«عندما يبدأ الاحتياط الفدرالي في رفع أسعار الفائدة، فإنه يواصل ذلك حتى ينكسر شيء ما»، هذه العبارة شائعة في «وول ستريت»، وهي تختصر الكثير مما يحصل اليوم. فأميركا تقف اليوم على ضفّة زائفة من الأمل بأنها تقدر على إدارة الأزمة ضمن هامش واسع من التحرّك، بينما كان تحرّكها، أصلاً، هو سبب الأزمة التي يُنظر إليها بوصفها أزمة مصرفية، بينما هي في الأصل أزمة في بنية النظام، حيث سيتم تحميل الاقتصاد الأميركي أولاً، ثم في سائر العالم ثمن خيارات بدأت بـ«هندسات» ولا أحد لديه فكرة واضحة عن ثمن نهايتها.
أزمة بنيوية
في واحداً من تصريحاته الأخيرة في مطلع شباط الماضي، استغرب مسؤول الاحتياط الفيدرالي جيروم باول، أن رفع أسعار الفائدة لم يؤثّر سلباً على سوق العمل. قال إن الاحتياط الفيدرالي «مستمرّ في سياسته النقدية المتساهلة برفع الفائدة بنسب ضئيلة، رغم بيانات الوظائف القوية التي ظهرت». بدا باول متحمّساً لزيادة البطالة، باعتبارها المؤشّر الذي يقيس على أساسه مدى «جودة» سياساته ونتائجها. وتصريحه هو ترجمة واضحة للعيان عن تلك المقولة الشائعة في «وول ستريت»، إذ إنه يأمل انكساراً ما في سوق العمل يطمر الأزمة تحت أنقاضه. وبالفعل، حصل الانكسار، إنما في قطاع آخر غير متوقع، أو على الأقل خارج اهتمامات الفيدرالي الأميركي، أي في القطاع المصرفي الأميركي. فكلما رفع «الفيدرالي الأميركي» أسعار الفائدة، ظهرت الأصول المصرفية الرديئة، وهو أمر بمثابة إنذار للمساهمين والمودعين لسحب أموالهم من المصرف. وهذا بالتحديد ما حصل مع «مصرف وادي السيليكون» الذي تهافت عليه المودعون والمستثمرون، من أفراد ومؤسسات، أتيحت لهم رؤية المخاطر المحتملة بعدما تلقّوا تحذيرات من صناديق ومؤسسات مالية وسواها. لم يكون بمقدر المصرف الصمود طويلاً في وجه موجة الطلب على الودائع، فأُجبر على تصفية أصوله بأسعار أقلّ من سعر شرائها الفعلي، مسجلاً خسائر هائلة وتهافتاً إضافياً على سحب الودائع، وبالتالي ضغطاً إضافياً على سيولته.
لم ينكسر هذا المصرف وغيره من المصارف التي لديها خسائر في ميزانياتها للسبب نفسه، صدفة، بل الأمر مرتبط مباشرة بالسياسات النقدية في أميركا التي دفعت أسعار الفائدة على السندات إلى الارتفاع بهدف امتصاص السيولة النقدية الهائلة التي ضخّها «الفيدرالي» أثناء الجائحة. قبلها، كانت سياسات التيسير الكمّي منذ أزمة عام 2008، قد أدّت إلى طبع الكثير من الدولارات وضخّها في الأسواق. في عام 2008، كانت الكتلة النقدية بمفهومها الضيّق (M1)، تبلغ نحو 1.3 تريليون دولار، ثم تضخّمت لتبلغ 19.6 تريليون دولار في كانون الثاني 2023، أي أنه تضاعف 18.6 مرة. انتهت حقبة ضخّ الأموال بتضخّم في الأسعار، تسارع إثر الحرب الروسية - الأوكرانية ليصبح موجة عالمية تستحوذ على أولوية الاقتصادات الكبرى. ومن قواعد «النيوليبرالية»، بدأت المصارف المركزية حول العالم تمارس أحاديتها في التعامل مع تقلّبات الاقتصاد، إلى أن حصل الأمر المحتوم، وانكسر شيء ما في القطاع المصرفي الأميركي.
حتى الآن، ما زالت الإدارة الأميركية المركزية، بمختلف قياداتها، تسيطر على الأزمة. ورغم أنها تسخّفها أو تقلّل من شأنها، إلا أنها تدرك بأنها أزمة كبيرة ونظامية. فهذا الانكسار المصرفي هو الثاني بعد أزمة عام 2008، وأخطر ما فيه أنه يقع على طرف واحد من العقدة الأساسية التي تولّده، بينما ليس واضحاً ما هو مصير الطرف الثاني. إذ إن زيادة أسعار الفائدة تعني المزيد من الانكسار واتّساع الأزمة في القطاع المالي في أميركا وخارجه، أما التوقف عن زيادة أسعار الفائدة فيعني المزيد من التضخّم والخسائر الاقتصادية في وقت خلقت فيه أوّل ملامح الأزمة المصرفية نوعاً من الركود. ما لا يحتاجه الاقتصاد الأميركي حالياً هو الدخول في مسار ركود تضخّمي مصدره آلية عمل النظام كلّه. عندها ستتحقق آمال جيروم باول، بانكسار في سوق العمل، وفي الاستهلاك... باختصار، سيكون الانكسار كبيراً بمقدار التورّم الهائل في طباعة النقود وضخّها في السوق على مدى 15 عاماً.

