خلال أزمات التضخّم تتّجه الأنظار إلى ما يسمّى دوامة الأجور - الأسعار. يروّج للأمر باعتباره أمراً بديهياً مستقى من نظريات رائجة في الأنظمة الرأسمالية، عن أن الأجور والأسعار يغذّيان بعضهما البعض. إنما هناك نظرة مختلفة، يسمّيها مايكل روبرتس «دوامة الأرباح - الأسعار». فما يحصل أثناء الأزمات، هو أن الشركات قادرة على زيادة أرباحها من خلال رفع الأسعار ليتحوّل الأمر سريعاً إلى دوامة، تحبّذ الأنظمة الرأسمالية تسميتها بـ«دوامة الأجور - الأسعار»، من أجل التغطية على الزيادة الكبيرة في هوامش الأرباح التي تجنيها طبقة التجار وأصحاب الأعمال. وهذا الأمر يحصل في كل الأنظمة الرأسمالية، إنما يحصل بشكل أكثر تطرّفاً في الأنظمة الرأسمالية غير المنظّمة حيث يطغى الطابع الاحتكاري على النشاط الاقتصادي.
تلازم الأرباح والأسعار
في الاقتصاد الرأسمالي تتشكل قيمة الأسعار من ثلاثة عوامل؛ كلفة المواد الأوّلية أو الوسيطة المستخدمة في الإنتاج، كلفة العمل (أو الأجور)، وما يتأتى من أرباح.
في ظل الظروف التضخمية، التي تشبه الظروف العالمية الحالية، أي ارتفاع في أسعار المواد الأولية أو الوسيطة متزامن مع قيام أصحاب العمل برفع أسعار منتجاتهم بهدف الإبقاء على مستويات أرباحهم السابقة للأزمة، يؤدي ذلك على صعيد الاقتصاد الكلّي، إلى المساهمة في ارتفاع معدلات التضخّم بشكل مطّرد، ويضعف القدرة الشرائية للعمّال الذين يشكلون القاعدة العريضة للمستهلكين في حساب الدورة الاقتصادية. وهذا ما يجعلهم يطالبون برفع أجورهم، إنما زيادة غلاء المعيشة يتم بناء على دراسات وقرارات أصحاب المصالح والأعمال، وغالباً لا يكون متناسباً مع نسب ارتفاع الأسعار. بمعنى أوضح، يقوم أصحاب العمل بالحفاظ على أرباحهم، لا بل يسعون إلى رفعها على حساب أجور العمّال وقدرتهم الشرائية.


يتحدّث الاقتصادي مايكل روبرتس عن هذه الظاهرة في أميركا خلال حقبة التعافي بعد أزمة كورونا. فخلال فترة التعافي التي أعقبت ذلك الوباء، وصلت هوامش ربح الشركات الأميركية غير المالية (وهي نسبة الأرباح لكل وحدة من الأكلاف) إلى أعلى مستوياتها منذ عقود عدّة (وهوامش الربح التي يشير إليها روبرتس هي الفرق بين أكلاف الإنتاج وأسعار البيع)، إذ تعزّزت قوّة الشركات في زيادة أسعارها بالاستناد إلى ارتفاع التضخم، فيما تراجعت الأجور. وشكّلت هذه الظاهرة دوامة حقيقية لارتفاع الأسعار والأرباح. فمع توقّف الارتفاع في الأسعار والاستقرار النسبي في معدّلات التضخّم في الأشهر الأخيرة توقّفت أرباح الشركات عن الارتفاع.
هذا الربط يبدو واضحاً في ما يقوله أيضاً الاقتصادي برابات باتنايك عندما يشرح ظاهرة التضخّم الحالية في أميركا مبيناً العلاقة السببية بين ارتفاع معدلات التضخّم وارتفاع هوامش الربح عند الشركات في الفترة الزمنية نفسها. فهو يقول إن ارتفاع الأسعار بسرعة أكبر من سرعة ارتفاع الأجور، سببه الارتفاع «التلقائي» في هوامش الأرباح. وما يفسّر ذلك أكثر، هو أنه يفترض أن ترتفع هوامش الربح عندما يكون هناك ندرة في بعض السلع، خلافاً للوضع الحالي الذي لا يعكس نقصاً في مجموعة واسعة من السلع التي تشهد ضغوطاً تضخمية. وحتى في حالة السلع التي فيها نقص فوري بسبب اضطرابات سلاسل التوريد، فإن ارتفاع الأسعار أكثر وضوحاً واستمرارية مما هو مبرّر. بعبارة أخرى، فإن تزايد ارتفاع هامش الربح، هو عبارة عن دافع يخلق مساراً للتضخم الحالي في الولايات المتحدة، وهو أيضاً مؤشر على سلوك المضاربين في السوق.

