روّجت منظمة العمل الدولية، بتوجيهات من رئيس اللجنة النيابية المكلّفة النائب نقولا نحاس، لمشروع الراتب التقاعدي، بهدف تغيير بنية نظام نهاية الخدمة في الضمان الاجتماعي خدمة لمصلحة أصحاب العمل. وهذا الأمر واضح في التقارير التي عرضتها المنظمة على نحاس، وأشارت فيها إلى أن التعديلات التي طرأت على الأجور (بعد الأزمة)، تسهم في خسارات كبيرة «تؤدّي إلى تداعيات ضارّة على التعافي»، باعتبار أن الدولة هي الضمان النهائي للمجتمع. ما تشير إليه المنظمة هو تسويات نهاية الخدمة التي ستترتب على أصحاب العمل من أجل تمويل تعويضات نهاية الخدمة للعمال. تقدّر هذه المستحقات التي تعدّ حقوقاً للعمال مفروضة بموجب قانون الضمان الذي يدفعها للعمال ثم يستوفيها من أصحاب العمل، بما لا يقلّ عن 40 ألف مليار ليرة مستحقة عن 440 ألف منتسب إلى صندوق نهاية الخدمة، وقيمتها الإفرادية لا تقلّ، حتى الآن، عن 100 مليون ليرة لكل مضمون لديه 10 سنوات خدمة.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

بموجب المشروع، يخضع للنظام الجديد، أي لنظام الراتب التقاعدي، كل الأجراء الذي يصرّح عنهم للضمان الاجتماعي بعد البدء في تطبيق التعديل الجديد. كل منتسب إلى الضمان عمره أقلّ من 44 سنة، سينتقل إلزامياً إلى النظام الجديد، ومعه تنتقل كل الاشتراكات التي استوفاها الضمان عنه والفوائض التي راكمها النظام طوال 40 عاماً. أما من هم فوق سنّ الـ44، فإن لديهم حرية الاختيار للانتقال إلى النظام الجديد. لكن هذه الحرية مقيّدة بمجموعة خيارات تجعلها شبه إلزامية.
المنتسبون إلى النظام الجديد، أي الراتب التقاعدي، سيحصلون على معاشات تقاعدية وفق معادلتين:
- متوسط الراتب * 1.33% * عدد سنوات الاشتراك، لحدّ أقصى 30 سنة.
- إذا كان عدد سنوات خدمة الأجير يبلغ 20 سنة، فسيحصل على 80% من الحد الأدنى الرسمي للأجور. وإذا كان عدد سنوات يبلغ 15 سنة سيحصل على معاش تقاعدي يساوي 55% من الحدّ الأدنى للأجور، ومع كل سنة إضافية تزيد 1.75%.
الحد الأدنى للأجور معروف ومحدّد بمراسيم حكومية. لكن النقطة الإشكالية تتعلق بمتوسط الراتب المحتسب. وفي هذا المجال هناك رأيان: يُحتسب المتوسط من خلال البطاقة الإفرادية للمضمون، أي متوسط الأجر خلال الفترة. والثاني يشير إلى أن الاحتساب يحدّد متوسّط الراتب في السنة الأخيرة. لكن ويُحتسب المتوسط على أساس ما يسمّى "عامل تحويل"، أي إعادة النظر براتب الأجير وتطبيق نسب التضخّم عليه.


كل هذا المسار يأخذنا إلى عنق الزجاجة. إذ إن كل عملية تحويل، مربوطة بالتقييم المالي للنظام كل ثلاث سنوات، فإذا تبيّن للجنة الاستثمار التي تضع سياسات الاستثمار أن هناك انعداماً للتوازن في الوضع المالي، لا يُسمح بتعديل الراتب على أساس التضخم.
كيف يتمول نظام الراتب التقاعدي؟ من الاشتراكات المتوافرة حالياً في نظام تعويض نهاية الخدمة، مضافاً إليها الاشتراكات التي ستُسوفى لاحقاً من أصحاب العمل والعمال بموجب تطبيق النظام الجديد، وهي غير محدّدة بعد، وستكون الدولة الضامن الأساسي ولديها مساهمة مالية في هذا النظام يتم تحديدها وتمويلها سنوياً في الموازنة العامة، بالإضافة إلى مردود الاستثمارات.

خيارات الحماية الاجتماعية
منذ مطلع التسعينيات ولغاية اليوم، كان أصحاب العمل يكدّسون الأرباح على حساب قوّة عمل الأجراء. حُرم العمال من تصحيح للرواتب والأجور يغطّي تضخّم الأسعار على مدى أكثر من 16 عاماً، ثم أتى تصحيح هزيل على مرحلتين بين عامَي 2008 و2012 قبل أن تتآكل النسبة الأكبر من الأجر بفعل الانهيار. وعلى الضفّة المقابلة، كانت هوامش الأرباح التجارية في ازدياد مطّرد محفّزة بالاحتكارات والقوانين والقرارات الحكومية والوزارية، حتى وصلت حدود الربح المسموح بها قانوناً 100% بعدما أُلغيت قرارات تحدّد هذه الهوامش بنسبة تقلّ عن 10%.
الانهيار لم يغيّر موازين القوّة.

