ترجمة لطفي السيد منصور
في عام 1986، صدر كتاب «فن الرواية» لميلان كونديرا. وقد جاء الكتاب في سبعة أجزاء توزعت محتوياته ما بين المقال والمحاورة، إضافة إلى الكلمات/ المفاتيح لعالمه الروائي. في الجزء المعنون بـ «في مكان ما هناك» صدّره كونديرا بهذا المقطع من إحدى قصائد الشاعر والروائي يان سكاسل:
«لا يخترع الشعراء القصائد/ فالقصيدة موجودة في مكان ما، هناك/ منذ زمن طويل جداً هي هناك/ ولا يفعل الشاعر شيئاً سوى أن يكشف عنها».
وهكذا بدا أن كونديرا يرى أن ثمة روايات عظيمة- كانت قد أهملت من وجهة نظره- هي في مكان/ أماكن أخرى أو في عصر/ عصور أخرى. من بين هذه الأماكن/ العصور القرن الثامن عشر. القرن الروائي العظيم الذي شهد أكبر قدر من الحرية، سواء على مستوى الشكل الروائي أو على مستوى الفكر/ الأفكار التي تجد مكانها في الرواية ولا تكون عبئاً عليها. إنه القرن الذي يغلب على رواياته اللعب/ المزحة؛ هاتان القيمتان الأثيرتان لدى كونديرا. قرن ديدرو/ جاك القدري ولورانس ستيرن/ حياة وآراء تريسترام شاندي. الإيروسية، الهيدونيزم L’hédonisme (مذهب المتعة)، اللذة، اللعب، المزحة، الحرية... روايات، قيم وموضوعات على الروائي أن يستعيدها، ولكن من خلال شكل جديد يبتكره هو ليتناغم معها ومع هذه اللحظة وهذا المكان؛ حتى وإن جاءت من مكان آخر.
هنا ترجمة لحوار مع ميلان كونديرا أجراه جي سكاربيتا، وهو كاتب فرنسي من أصل إيطالي (مواليد عام 1946)، ويعمل أستاذاً للأدب والسينما بجامعة ريمس (reims) بفرنسا، كما أنه روائي وسيناريست وناقد ورسام.

■ذكرت في كتاب «فن الرواية»، بخصوص رواية «تريستام شاندي» لـ ستيرن ورواية «جاك القدري» لـ ديدرو «أنهما اثنتان من قمم الخفة اللتين لم تُبلغا لا من قبل ولا من بعد ». ما الذي جعل، وفقاً لك، القرن الثامن عشر، فيما يتعلق بالرواية، فترة استثنائية؟
ـــ ليس فترة استثنائية. ولكنه حتى الآن قرن عظيم جداً للرواية. لقد شهد حرية شكلية أكبر من القرن التالي، وكانت روح الجديّة أقل هيمنة فيه.
■ فيم تعتبر نفسك، في كتاباتك الروائية وريثاً للقرن الثامن عشر؟
ـــ على الخصوص من خلال الحضور الدائم للفكر، للتأمل، في الرواية. ولكن الموضوع ليس مجرد مسألة القدرة الفكرية من جانب الروائي. بل هي أيضاً مسألة شكل. الأمر يتطلب نوعاً من البنية تجد الفكرة فيها مكانها. هناك شكلان روائيان مسيطران على القرن الثامن عشر: الأول، الشكل الناتج عن رواية البيكاريسك القديمة؛ أثناء تطور هذا الشكل، تبنى السارد حرية عظيمة للغاية. «الحق في أن يقوم بعمل استطرادات عندما يروق له»، كما كان يقول فيلدنغ. ولقد بلغ هذا الشكل مهارة لُعَبيّة عند ستيرن وديدرو، ولذا تلعب القصة دوراً ضئيلاً مقارنة بالاستطرادات وبألعابهم النارية. الشكل الآخر، ولد في منتصف القرن الثامن عشر، رواية الرسائل. ولقد أتاحت هذه البنية أيضاً حرية شكلية كبيرة للغاية، لأن الرسالة، وبشكل طبيعي جداً، يمكنها استيعاب كل شيء: تأملات، اعترافات، ذكريات، تحليلات سياسية، أدبية...إلخ. للأسف لم يجد هذا الشكل الرائع روائيين رائعين مثله. وها هي إحدى الفرص الضائعة في التاريخ الفني. إن رواية الرسائل الوحيدة التي تعتبر حقاً بمثابة رواية عظيمة هي رواية لاكلو(■)
ميزة أخرى نضيفها لهذا الشكل: بالضرورة، تُحكى رواية الرسائل من خلال العديد من الشخصيات، القصة (story) تُنظر إذاً من خلال عدة زوايا؛ نتوصل ( أو بالأحرى، قد نتوصل، إن كان هناك مؤلفون عظام لروايات الرسائل) لمماثلة هائلة للواقع (مماثلة الواقع هذه، في رأيي، تكون بمثابة الأساس الأونطولوجي لفن الرواية). لقد كنت دائم التأثر بالروابط الشكلية التي تربط رواية لاكلو «علاقات خطرة»، و«بينما أرقد محتضرة» لفوكنر.
