تتلقّى وحدة إدارة المخاطر والإدارة العليا في مصرف SVB الكثير من اللوم، كما تتم محاسبة وكالات التصنيف الائتماني والهيئات التنظيمية والأطراف الثالثة الأخرى على تجاهل العديد من التحذيرات الصارخة في المستندات المالية الخاصة بالمصرف.وفي سياق توضيح خلفية ما حدث، من المهم توضيح أنه يجب على المصرف الذي يستحوذ على سندات أن يصنّفها في واحدة من ثلاث فئات بموجب معايير المحاسبة المقبولة عموماً في الولايات المتحدة: 1) سندات يحتفظ بها المصرف لغاية تاريخ الاستحقاق (HTM)، 2) سندات للتجارة، 3) سندات للبيع (AFS).

(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

في ظلّ هذه التصنيفات، فإن السند الذي ينوي المصرف الاحتفاظ به لغاية تاريخ استحقاقه ولديه القدرة على ذلك، يُصنّف ضمن فئة HTM. على أن التقلّبات في سعر هذا السند بسبب تغيرات أسعار الفائدة، هي ليست ذات صلة بالنسبة إلى معظم أغراض إعداد التقارير، إذ يواصل المصرف إظهار هذه السندات في ميزانيته العمومية بقيمتها الاسمية بعد احتساب استهلاكها (amortized cost)، ويتجاهل أي تقلّبات في الأسعار عند احتساب أرباحه وخسائره لتلك الفترة.
ضمن الفئة الثانية، أي في حساب السندات القابلة للتداول والتجارة، يتم إظهار جميع التقلّبات في قيمة السند فوراً في بيانات الأرباح والخسائر، وبالتالي في الميزانية العمومية، كجزء من الأرباح غير الموزّعة (retained earnings). ويجب أن يكون إدراج السند في هذه الفئة مصحوباً برغبة المصرف في تداول هذا السند على أمل تحقيق ربح سريع.
أما الفئة الثالثة والمتوسطة AFS، فهي تشمل جميع السندات التي لم يتم تصنيفها في أي حساب HTM أو حساب التداول. المعالجة المحاسبية لهذه الفئة تُعدّ الأكثر تعقيداً: إذ يتم تسجيل التقلّبات في قيمة السند فوراً في الميزانية العمومية، لكن لا يظهر الأمر في بيانات الأرباح والخسائر إلا عندما يتم بيع السند.
تجدر الإشارة إلى أن فئة التداول لم تلعب أي دور في فشل مصرف SVB.

حقائق قضية SVB
الحقائق الأساسية لقضية SVB ليست مثيرة للجدل. فقد اشترى البنك كميات هائلة من السندات عندما كانت أسعار الفائدة (متوسطة وطويلة الأجل) منخفضة للغاية، لكنّ السعر السوقي (أو «القيمة العادلة») لهذه السندات، انخفض بمليارات الدولارات خلال عام 2022 عندما ارتفعت الفوائد بنحو 3%. وبعد تصنيف هذه السندات في فئتي HTM أو AFS، لم يُطلب من المصرف تسجيل هذه الخسائر في بيانات الأرباح والخسائر حتى باع السندات في السوق، وهو الأمر الذي لم يحصل قبل النصف الأول من آذار 2023. ومع ذلك، فإن البيانات المالية ابتداءً من 31 كانون الأول 2022 كشفت بوضوح أن «القيمة العادلة» للأوراق المالية المصنّفة HTM انخفضت إلى 15 مليار دولار بعدما كانت قيمتها الاسمية تبلغ 90 مليار دولار، في حين أن «القيمة العادلة» للأوراق المالية المتاحة للبيع والتجارة انخفضت بنحو 2.5 مليار دولار بعدما كانت قيمتها الاسمية تبلغ 28.6 مليار دولار. إذا قورنت هذه الأرقام برأس مال المصرف المطروح في السوق والبالغ 16 مليار دولار، و1.5 مليار دولار من صافي الدخل بعد الضرائب ابتداءً من ذلك التاريخ، يمكن ملاحظة فداحة الأمر.
وعندما تزايدت ضغوط السيولة بشكل كبير، استجابةً لقيام العملاء بسحب ودائعهم، استسلم المصرف لتصفية كل محفظته المتاحة للبيع، وبالتالي تحقيق خسارة في بيانات الأرباح والخسائر بقيمة 1.8 مليار دولار بعد الضرائب (أو نحو 2.4 مليار دولار قبل الضرائب). تتوافق هذه الخسارة بشكل عام مع إفصاح المصرف عن أن مدّة استرداد السندات (Duartion) المعنية 3.6 سنوات على الشكل الآتي: 21 مليار دولار × 3% (الزيادة في أسعار الفائدة منذ أوائل عام 2022) × 3.6 (مدّة استرداد السندات) = 2.27 مليار دولار.
لكنّ مشاكل المصرف لم تتوقف هنا. فمحفظة المصرف من سندات الـHTM تحتوي على 90 مليار دولار (بالقيمة الاسمية) من السندات بمتوسط مدّة استرداد تساوي 6.2 سنوات. وهذا يؤدّي إلى انخفاض القيمة العادلة لهذه السندات بسبب رفع الفوائد بنسبة 3%، على النحو الآتي: 90 مليار دولار × 3% × 6.2 = 16.74 مليار دولار. هذه الخفوضات في القيمة العادلة لا يتم تسجيلها في بيانات الأرباح والخسائر ما لم يقم البنك بتصفية سندات الـHTM. ولكن مع استمرار ضغوط السيولة الناجمة عن عمليات سحب الودائع، توصّل السوق إلى استنتاج مفاده أنه لن يمرّ وقت طويل قبل أن تصبح تصفية هذه السندات ضرورية، ما أدّى إلى الاعتراف في بيانات الأرباح والخسائر بالخسارة الإضافية البالغة 15 مليار دولار، مقابل 16 مليار دولار قيمة رأس مال الأسهم العادية. والباقي، كما يُقال، هو للتاريخ.

