عادةً ما تلجأ الدول الرأسمالية أثناء التقلُّبات غير الاعتيادية في الأسواق، إلى رفع معدّل الإنفاق في القطاعات التي تُعَدّ لتكون مستقبل عملية التراكم الرأسمالي. حصل ذلك بُعَيد الحرب العالمية الثانية، مع مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا، والذي انصبّ التركيز فيه على إنشاء البنى التحتية اللازمة لعملية التصنيع، فضلاً عن تجهيز قطاع الخدمات، من طاقة وكهرباء ونقل ومياه... لأغراض النمو السكّاني المرتقب. أي، لمواكبة نموّ الطبقة العاملة التي كانت ستقود عملية إعادة الإعمار الكبرى. هذه الوجهة في التصنيع والإنفاق الرأسمالي المباشر، على البنى التحتية، لم تكن منفصلة عن السياسات النقدية التي أخَذَت مع صعود الكينزية، دفعاً إضافياً، لتجعل من المصارف المركزية المحدّد الأساسي، في تغليب وجهة رأسمالية على أخرى. على اعتبار أنّ حافزية السوق وحدها، لمشاريع مستقبلية كهذه، ستكون مقيّدة بحسابات العوائد والأرباح المُحتَملة. وهي على أيّة حال، كانت ستستمرّ بالتراجع، انطلاقاً من أزمة الكساد الكبير، لو لَمْ تضع الكينزية قيوداً أكبر على عمل الأسواق، بغية الاستثمار، في مستقبل الرأسمالية. إذ كان المستقبل، حينها، يتوقّف على المزاوجة بين سياسات التحفيز النقدي والإنفاق الرأسمالي المباشر على عملية التصنيع.
«حمائية» ما بعد الحرب
يمكن اعتبار ذلك، في ظروف ما بعد الحرب، حمائية بدرجة معيّنة. فالتنافسية في ذلك الوقت كانت محصورة بالدول الرأسمالية وحدها، إذ لم تكن الصين قد راكمت ما يكفي من العوامل للقيام بأدوار كبيرة في الاقتصاد العالمي، بينما الخصم الجيوسياسي الوحيد، المتمثّل في الاتحاد السوفياتي السابق، لم يكن يبني اقتصاداً تنافسياً أصلاً. انحصار التنافسية داخل أوروبا والولايات المتحدة أَضفى على الدعم الرأسمالي للصناعات الناشئة في أوروبا طابعاً يخلو من الحدّة التجارية. وهو ما تعزّز أكثر مع التدفُّقات النفطية الآتية من الخليج العربي، والتي كانت مدفوعة بعامل الكلفة الرخيصة، سواء في الإنتاج، أو في خدمات النقل والتأمين والشحن، لتغدو بفضلها الصناعات الأوروبية، ولا سيّما في ألمانيا، في طليعة المنتجات العالمية، من السلع والخدمات.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

وما نعرفه أيضاً، بعد أزمة الطاقة الحالية، أنّ الدفع الأكبر لتنافسية السلع الأوروبية كان بتأثير الإمدادات الروسية الرخيصة والنظيفة، والتي من دونها لم يكن ممكناً الحفاظ على معدّل الربحية الخاصّ بهذه الصناعات في مواجهة الصعود الصيني، أو حتى الحمائية الأميركية اللاحقة. على أنّ الثقل الذي مثّلته الصناعة الأوروبية، مع النهوض الكبير الذي تحقّق لها بعد الحرب، شجّع لاحقاً على اتخاذ تدابير حمائية، ولكن ليس بالحدّة نفسها التي تميّزت بها نظيرتها الأميركية، في مراحل متقدّمة. والحال أنّ تراجع الكينزية، ابتداءً من سبعينيات القرن الماضي، لمصلحة مدرسة شيكاغو، المحافِظة اقتصادياً، انعكس سلباً، ليس فقط على السياسات النقدية «التقدّمية»، بل كذلك على عملية الإنتاج نفسها. إذ ازدادت فيها التقلّبات، سوقياً، إلى درجة باتت تهدّد الربحية الرأسمالية نفسها، ما لم تُتخَذ إجراءات فورية لردعها، حفاظاً على استمرار عملية التراكم، التي أنقذتها الكينزية من فوضى الأسواق، قبيل الحرب وبعيدها.