تغير هائل في الشكل في بداية القرن التاسع عشر: تتمحور الرواية بشكل جذري حول حبكة واحدة، دراماتيكية البنية، متخلصة من كل ما هو ليس ضرورياً للقصة (story). منذ ذلك العصر بدا التأمل بوصفه عنصراً غريباً على الرواية، وحنق النقاد على الروائيين الذين يجرؤون على التفكير عبر رواياتهم: «ليست رواية!»، أو «إنه أذكى من أن يكون روائياً!».. إلخ. أنت تعرف الأغنية.
حتى نعود إلى سؤالك: العودة إلى أشكال الرواية في القرن الثامن عشر، بطبيعة الحال، مستحيلة (أو قد يكون الأمر ذا طابع كريه من المعارضة الأدبية). إذا ما شعر روائي معاصر بحاجته لمنح بُعدٍ تأملي كبير في روايته، لن يستطيع إجراءه من دون ابتكار أشكال جديدة، غير مسبوقة.
■ تشير دائماً في «فن الرواية» إلى نص فيفان دينون (■) باعتباره «أحد روائع النثر الفرنسي». هل لك أن تخبرنا أكثر قليلاً عن هذا الإعجاب؟
ـــ الموضوع العظيم في القرن الثامن عشر: اللذة. الهيدونيزم. قيمة اللذة. لكن أيضاً، صعوبة، بل استحالة الهيدونيزم. لاكلو: الإيروتيكا باعتبارها لعباً. لكن اللعب سرعان ما يصبح منافسة والمنافسة تصبح صراعاً من أجل السلطة. وأين تكون اللذة عندما نصارع؟ لا شيء أسرع زوالاً، وبعيد المنال، من اللذة. فقط مُدّعو الوعظ يرون الهيدونيزم في كل مكان. في واقع الأمر، ليست في أي مكان. فعند الرومانتيكيين، ستضيع تحت سيل العواطفية.
في عصرنا عبادة التطفل والوقاحة ليس لهما علاقة بالهيدونيزم، على العكس، على العكس. إن قصة «النقطة التالية» لـ فيفان دينون هي أجمل درس عرفته في الهيدونيزية. شخصية مدام ت.... هي، بطريقة أو بأخرى، الضد ميرتوي (■). تعيش مع بطل الرواية الشاب ليلة حب تنغلق مجدداً خلفها متعتهما وكأن شيئاً لم يكن قد حدث قط. في الصباح، اضطر الشاب أن يرى كلاً من زوج وعشيق مدام ت...، لكنه لا ينتصر. اقتنع العشيق أنه استُخدم من الشاب ليصرف انتباه الزوج، وحتى لا يكون لديه، بالنسبة له، أي شك. وعلى العكس من ذلك، في نظره، الشاب لعب دوراً مثيراً للسخرية إلى حد ما. هنا المتعة والغرور منفصلان كلياً. بل أكثر من منفصلين. متباينان. متناقضان. هنالك حكمة هذه القصة. النقطة التالية: حكاية حول اللذة المحض.
■ يمكن أن نحدد، في مقالاتك كما في رواياتك، سلسلة من المتناقضات. من ناحية: نموذج اللعب، الإباحية، الفكاهة، الأناقة. من ناحية أخرى: نموذج الحقيقة، الحب المتأجج، (أو الرومانتيكية)، التفكير الملتزم، الكيتش. فلنقل بشكل آخر: القرن الثامن عشر في مقابل القرن التاسع عشر. نحن محكومون بأن تتكرر هذه المواجهة ثانية وبلا نهاية.