إدارة الأزمة
رغم حجم المشكلة الكبير، إلا أن إدارة الأزمة متماسكة. قد يكون وراء هذا التماسك أسباب تخفيفية ذات خلفية سياسية. فالأزمة ما زالت في بدايتها، ثم إنه لا يمكن تقديم انتصارات مجانية لكل من روسيا والصين في هذه المرحلة تحديداً. روسيا تمكّنت من فرض التعامل بالروبل مقابل بيع النفط الروسي، وهو ما جنّبها خسائر اقتصادية ضخمة، بينما الصين انطلقت من دول منابع النفط والغاز في دول الخليج وإيران لتعلن نهاية الأحادية الأميركية. هكذا تصبح إدارة الأزمة بكفاءة ضرورة أميركية قصوى.
في هذا السياق، تدخّلت الدولة المركزية في الولايات المتحدة لتوقف الانكسار المصرفي على خطين على النحو الآتي:
- حماية المودعين: بالاستناد إلى «استثناء المخاطر النظامية»، أتيح للمؤسسة الفيدرالية لتأمين الودائع «FDIC» أن ترفع سقف التأمين على الودائع المؤمّنة من 250 ألف دولار للحساب الواحد، إلى كامل قيمة الوديعة في الحساب الواحد. وهذا الأمر يشمل فقط المصارف التي أفلست أو انهارت. طبعاً، هذا الأمر سيتم من خلال وضع يد المؤسّسة على المصرف وتصفية أصوله بالطريقة التي تراها مناسبة. وقد اتخذ هذا القرار من أجل «تجنّب أو تخفيف الآثار السلبية الخطيرة على الظروف الاقتصادية أو الاستقرار المالي»، علماً بأن هذا «الاستثناء» يتطلّب تصويت ثلثَي مجلسَي الاحتياطي الفيدرالي ومجلس إدارة FDIC، بالإضافة إلى قرار طارئ يُصدره وزير الخزانة بالتشاور مع الرئيس الأميركي. أما الخسائر التي ستترتّب على الـ«FDIC»، فسيتم تغطيتها من خلال «تقييم خاص للمصارف كما هو مطلوب من قبل سلطة استثناء المخاطر النظامية».
خسائر المصارف المفلسة ستتحمّلها المصارف الأخرى التي لديها تأمين على ودائعها


