الأعمى، اليائس، الذي دفع الأخوين كواشي إلى الهاوية، ردّ فعل على قهر مديد لا أحد يريد أن يعترف به ويفهمه، لا أحد يجرؤ على مواجهته. مناخ الإسلاموفوبيا أو رهاب الإسلام الذي شهده بلد موليير في السنوات الأخيرة تكريس سافر للشرخ. «إن الآخر الهمجي يخيفني ويشكل خطراً عليّ»: لم يعد هذا شعار اليمين المتطرّف، بل بات خطاب نخبة كتّاب، من نجوم الحياة الفكريّة والإعلاميّة. ومن سخرية القدر أن تصادف جريمة شارلي مع يوم إطلاق رواية ميشال ويلبيك (الصورة) «خضوع» التي هي تجسيد نموذجي لأبلسة الإسلام. بمعزل عن أسلوبه الخاص، وسخريته المبطنة، ولغته التي تتنفس اليومي، لا يتمكّن الكاتب المميّز من مغالبة عنصريته وخوفه من هذا «الغول» الذي سيلتهمه. كابوسه الهاذي يصوّر - من خلال كليشيهات وأحكام مسبقة وغوغائيّة مشبوهة - اللحظة الوشيكة التي سيحكم فيها الإسلام فرنسا! روايته ليست بعيدة عن كتاب سبقه بأشهر لإريك زيمور بعنوان «انتحار فرنسي»، يرصد «انهيار فرنسا» بعدما فقدت قيمها وهويّتها أمام الغزو الإسلامي. قبل عامين، صدر كتاب فظيع لعضو الأكاديميّة الفرنسيّة سليل «الفلاسفة الجدد» وصديق الانعزالية اللبنانية، الفيلسوف الصهيوني ألان فينكلكراوت، بعنوان «الهوية المقهورة»، يسير فيه على خطى رونو كامو صاحب نظرية «الاستبدال الكبير». فرنسا باتت محتلّة بسبب توسع المهاجرين الذين يأخذون مكان السكان الاصليين. زيمور يرى أن الحل بإعادة الخمسة ملايين مسلم من حيث أتوا. ويلبيك يحذّر من المستقبل الفظيع الذي سيشهد وصول محمد بن عبّاس الى الإليزيه. الأخير كاتب حقيقي، بارع في تصوير زمنه ومجتمعه. هل العلّة في روايته الخطيرة، أم في المجتمع المأزوم الذي يرتدّ على حلقته الأضعف؟