أسئلة للنقاش
من المهم أن نتناول بعد ذلك عدداً من الأسئلة المهمة:
1- هل ينبغي تعديل معايير المحاسبة المقبولة عموماً في الولايات المتحدة لتطلب الاعتراف الفوري، من خلال بيان الدخل، بالتغيّر في القيمة العادلة للسندات المتاحة للبيع أو سندات الـHTM؟
(من الناحية العملية، قد يرقى هذا إلى التخلّي بالجملة عن إطار العمل الحالي المكوّن من 3 فئات للسندات، واستبداله بإطار بفئة واحدة أو فئتين فقط). الحجّة المؤيدة للاعتراف الفوري بالتغيّر في القيمة هي أن الخسارة، من الناحية الاقتصادية، تحدث من اللحظة التي ترتفع فيها أسعار الفائدة، وأن هذه الخسارة لا يتم تفاديها أو عكسها بمجرد الامتناع عن بيع السند. تشمل الحجج المقابلة حقيقة أن الانخفاض في القيمة العادلة يتم الإفصاح عنه في الملاحظات على البيانات المالية، وأن هذا يسمح للقارئ بتقييم الربحية الحقيقية للمؤسّسة رغم عدم الاعتراف بالخسارة في بيانات الأرباح والخسائر. نحن نتعاطف مع هذه الحُجّة المضادة، ولكن نشير إلى أنه في حالة SVB خصوصاً، يبدو أن السوق قد قلّل من تقدير الحالة المروّعة للمؤسّسة حتى أدّت تصفية محفظة AFS إلى الاعتراف بالخسارة غير المحقّقة في بيانات الأرباح والخسائر. الخسائر غير المحقّقة في السوق، بطريقة ما، لا «تُسجّل» في ذهن القارئ بشكل واضح مثل الخسائر المحقّقة، بغضّ النظر عن مدى وضوح الكشف عنها.
2- إذا واصلنا السماح للخسائر السوقية بتجاوز بيانات الأرباح والخسائر إلى أن يتم البيع الفعلي للسندات، فهل يجب تعديل مقاييس رأس مال المصرف (خفضها) لتعكس هذه الخسائر في السوق على الفور؟
في ظل هذا النهج، كان من الممكن أن تقترب إجراءات رأس المال الخاصة بـSVB من الصفر خلال عام 2022، وذلك عندما أدّت الزيادات المتتالية في أسعار الفائدة إلى انخفاض القيمة العادلة للسندات بمقدار 15 مليار دولار (في حالة سندات HTM) و2.4 مليار دولار (في حالة سندات AFS). ومن المثير للاهتمام، أن SVB لم يكن مطالباً بتعديل مقياس رأس المال الخاص به بسبب الخسائر السوقية هذه لأنها كانت تُعدّ صغيرة جداً، بموجب القوانين المصرفية الأميركية. فلو تجاوزت أصول الميزانية العمومية لشركة SVB الـ250 مليار دولار، بدلاً من أن تصل إلى 212 مليار دولار فقط، لكان على SVB تعديل رأس المال بناءً على خسائره بموجب القوانين المصرفية الأميركية. قد يجادل المشكّكون في أن القارئ قادر تماماً على إجراء مثل هذه التعديلات بمفرده، سواء كانت هذه التعديلات مطلوبة بموجب قوانين المصرفية الأميركية أو لا. بعبارة أخرى، كان بإمكان القارئ أن يقرّر أن SVB أصبح متعثّراً بمجرد ظهور خسائر بقيمة 15 مليار دولار و2.4 مليار دولار في القيمة السوقية للسندات، وقبل وقت طويل من تصفية أيّ من السندات.
3- يشير SVB في بياناته المالية إلى أنه ليس مطلوباً منه الامتثال لمعايير نسبة التغطية بالسيولة (LCR) أو صافي نسبة التمويل المستقرّة (NSFR)، مرّة أخرى بسبب حجمه «المتواضع»؟
باختصار، يتطلب معيار نسبة التغطية بالسيولة من المصارف، الاحتفاظ «بأصول سائلة عالية الجودة» بمبلغ كافٍ لتغطية الأموال المتوقّع خروجها من المصرف في فترة 30 يوماً من الضغط الشديد من الطلب على الودائع، بينما يحظّر معيار صافي نسبة التمويل المستقرّة، المصرف من تمويل أصول طويلة الأجل من خلال مطلوبات قصيرة الأجل. نتوقع أن يكون SVB قد استوفى متطلبات نسبة التغطية بالسيولة بشكل مريح، نظراً إلى وفرة الأصول السائلة العالية الجودة المتناثرة في ميزانيتها العمومية؛ لكننا نشكّ في أن المصرف كان بإمكانه تلبية متطلّبات صافي نسبة التمويل المستقرّة نظراً إلى المدة القصيرة جداً لالتزامات الودائع. نتفهم أن إعفاء مصارف مثل SVB من هذين المعيارين للسيولة لم يصبح سارياً حتى عام 2018، رداً على ضغوط المصارف المتضرّرة تجاه إدارة ترامب. ولكن سواء أكانت هذه المعايير مطلوبة رسمياً أم لا، فإنه من المدهش أن SVB لم يختر تطبيقها طوعاً كجزء من الإدارة الداخلية لمخاطر السيولة.
4- هناك سؤال آخر يدور في أذهان الجميع: إلى أي مدى يمكن تكرّر الثغرات الموجودة في الميزانية العمومية لـSVB في مكان آخر؟
كشف مارتن غروينبيرغ من مؤسّسة التأمين الفيدرالية (FDIC) قبل أيام قليلة أن إجمالي الخسائر غير المحقّقة في جميع أنحاء القطاع المصرفي الأميركي يبلغ 620 مليار دولار. وتشير الأبحاث المنفصلة التي أجراها محللو «وول ستريت» إلى أن الخسائر غير المحقّقة في «جي بي مورغان» و«سيتي غروب» و«بنك أوف أميركا» هي خسائر مادية ولكنها لا تهدّد المصارف بشكل مباشر - باستثناء احتمال انخفض نسبة رأس المال العادي في «بنك أوف أميركا» من 11.2% إلى 6% إذا انعكست الخسائر غير المحققة على الفور في ميزانيته. ولوضع رقم 620 مليار دولار في السياق عام، فإنه يصل إلى أربعة أضعاف الأسهم العادية لسيتي غروب، ثالث أكبر بنك في الولايات المتحدة.
إخفاق SVB هو دراسة رائعة عن أسوأ جوانب إدارة المخاطر وضعف أداء وكالات التصنيف والفشل التنظيمي