انقر على الجدول لتكبيره




أنقر على الرسم البياني لتكبيره

إذ عمد أصحاب العمل إلى حياكة مؤامرة جديدة على العمّال تقوم على تشريع نظام المعاش التقاعدي بدلاً من نظام تعويض نهاية الخدمة في صندوق الضمان الاجتماعي. ورغم أن عُمر هذا المشروع يبلغ 19 عاماً، إلا أنه من اللافت تسريع إنجازه الآن في ظل إفلاس الضمان وذوبان تعويضات نهاية الخدمة بفعل انهيار قيمة الليرة، وبعد انهيار التغطية الصحية التي يقدّمها الضمان الاجتماعي (تقديمات المرض والأمومة) من 90% من قيمة فاتورة استشفاء المضمون إلى ما لا يزيد عن 15% حالياً. وبهذا الانهيار، سقط قسم من المشروع سبق وضعه موضع التنفيذ لتقديم التغطية الصحية للمضمونين المتقاعدين. فقد أصبح المنتسبون للضمان، سواء الأجراء الحاليون، أو المتقاعدون، أكبر الخاسرين بسبب سوء إدارة الضمان وامتناع الجهات المسؤولة فيه عن حماية حقوق العمال رغم التحذيرات التي تلقوها بقرب الانهيار النقدي.
الانهيار النقدي والمالي، أفقد اللبنانيين كل خيارات الحماية الاجتماعية التي اتكؤوا عليها لإعانتهم في مرضهم وفي شيخوختهم. أصلاً كانت خيارات غير كافية وفئوية وضيّقة الأهداف. بمعنى أوضح كان الأمل بأن يتم توسيع خيار التغطية الصحية، في اتجاه توحيد الصناديق الضامنة (العسكرية والمدنية)، وتعميم التغطية الصحية لتشمل كل المقيمين على الأراضي اللبنانية من أجراء ومتقاعدين وعاطلين من العمل. أضف إلى ذلك، أن الناس خسرت مدخراتها في المصارف، وخسرت النسبة الأكبر من قوّتها الشرائية. عملياً، ما تبقى للطبقة العاملة بعد الأزمة قليل جداً، وهي اليوم تعمل لكفاف يومها فقط بلا أي حساب للمستقبل. وهذا الأمر ليس بسبب سوء تدبير منها، بل يعود إلى أن الخسائر التي فُرضت عليها من قبل السلطة السياسية والنقدية من جهة، ومن أصحاب العمل من جهة أخرى، جعلتها عارية أمام مخاطر الحاضر والمستقبل.

بؤس الراتب التقاعدي
أول إشكالية تظهر في المشروع المقترح، أنه مناف للمنطق القائل بأن الانتقال إلى نظام جديد، يستوجب أولاً تصفية الحسابات القديمة في نظام تعويض نهاية الخدمة. إذ ليس معقولاً نقل الأموال "دكمة" إلى نظام جديد من دون أن يتم تصفية الحقوق وتوزيعها. وهذا الأمر يتضمن تسديد أرباب العمل لتسويات نهاية الخدمة المترتبة عليهم باعتبارها حقوقاً للعامل منصوص عليها قانوناً.

بالأرقام

40 ألف مليار ليرة
هي قيمة التسويات التي سيتهرّب أصحاب العمل من تسديدها
100 مليون ليرة
هي قيمة الخسارة اللاحقة بكل مضمون من انضمامه القسري إلى نظام الراتب التقاعدي بصيغته الحالية


