يضع محسن بوعزيزي مفردة «الإرهاب» على طاولة التشريح، في محاولة لتفكيك آلياتها، وفهم جذورها التاريخية، ومرجعياتها الراهنة. الإرهاب كما يتبدى حاضراً، هو أهم إيديولوجية مدمّرة، بوصفها تتكئ باطمئنان على ثقافة موروثة تنهل من «التقاء وتقاطع بين عنف تاريخي كامن في رحم الثقافة ورهانات خارجية تبحث عن مسالك الهيمنة». في كتابه «الإرهاب والثقافة: محاولة للفهم» (دار نينوى- دمشق)، يربط الباحث التونسي بين ذهنية التحريم التي أفرزتها فتاوى القرن الرابع عشر لناحية اللغة الإقصائية الباترة التي أدت إلى اغتيال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بطعنة خنجر، وصولاً إلى الطعنات اللاحقة على يد تكفيريي القرن الحادي والعشرين، وتالياً علينا ألا نستغرب ما يحدث اليوم في ثقافة لطالما مجّدت إهدار الدم في وضح النهار. لذلك، فإن ما يعصف بالمنطقة العربية من أهوال هو ترجيع لثقافة لا ترى التاريخ إلا في ثباته.
ظاهرة الإرهاب إذاً، هي نوع من «الهايبتوس» وفقاً لتصورات بيار بورديو، تلك المنظومة التي تستند إلى التنشئة الأولى في معنى الثوابت والهوية والموروث المقدّس. بين «إرهاب خارق للواقع» أتى بدفع من إفرازات «الفوضى الخلّاقة»، وإرهاب داخلي ولد من رحم الثقافة الإسلامية، تعيش المنطقة العربية اليوم، أكبر عملية تفكيك ذاتية للدولة. يتساءل بوعزيزي أولاً: «كيف يمكن لمجتمعات شديدة التمسّك بهويتها وثقافتها أن تفعل كلّ شيء لفنائها فتقيم مذبحة لتراثها؟»، ثم يسعى عبر قراءة سوسيو ثقافية إلى تفكيك أركان الإرهاب، أو ما يسميه جان بودريا ر»الجريمة الكاملة»، فالإرهاب كامن في بعض أوجه الثقافة العربية، وفي مقدمها «التحريم»، ومنع «تحرير الجسد»، والرقابة المشدّدة على أدق تفاصيل الحياة اليومية. وتالياً، فإنه إرهاب يومي للجسد فرضه الإسلام السلفي (الجهادي)، وتحرّر منه «الإسلام الصوفي»، في غياب المراجعات التاريخية لآيات الجهاد الواردة في القرآن، من دون مراعاة ظروف التنزيل، واختلاف الزمان والمكان والبيئة، فتمّ الربط بعروة وثقى بين «حلّ الدم والكفر»، وهذا ما يردّده الجهاديون اليوم. وهناك فرضية ثانية أدت إلى انتعاش بذرة الإرهاب تتعلق بإيقاظ ما ترسّب من عنف وتناقض كامنين في الثقافة، وإذكاء صراعات كانت هاجعة في الذاكرة بين المذاهب والقوميات والاثنيات وشحذها مجدّداً على أيدي المغلوبين والهامشيين بقوة «الحلم في خلق قيادة جديدة للبشرية» (سيد قطب). الفكرة ستلتقي مع نسق عولمي ينظر بتبجيل إلى «القدرة التفكيكية الغاشمة»، فيحرّك المخبوء العنفي بإيقاظ الخلايا المحليّة النائمة تحت بند «النار تأكل بعضها»، وصولاً إلى تفكّك المجتمع وانهيار الدولة.

هندسة المسكن هي الوجه الآخر للذهنية المغلقة

المعادلة سهلة، فهي لا تحتاج إلى مثقفين بل إلى شيوخ يهللون للأصول والتطرّف ورفض الحداثة بقصد بعث الخلافة الإسلامية، وترسيخ ثقافة ماضوية صارمة متشدّدة، أسهم خطباء الجمعة في إشعال حطبها اليابس عن طريق فتاوى جاهزة، تلقفها الجهاديون بحماسة، من دون فحص... وكلّها تدعو إلى «تكفير الآخر»، وتضييق سبل العيش عليه بما فيها الشكل المعماري للمسكن، إذ تُلغى النوافذ لمنع النظر إلى الخارج، وكبح جماح الحياة الاجتماعية ومنع الاختلاط. وإذا بهندسة المسكن الوجه الآخر للذهنية المغلقة، مثلما يحدث في بعض مدن المملكة العربية السعودية. هذا الاطمئنان العقائدي بدا كأنه طقس من طقوس العبادة لا يثير استهجاناً، بسبب غياب أي قراءة عقلانية للتراث. هكذا تحوّل الجسد الذكوري المكبوت إلى سلاح، سواء عن طريق حرقه أو عن طريق حزام ناسف، كتعبير عن أزمة الجسد في الثقافة العربية لتعذّر التعبيرات الأخرى، وتالياً استغلال هشاشة هذا الجسد وفقره الروحي في عمليات انتحارية تشجّع عليها منظمات دولية وأشخاص أثرياء، ما أفرز ظاهرة «إرهاب الأثرياء» بوجود آلاف الشباب المحبطين واليائسين والجهلة، واستعدادهم لاستخدام «العنف الشرعي» والجهاد ضد «الطاغوت». وهذا ما عزّز حضور «العنف الجذري»، أو فقدان المناعة أمام الموت. بات شبح الإرهاب عابراً للقارات، باعتماده الوحشية من جهة، والوسائط الرقمية من جهةٍ ثانية. هكذا أضحت الصورة سلاحاً فتاكاً، نظراً إلى قوة تأثيرها. وبمعنى آخر صارت الحرب مشهدية، جمالية، تتطلب أقصى حالات الفتنة البصرية «حرب تنظر إلى نفسها في المرآة» كي تتحقق من قوة إغوائها رقمياً. المهم هنا التقنية العالية في إخراج المشهد وصناعة نمط مثالي للتوحّش بتصدير خصم بدائي مبالغ ببربريته. وإذا بنا حيال «مقاتل سريالي خرج من قاع التاريخ والأساطير»، في حرب بلا معارك، تفتقد المفردات القديمة في القاموس الحربي، وتلجأ إلى الصورة لإثارة الرعب لدى الخصم، والاشتغال على «جمالية الحرب» وإخفاء المعنى القذر لها عن طريق ترويج نسخة خلّابة تقوم على إزاحة الواقع بتسويق خياله.