- دعم السيولة: بالتوازي مع إجراءات حماية المودعين، أعلن الاحتياطي الفيدرالي أنه سيحصل على دعم من الخزانة بقيمة 25 مليار دولار من «صندوق استقرار الصرف» سيستعملها لدعم السيولة المصرفية من خلال الإقراض مقابل ضمان. سيتم إقراض المؤسسات لمدّة سنة، وفق عمليات السوق المفتوحة، بضمانة السندات التي تحملها. وسيكون تخمين قيمة السندات بسعر إصدارها، رغم أن قيمتها السوقية قد تكون أدنى بكثير. المؤهّلون لهذا الأمر: أي مؤسسة إيداع مؤمن فيدرالياً، (مصرف أو جمعية ادّخار، أو اتّحاد ائتماني) أو فرع أميركي أو وكالة لمصرف أجنبي مؤهّل للحصول على ائتمان أساسي...

حجم الأزمة وانتشارها
إذاً، ما الذي تعنيه هذه الإجراءات؟ ببساطة، أول ما تعنيه هو أن الإدارة المركزية قرّرت أن تتدخّل لكبح هذه الأزمة. ستكون محاولة لخنق الأزمة في مهدها، أو التقليل من حصول عدوى «مصرف وادي السيليكون». ونوعية التدخّل تختلف كثيراً عن التدخّل الذي حصل في عام 2008، إذ تقول الإدارة الأميركية إنها لن تنقذ المصارف المفلسة من خلال شراء الأصول المسمومة، أو إنقاذها بالمال العام. لكن الواقع يختلف قليلاً عن هذه المزاعم. فعلى جانب «حماية المودعين»، سيتم تحميل كلفة الخسائر التي تكبّدها «مصرف وادي السيليكون» وسواه من المصارف المفلسة أو المنهارة، إلى سائر المصارف المنضوية في المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع، أي سيتم توزيع الأعباء على القطاع المصرفي. لكن في المقابل، لن تكون هناك تضحية بمصارف أخرى، أو على الأقل هذا ما تدّعيه الإدارة الأميركية في مجال «دعم السيولة». ففي هذا المجال، سيتم إقراض المصارف بضمانة السندات بقيمتها الاسمية يوم إصدارها، باعتبار أن إنعاش هذه المصارف لغاية استحقاق أجل السندات سيعفيها من مسؤولية تحمّل الخسائر الآن. بمعنى آخر، إن فائدة القروض بضمانة السندات هي بمثابة الخسائر المؤجّلة. لكن إنقاذ المصارف من سنداتها المسمومة سيكون عبر قروض من المال العام، أي بواسطة أموال دافعي الضرائب في أميركا. هذه القروض بمثابة دعم للسندات وتأجيل لخسائرها.

كل مصرف سيحصل على قرض «مدعوم» قيمته توازي مجموع قيمة السندات المسمومة بسعر إصدارها


يمكن الاستنتاج أن تدخّل السلطة المركزية في أميركا، في مواجهة أزمة «مصرف وادي السيليكون» واحتمالات امتدادها نحو مصارف أخرى (حتى الآن هناك 620 مليار دولار من الأصول المسمومة في القطاع المصرفي داخل أميركا)، أتى على شكل استجابة سريعة هدفها الإبطاء من مفاعيل الأزمة ومن امتدادها، إنما لا تلغيها. القرارات اللاحقة، سواء على مستوى السياسات المالية، أو على مستوى السياسات النقدية، ستُحدّد كيف يتفاعل الاقتصاد مع مجريات هذه الأزمة وحجمها وانتشارها. حتى الآن، لم تتمكن السلطة المركزية في أميركا من كبح حالة الذعر في السوق، وإن تمكّنت من تحييد أسواق الأسهم عن الأزمة. الخوف من انهيار في الأسواق المالية أصبح خوفاً من انهيار مصرفي، ثم بات خوفاً يتداخل فيه الانهيار المصرفي مع الركود التضخّمي.