يعتبر الكاتب والدبلوماسي كلوفيس مقصود من الشخصيات المتمسكة بمبادئها رغم التحولات السياسية التي شهدتها العقود الأخيرة. تحضر معه العروبة وفلسطين أينما حلّ. ليس من السهل الإبقاء على هذا الزخم العروبي مع نسيان العرب لقضاياهم الكبرى. يضم «من زوايا الذاكرة ـــ محطّات رحلة في قطار العروبة» (الدار العربية للعلوم ناشرون ـــ بيروت) عصارة عمر كامل أمضاه مقصود مدافعاً عن هموم لبنان والعالم العربي. يرتقي عمله الجديد إلى مستوى المادة التأريخية. لا يحتوي على ذاكرة ذاتية، مع توافر بعض ملامحها في ثنايا الصفحات. يقدم سفير الجامعة العربية السابق إلى الأمم المتحدة وواشنطن في رحلته، شهادة على العصر، انطبعت مراحلها بإيمان عميق بالعروبة. تصفه الأديبة الجزائرية انعام بيوض في كلمتها عن الكتاب بـ»سيزيف العرب في زمن ميثولوجيا الخذلان وملاحم الانبطاح». كتب أمين جامعة الدول العربية السابق عمرو موسى تمهيداً له تحدث فيه عن تقاطعه مع «لحظات فارقة في تاريخ العرب».

وزع الكتاب على تسعة فصول انطبعت كلها في التحقيب الزمني المتدرج بدءاً من البدايات وسنوات الدراسة (1926 _ 1951) وصولاً إلى عقد التحولات الصاخبة (2000 _ 2013). تحتل الأحداث السياسية الممتدة على مدار ستة عقود ونيف الجزء الأكبر منه. يروي مقصود كيفية تشكل وعيه السياسي في المجال الوطني والقومي الذي اكتسبه من تجارب مختلفة في المدرسة والجامعة. يتحدث صاحب «أزمة اليسار العربي» عن بداية نشاطه السياسي. يتداخل التدوين مع الإحالة على الأجواء العربية العامة المرافقة له. تزامن عقد الأربعينيات، الذي أمضاه مقصود بين التعليم والنشاط الطلابي، لا سيما في واشنطن التي غادر إليها لإكمال دراسته في الحقوق، مع متغيرات تاريخية مفصلية أهمها صعود المدّ القومي العربي وحركات التحرر ضد الاستعمار، ونكبة فلسطين (1948) وهزيمة الجيوش العربية أمام المشروع الصهيوني.
بعد عودته إلى لبنان (1951) تكثف عمله السياسي. انتسب إلى الحزب التقدمي الاشتراكي وكان له عمله الحزبي وتجاربه ورحلاته إلى دول القرار: روسيا والصين والهند ويوغسلافيا. يشير مقصود إلى ذاكرته المشتركة مع كمال جنبلاط التي شهدت حالاً من المدّ والجزر حكمها اختلاف المواقف، غير أنها حافظت على صلابتها الوطنية والقومية. تحضر سوريا في ثنايا الكتاب برموزها المعارضة والانقلابات التي عرفتها.
يتوقف عند المعارك التي خاضها من أجل كسب الشرعية الدولية في خدمة القضايا العربية

يكشف الكاتب عن علاقته السياسية مع مصر حين كان في الحزب التقدمي الاشتراكي. يسرد حادثة طريفة جرت معه خلال لقاء غير متوقع مع الرئيس جمال عبد الناصر. آنذاك، تلقى دعوةً لزيارة القاهرة بعدما مُنع من دخولها بسبب احتجاجه على إعدام عناصر من الإخوان المسلمين عام 1954. أبلغه كمال رفعت، أحد رجال تنظيم الضباط الأحرار، أن عليه الذهاب «فوراً إلى لقاء مع الريس». دار الحديث الذي امتدّ لعشر دقائق حول كتابه «نحو اشتراكية عربية» الذي تضمن توصيفاً لـ «ثورة يوليو» (1952) بأنها انقلاب. بادره ناصر في بداية الحوار قائلاً: «عامل شيخ عروبة واسمك كلافيس، ما تغير اسمك يا خوي». رد عليه فوراً: «سيادة الرئيس اقترح بديلاً: فقال: قحطان».
في الفصل الثالث، يتناول صاحب «معنى الحياد الإيجابي» ثورة 1958 في لبنان وقيام الجمهورية العربية المتحدة. يضعنا في الخلفية السياسية المحلية والإقليمية التي آلت إلى اشتعال التظاهرات الداعية إلى استقالة الرئيس كميل شمعون، والاحتجاجات التي حملتها المعارضة رداً على تقربه من حلف بغداد الذي ترافق مع أجواء الوحدة التي أعلنها عبد الناصر بين سوريا ومصر. يتحدث بكثير من الفخر عن الوحدة بين سوريا ومصر مفنداً الأخطاء التي أدت إلى نهايتها رسمياً عام 1961 إثر انقلاب عسكري في دمشق بعد صراع معلن بين عبد الحميد السراج وعبد الحكيم عامر حول الصلاحيات.