5- في عام 2022، ضمّن SVB بياناته المالية بتقييم تأثير زيادة 2% في الأسعار على صافي هامش الفائدة لديه، ولكن ليس على صافي ثروته.
لعقود من الزمن، تضمّنت أفضل الممارسات بين المصارف الرائدة مثل هذه المحاكاة، مع الكشف عن النتائج في كثير من الحالات، من قبل المؤسّسة على أساس طوعي. هذا مهم بشكل خاص في وقت لا يمكن فيه استبعاد أي ارتفاعات أخرى في أسعار الفائدة، بمعزل عن توقعات السوق الحالية. في الواقع، كان من الممكن أن تقدم SVB خدمة كبيرة للجميع لو كشفت، في مطلع 2022 وقبل بداية رفع أسعار الفائدة (إنما بعد التوسّع الهائل في محفظتي HTM و AFS) عن تأثير رفع الفائدة بنسبة 2% على صافي ثروته.

خاتمة
بشكل عام، إخفاق SVB هو دراسة رائعة حول أسوأ جوانب إدارة المخاطر غير الكافية، وضعف أداء وكالات التصنيف، والفشل التنظيمي. لم يكن سراً أن أسعار الفائدة سترتفع بسرعة في عام 2022؛ كان معروفاً لأحدث خرّيجي الجامعات أن أسعار السندات ذات السعر الثابت، وخاصة بالنسبة إلى السندات الطويلة الأجل، ستنخفض بشكل ملموس في مثل هذه البيئة، وأن المصارف التي تمرّ بمرحلة ضغط على سحب الودائع قد تحتاج إلى تصفية جزء كبير من محفظتها الاستثمارية بسرعة، كان هذا السيناريو واضحاً للجميع.

* عمل أسامة نصر محامياً ومصرفياً ومستشاراً مالياً في مدينتَي نيويورك وبيروت لمدة 37 عاماً. بدأ حياته المهنية في مكتب المحاماة Shearman & Sterling المتخصّص بالشركات في مدينة نيويورك لمدة 4 سنوات، ثم عمل لمدة 7 سنوات في Citigroup، قبل أن يؤسّس شركة DNA Training & Consulting منذ أكثر من 20 عاماً. وهو حاصل على درجتَي البكالوريوس والماجستير من جامعة كامبريدج في الرياضيات والفلسفة ودكتوراه في القانون من كلية الحقوق في كورنيل.