لبنان: تعاظم الأرباح
مقاربة هذه الاستنتاجات بالنسبة إلى ما يحصل في لبنان هو أمر لا مفرّ منه. إنما يجب التمييز بين ظاهرة التضخّم في لبنان ومصدرها وأسبابها، عن التضخم في باقي دول العالم. فالارتفاع في الأسعار المحلية لا يعود إلى زيادة الطلب، أو حتى ازدياد أسعار المواد الأولية والوسيطة، أو تراجع عرض السلع. بالطبع، هناك نسبة ما من انعكاس ارتفاع الأسعار العالمية على الأسعار المحلية، إلا أن المصدر الأساسي للتضخّم سببه انخفاض قيمة العملة منذ عام 2019 وصولاً إلى الوقت الحاضر. لكن، لا شكّ بأن هوامش الربح تشكّل نسبة من هذا التضخّم أيضاً.
الاقتصاد اللبناني عرضة لخلل ناتج من صعوبة التحكّم في هوامش الربح. ففي الاقتصادات الغربية ما زالت المنافسة موجودة، ولو ظاهرياً، إذ فيها قوانين صارمة وأكثر فعالية مقارنة بالقوانين اللبنانية لجهة التحكّم بالأسعار ومنع الاحتكارات). فما حصل بعد انخفاض قيمة العملة في لبنان، أن أصحاب الشركات والمحتكرين، أصرّوا على إبقاء هوامش أرباحهم «الحقيقية» ثابتة من خلال تسعير السلع والمنتجات المبيعة بالدولار النقدي. تمكّنوا من القيام بذلك، لأنه لا قوانين تحكم التنافسية في السوق التي تهيمن عليها الاحتكارات وتتركّز فيها بنسب كبيرة في غالبية القطاعات.
الخيار الأفضل هو فرض الضرائب على الأرباح واستخدام العائدات في عملية إعادة توزيع للثروة على شكل تقديمات اجتماعية


وفيما ارتفعت الأسعار السوقية للسلع بما يزيد عن 1800%، لم يزد الأجر الوسطي بأكثر من 220%. أي إن الارتفاع في الأجور تخلّف كثيراً عن الارتفاع في الأسعار، بينما بقيت الأرباح ثابتة بالدولار، إن لم تزد. ويعود ذلك هذا إلى أمرين: تسيّب حركة الأسواق بسبب ضعف الرقابة والمحاسبة، وغياب المنافسة الحقيقية في الاقتصاد اللبناني بسبب انتشار الاحتكارات المقوننة من خلال الامتيازات وغياب القوانين التي تمنعها. وهو ما يعطي أصحاب المصالح الحرية والقدرة على إبقاء أرباحهم كما هي، وبالتالي مراكمة المزيد من الثروات على حساب الأجور التي تخلّفت عن قيمتها السابقة. الفكرة هي أن هوامش الأرباح المرتفعة تسهم في زيادة الأسعار بشكل أكبر مما هو طبيعي (بسبب انخفاض قيمة العملة)، وبالتالي هي تسبّب انخفاضاً في القدرة الشرائية للعمّال وتحرمهم من زيادة في الأجور تعيد لهم بعضاً من القدرة الشرائية التي فقدوها.
في الواقع، الأرباح هي التي تحرّك رأس المال وتحفّزه على الاستثمار. وبالتالي تسهم في زيادة الإنتاج والتوظيف وتوسّع الاقتصاد. إلا أن هذه الأرباح لا بد من لجمها، ولا سيما إذا أتت في سياق تركّز احتكاري واسع كما هو عليه الحال في لبنان حيث أحجمت الاستثمارات عنه في ظل انعدام التوقعات المستقبلية المتفائلة. قد يكون الخيار الأفضل المتاح أمام الجهات الرسمية للتعامل مع ظاهرة التضخّم، فرض المزيد من الضرائب على الأرباح واستخدام عائداتها في عملية إعادة توزيع الثروة على شكل تقديمات اجتماعية وخدماتية.