شكلت الهند (1961 _ 1966) محطة مهمة في مسيرة مقصود السياسية حين انتدبته الجامعة العربية لتمثيلها. كان همه تعزيز العلاقات الهندية _ العربية، سياسياً وثقافياً، من دون أن يخفي اعجابه بنهج الحياد الايجابي التي اتبعته القيادات السياسية هناك في مرحلة عرفت ذروة الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. يروي تفاصيل علاقته الوثيقة مع جواهر لال نهرو، أحد زعماء حركة الاستقلال، وأحد الآباء المؤسسين لحركة عدم الانحياز العالمية بالشراكة مع عبدالناصر والرئيس اليوغسلافي جوزف بروز تيتو.
يؤرخ مقصود للفترة التي أمضاها في القاهرة بين 1966 و1973 إثر انتقاله إلى مقر جامعة الدول العربية. بدأت علاقته تتوطد مع محمد حسنين هيكل الذي خصّص له مكتباً في الطابق السادس من مبنى مؤسسة صحيفة الأهرام التي كتب فيها مقالات عدة. مثلت تجربة مصر منعطفاً جديداً حيث عرفت الفترة الممتدة على مدار سبع سنوات الكثير من التحولات السياسية والانعطافات والهزائم، تأتي في طليعتها نكسة حزيران 1967 وما تركته من ندوب في الذاكرة الجمعية العربية.
يتحدث صاحب «أفكار حول الشؤون الأفروآسيوية» عن تداعيات حرب تشرين 1973. يفصل الكلام عن حملته الإعلامية في الولايات المتحدة بتكليف من الجامعة العربية لشرح الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية وتوضيح الأسباب الحقيقة وراء قرار حظر النفط الذي تحول إلى سلاح سياسي. تعكس اللقاءات والمقابلات والمقالات التي كتبها في صحف أميركية خلال قيامه بمهمته حجم الصور النمطية التي يحملها الرأي العام الأميركي تجاه القضايا العربية، لاسيما القضية الفلسطينية. التحول الطفيف في التوجه الأميركي رافقه ضغط من قبل اللوبي الإسرائيلي الذي شن حملة إعلامية مضادة في الصحف ووسائل الإعلام الأميركية، من ضمنها مقال نشرته صحيفة «جويش برس» بتاريخ 21 حزيران (يونيو) 1974 تحت عنوان «كشف نوايا الأعداء»، اختتم بعبارة: «دهاء مقصود وخطورته والحاجة إلى من يتصدى له».
يرى مقصود أنّ اتفاقية كامب دايفيد (1979) ليست سوى نتيجة حتمية للسياسة الأحادية التي انتهجها أنور السادات منذ قراره زيارة القدس المحتلة وخطابه في الكنيست الإسرائيلي. اعتبر أن تداعيات الاتفاقية خلفت تبعات سياسية خطرة لعل أهمها: فرض مصر السادات كأنموذج سياسي يقتدى به في المنطقة، وسقوط الخيار العسكري من معادلة المقاومة مقابل استقواء الكيان الصهيوني عسكرياً.
كانت رحلته الدبلوماسية كسفير للجامعة العربية في الأمم المتحدة وواشنطن الأغنى في تجربته. يشير إلى التحديات التي واجهته طوال أحد عشر عاماً، والمعارك التي خاضها من أجل كسب الشرعية الدولية في خدمة القضايا العربية. عمل مقصود عندما كان سفيراً على جبهات عدة فكرية وسياسية ودبلوماسية. تحتوي هذه الفترة على تفاصيل سياسية كثيرة وعلى متغيرات عربية وإقليمية ودولية.
في العمل الأكاديمي، أسس مقصود «مركز عالم الجنوب» في الجامعة الأميركية (واشنطن). أقام المركز الذي جذب إليه الطلاب نشاطات ومؤتمرات عدة تهتم بأهم المشاكل التي يعاني منها العالم الثالث. يصف الفترة الممتدة بين عامي 2000 و 2013 بـ «عقد التحولات الكاسرة» التي شهدت تنامي الإرهاب والفوضى في العالم العربي والتراجع التراجيدي للقضايا القومية العربية وزعزعة المعادلات والتوازنات في الإقليم. «من زوايا الذاكرة» ليس مجرد تحقيب لفترات سياسية متعاقبة فحسب. بل إنّه يحتوي على أرشيف تاريخي، حيوي ومأسوي، في مرحلة زمنية ممتدة على نحو ستة عقود، عرفت متغيرات كبرى عربياً ودولياً.