ـــ لا أقابل بصرامةٍ قرناً بآخر. القرن التاسع عشر ليس مجرد قرن التفكير الملتزم، لكنه كذلك قرن فلوبير أكبر ناقد للفكر الملتزم. والقرن الثامن عشر ليس مجرد قرن الإباحية، بل أيضاً قرن الرومانتيكية التي بدأت حينئذ. ومع ذلك نكون بتربيتنا أبناء القرن التاسع عشر، أبناء الرومانتيكية والكيتش، وأقل بكثير من أن نكون أبناء فلوبير. بالتالي فهم القرن الثامن عشر (خاصة جانبه الإباحي) يصنع لنا صعوبات. على سبيل المثال، النسخة السينمائية من «علاقات خطرة» من إخراج ستيفان فريرز، والتي سنحت لنا فرصة مشاهدتها مؤخراً. أحس المخرج بحاجته لتقديم تفسير لشرّ مدام ميرتوي. لقد قام بالتلميح ضمنياً أنها كانت قد عاشت حباً تعيساً. لأن الجرح العاطفي فقط هو القادر على جعل الشر محتملاً بالنسبة لأطفال الكيتش. تقريباً يبرره. لكن ذلك، بكل تأكيد، ليس له علاقة بشخصية ميرتوي لاكلو. فالمون، في نهاية الفيلم، وهو يحتضر يعلن عن حبه للرئيسة. هذا بشع. إنه النظر لـ لاكلو من خلال النظارات الرومانتيكية. مُصححاً من قبل الرومانتيكية. توارى لاكلو. اختُلس. أصبح لاكلو آخر.
تأكيداً من خبرتي الطويلة: يخون المقتبسون العمل المُقتبَس ليس من خلال التفاصيل، بل دائماً من خلال جوهره؟ لأن الغريب، من خلال اللهجة، من خلال برودةٍ ما للإعداد، الفيلم تقريباً - لا نبالغ: قلت بالضبط «تقريباً» - فيلم لاكلوزياني.
■ ذكرت، ذات مرة، كيف أن الموسيقى قبل الكلاسيكية، بطريقة ما، تم إحياؤها من قبل الحداثة. أيمكن أن نقول الشيء نفسه، على سبيل المثال، فيما يخص الأدب؟
ـــ أنت تُلمّح للنص الصغير الذي نشرته عام 1989 في عدد مجلة «Infinity» المخصص لفولتير. في العدد الأخير من المجلة نفسها، نشرت كلاماً مرتجلاً تكريماً لـ سترافنسكي. مقال طويل عدت فيه بشكل موسع إلى كل هذه الأفكار. وهذا هو الأمر الذي يغُصّ في قلبي: تاريخ عظيم تماماً للرواية السابقة على القرن التاسع عشر، من رابليه إلى لاكلو، ومن سيرفانتس إلى ستيرن، كان قد ظل مهملاً، نصف منسي، فيما وراء الجمالية الروائية للقرن التاسع عشر. الحداثة الأكاديمية في الستينيات، من خلال تحدي ما يسمى بالرواية التقليدية، لم تُشر، في الحقيقة، إلى الجمالية إلا من خلال مرحلة قصيرة للرواية التي نظر إليها كأقنوم: إنها فترة بداية القرن التاسع عشر. وهكذا لم يحدث إلا تأكيد وتعزيز على أعظم خطأ لرواية القرن التاسع عشر: نسيان العصور السابقة، وما نتج عن هذا النسيان: اختزال المفهوم نفسه عن الرواية. كبار حداثيّي الرواية (جويس، كافكا، موزيل، غمبروفيتش، فونتس) كانوا دائماً مناهضين (بطريقة منهجية أو بشكل عفوي) لهذا الاختزال.
سألتني عن القرن الثامن عشر، لكن عندما أتحدث عن الرواية التي سبقت جماليات بلزاك، أفكر أيضاً، إن لم يكن أكثر من ذلك، في عدة قرون سبقت القرن الثامن عشر. في رابليه قبل أي شيء. أنا مندهش دائماً من تأثير رابليه الضئيل للغاية على الأدب الفرنسي. ديدرو، بطبيعة الحال، وسيلين. لكن بغض النظر عن هذا. أندريه جيد في دراسة استقصائية في عام 1913 يجيب مشيراً إلى أعظم الروايات الفرنسية: الأميرة دو كليف، علاقات خطرة، دومينيك، مدام بوفاري، جيرمينال. الغريب هو غياب رابليه عن قائمة الفائزين هذه. أو بالأحرى رابليه بالنسبة لأندريه جيد هو روائي أقل أهمية من فرومونتان، أو الأكثر ترجيحاً، رابليه بالنسبة إليه، ليس روائياً على الإطلاق: هذا ما أُطلق عليه اختزال مفهوم الرواية نفسه.

■ نُشر الحوار في مجلة (La Règle du jeu) العدد 16 سبتمبر 2015