من جهةٍ أخرى، يرصد هذا الباحث الرصين «تاريخ الدّم وبعض تمثلاته في الثقافة العربية»، مستشهداً بأشعار عنترة والمتنبي والأمثال والنصوص المقدّسة بوصفه شرفاً في المقام الأول. كما أنه طقس عبور «إذا سال الدم، زال الغمّ»، وطريقة عقاب، فنحر الرقبة هو نوع من العبادة والعودة إلى الأصول، ولهذا «عاد الرّجم والذبح وقطع الرأس في بداية القرن الواحد والعشرين» بناءً على رصيد لغوي من التاريخ الفقهي لجهة «التطبيع مع الدم»، بالتوازي مع «الانتشار الأفقي للقوة»، وصعود قوة التخوم والهوامش والطبقات المسحوقة في التعبير عن نفسها وكتابة تاريخ جديد يطيح مقومات التاريخ الرسمي، وتالياً كتابة الثورات من هامشها وليس من جنرالاتها.
هكذا برزت شعارات جديدة لاستعادة الفضاء العام الذي كان محتكراً لمصلحة السلطة المهيمنة، فشعار «ارحل» يعبّر عن تشكّل جديد لموازين القوى، و»قوة التخوم» التي سبق أن أشار إليها ادوارد سعيد في بعض أبحاثه، ما يتيح قراءة سوسيو تاريخية تتجاوز ثنائية المركز والهامش نحو بلاغة خاصة مفارقة لبلاغة النخب، وخطاب هشّ غير مترابط، بعيد عن شعارات الأحزاب، ينهض على التمرّد والاحتجاج، معتمداً على النشاط الالكتروني، والغرافيتي، وتطلعات الإنسان العادي، في بلورة منعطف تاريخي ينذر بتحوّل في كل أشكال السلطة القديمة: «اللحظة الراهنة هي لحظة مجتمع يستعيد قدرته على الفعل في ذاته بصرف النظر عمّا قد يكون في هذا الفعل من تعثّر وخيبة» يقول.
ويعرّج محسن بوعزيزي على نوع آخر من الإرهاب هو «الرقابة» معتبراً إياها سبباً في إجهاض «الفحولة الفكرية»، وترسيخ «التلذّذ بالخضوع»، والإقصاء، والمنع. هكذا تتساوى عادة ختان البنات مع ختان الأفكار المارقة، لأجل وأد اللذة في مكمنها، وحصار الحب من الجهات الأربع، فكلما كان المهيمن «قوياً متحكماً، زاد رصيده الرمزي عند المغلوب»، ما أدى إلى ذيوع ثقافة الاستلاب وشرعنة وجودها، فهي مكوّن أساسي من مكونات «ثقافة لم تعرف الاختلاف، وتراه كفراً وخروجاً عن الملّة».
الخلخلة التي أحدثتها ثورات «الربيع العربي» وفقاً لما يقوله محسن بوعزيزي أطاحت سطوة الرقابة مرحلياً، بانهيار رمزية السلطة، كما كرّست تفكّك آليات الرقابة وغطرستها عبر الإعلام المفتوح على مصراعيه، لكنه يستدرك قائلاً بأنه يصعب تقشير الرقابة من بنيتها الصلبة، وهي اللغة «تلك التي تجعل من البلاغة تبليغاً لشرعية ممارستها. وبقدر المجاز يكون العنف، وتصير الرقابة، بمختلف أشكالها الإخضاعية، اعتباطية غير قابلة للنقاش». نحن إذاً، إزاء ثقافة تنتج الإرهاب باستهدافها المتاحف والفنون، وتبجيل التحريم، وبسبب هذا الاختلال «يأتي الإرهاب سلاحاً للعاجز الذي يرى أحكام عقيدته ولا يستطيع تحقيقها إلا بالترهيب والتخويف والإثخان في القتل، والاستباحة».