ثانياً، من الواضح، في ظل تاريخ قوى السلطة وممارستها في إهدار حقوق العمل، وفسادها، وانخراطها في المهاترات السياسية ذات الطابع الطائفي على حساب كفاءة المؤسسات، فإن ما سيتم تطبيقه في الواقع هو الراتب التقاعدي المحتسب على أساس الحدّ الأدنى للأجور، أي إنه لن يقل عن 55% ولن يزيد عن 80%.
أما إذا احتسبنا الراتب التقاعدي، فستظهر الإشكالية الثانية، وهي خطيرة على استدامة عمل النظام: فالحدّ الأدنى للأجور الذي اتفق عليه ولم يقرّ حكومياً بمراسيم بعد، إنما بقرار في لجنة المؤشر، يبلغ 4.5 مليون ليرة، وعلى اعتبار أنه سيستخدم من أجل حساب الراتب التقاعدي، أي سيتم ضربه بـ55%، ما يعني أن كل عامل سيكون لديه راتب تقاعدي بقيمة تساوي 2.475 مليون ليرة، وهذا الأمر يشمل نحو 440 ألف مضمون منتسبون إلى الضمان حالياً، ما يعني أن قيمة رواتبهم التقاعدية تبلغ في خلال 12 شهراً نحو 13 ألف مليار ليرة، أي ما يوازي كل ما هو متوافر لدى صندوق تعويضات نهاية الخدمة. لذا، لا يبدو أن النظام قادر على الاستدامة لوقت طويل حتى لو أوفت الدولة بمساهمتها لضمان النظام، ولو أوفى كل العمال وكل أصحاب العمل بالاشتراكات التي تترتب عليهم.
عملياً، سيتم إنفاق كل ما حققه النظام منذ ولادة الضمان لغاية اليوم، خلال سنة واحدة. هذه سرقة موصوفة لحقوق العمال. لكن السرقة لا تنحصر بهذا الأمر. فالهدف الأخطر في هذا الأمر، أنه يعفي أصحاب العمل من تسديد تسويات نهاية الخدمة للعمال التي تقدّر بنحو 100 مليون ليرة لكل عامل وفق حسابات متحفّظة جداً مبنية على أساس 10 سنوات خدمة للعامل الواحد. حجم التسويات التي سيهرب منها أصحاب العمل، يقدر بما يفوق 40 ألف مليار مترتبة على أصحاب العمل، وسيتم إلغاؤها بشحطة قلم منها. وسيتم تحميل هذا العبء لنظام تقاعد مبهم لا تتضح فيه الكثير من الأمور المتعلقة بنسب الاشتراكات ولجنة الاستثمار وعامل التحويل. عملياً، سيتم تسليم نظام تعويض نهاية الخدمة على الصفر، وسيتاح لأصحاب العمل مراكمة الأرباح على حساب الأجراء.

الدولة الضامنة لأصحاب العمل
قد يكون صحيحاً أن الدولة يجب أن تكون الضامن الاجتماعي النهائي، لكن لا يمكنها أن تكون ضامناً إلا بعد أن تفرض على أصحاب العمل ضرائب عادلة يمكن إعادة توزيع الناتج منها على شكل الضمان الاجتماعي. إلا أن المشروع المطروح، لا يُعيد النظر بشكل النظام الضريبي، بل يهدف إلى تحميل الدولة مسؤولية التقديمات الاجتماعية من دون تكليف أصحاب العمل. فالضمان اليوم يغطّي العمّال والموظفين المسجّلين رسمياً في الصندوق، ونسبتهم لا تتجاوز 25% من المقيمين. لا النظام القديم، ولا النظام المطروح يلحظ 75% من المقيمين في لبنان ممن خسروا قدراتهم الشرائية ومدخراتهم، وهم مكشوفون على مستقبل أسود حالك.

تُراوح قيمة المعاش التقاعدي بين 55% و80% من الحدّ الأدنى للأجور

هذه الغالبية تتألف من عمال أجبروا على العمل في قطاع غير نظامي، أو في قطاع نظامي لا يصرّح عنهم، وهم محرومون من الكثير من حقوق العمل، وهم أيضاً أشخاص عاطلون من العمل، وعاملون في القطاع العام منتسبون إلى تعاونية موظفي الدولة، أو سواها من الصناديق الضامنة...
في المشروع الذي أعدّ، أشير إلى "مزايا" المشروع على كل الأطراف المعنيين. فمثلاً بالنسبة إلى صندوق الضمان تقول منظمة العمل الدولية أنه «يوفّر حوافز للإعلان عن الأجور كاملة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ما يسمح باسترداد الإيرادات لجميع الفروع». في الواقع، يجب أن يتم هذا الأمر من خلال آليات مراقبة تضمن الإدلاء الصحيح للبيانات، وليس من خلال السماح لأصحاب العمل بمراكمة الأرباح على حساب تعويضات العمال. كما ورد أن النظام الجديد «يوزّع كلفة المنافع المعاد تقييمها على فترة زمنية أطول (من خلال الدفعات الدورية) بدلاً من خيارات أخرى كإعادة تقييم المبالغ المقطوعة»، لكن حدود الراتب التقاعدي متدنية جداً طالما أنه لا يتم تصحيح الأجور بشكل دوري ومتناسب مع تضخّم الأسعار.

سيتم إنفاق كل ما حققه النظام منذ ولادة الضمان لغاية اليوم خلال سنة واحدة


في الواقع، تذكر منظمة العمل الدولية أن النظام الجديد يتيح لأصحاب العمل بالتهرب من تسديد تسويات نهاية الخدمة. لكنها تضع هذا الأمر في إطار إيجابي مشيرة إلى أن المشروع «يقلل من التزامات مدفوعات التسوية المطلوبة من أصحاب العمل، والمتعلقة بزيادة الرواتب في المستقبل، والتي ستزداد بشكل كبير وقد تصبح غير محتملة». يقال هذا الأمر رغم أن أصحاب العمل حقّقوا أرباحاً هائلة خلال الأزمة ولم يخفضوا هوامش أرباحهم بل دولروها مستغلّين الأزمة لخفض الأجور الحقيقية للعمال والموظفين.