حمائية اليمين البديل
الثمار الأولى لهذا الاضطراب في عمل الأسواق، شهدتها الحقبة التي أعقبت أزمة عام 2008. فمع تراجُع قدرة الأدوات النقدية التي أحدثتها الكينزية، على ضبط التقلّبات، برزت الحاجة إلى سياسات لا تكون بديلة تماماً من نظيرتها النقدية الخاصّة بالتيسير والتشديد الكمّيين، بقدر ما تعمل معها، سياسياً، لتجاوز آثار هذه المرحلة. حصول ذلك تطلّب صعود تيارات أو أحزاب إلى السلطة، لا تحظى عادةً بالإجماع المتعارَف عليه، داخل الثنائيات الحزبية، هناك. وأتى تضافُر أكثر من عامل في السياسة والاقتصاد، وحتى في السوسيولوجيا والثقافة، ليجعل من انتخابات عام 2016 التي شهدت صعود نجم دونالد ترامب، المُختبَر الفعلي لهذه المزاوجة الاستثنائية. أبرَزُ تلك العوامل كان بروز أزمة الهجرة في أوروبا، وتنامي نفوذ أحزاب اليمين المتطرّف التي اعتُبرت، بشكل أو بآخر، امتداداً أوروبياً، للموجة التي قادها الرئيس الأميركي السابق.
خطّة ترامب الاقتصادية التي أحدثت «طفرة إنتاجية» حينها، كانت تقوم على مزيج من الإعفاءات الضريبية للشركات، وفرض رسوم جمركية عالية على السلع المنافِسة، حتى لدى الحلفاء التقليديين، مثل ألمانيا وفرنسا. الركود الذي تسبَّبت به أزمة ديون منطقة اليورو وسياسات التقشّف في بريطانيا واليونان، على نطاق عالمي، «انتهى» مع هذا التحفيز الذي أطلَقَه التزامن بين خطّة ترامب ومعاودة الاحتياطي الفيدرالي خَفْض أسعار الفائدة، قبيل مطلع ولاية الرجل بقليل. النموّ الكبير الذي تحقّق حينها لم يحصل لأيٍّ من السببين، وحده، بل لتضافرهما معاً، إذ اعتُبرت سياسة التيسير الكمّي بمثابة حاضنة لإجراءات ترامب الخاصّة بالإعفاءات الضريبية وزيادة الرسوم الجمركية، ومعهما تشجيع الاتفاقات التجارية الثنائية مع الحلفاء، بدلاً من النهج الجماعي الذي كان مُتّبعاً، في ولاية أوباما. الحجّة الترامبية القائلة بأنّ تلك الاتفاقيات تسبّبت بزيادة العجز في الحساب الجاري الأميركي لمصلحة المنافسين التجاريين من الخصوم والحلفاء، وجدت آذاناً صاغية لدى صنّاع السياسة النقدية الذين ارتأوا في تلك الحقبة تفضيل السياسة الحمائية والمحافِظة، على نظيرتها «التقدمية»، التي يدعمونها عادةً. هذه الصيغة نجحت في تجاوز آثار التقلّبات السوقية، طوال حقبة ترامب، قبل بداية انحسارها مع بروز أزمة كورونا، في أواخر ولايته، لتعود بعدها الأزمة بالظهور، ولكن على نحوٍ أكثر حدّة بكثير، ومن دون أدوات العمل التي مثّلها، صعود اليمين البديل، سياسياً، وحتى اقتصادياً.

منظور الديموقراطيين للحمائية
«الحلّ» الذي مثّلته خطط اليمين البديل، الاقتصادية، لم يعد ممكناً، مع وصول الديموقراطيين إلى السلطة. فهؤلاء يمثّلون اتجاهاً في الاقتصاد لا يشجّع على التدابير الحمائية، وإذا شجّعوها كما حصل لاحقاً مع إدارة بايدن، يكون ذلك عادةً، من ضمن تصوّر متكامل لمستقبل الرأسمالية. وهو تصوُّرٌ لا يرى أفقاً، لاستمرار دعم الصناعات النفطية، كما فعل ترامب، أو لمساكنةٍ مع السياسات النقدية، قوامُها؛ دعم سياسة خفض الضرائب على الشركات لقاءَ مساهمتِها في تحفيز النموّ الاقتصادي، حتى في الصناعات الملوّثة، وغير الصديقة للبيئة. التشدّد الذي يبديه الديموقراطيون في هذه المسائل، غالباً ما يضع عراقيلَ، أمام سياسة المصارف المركزية التي تقوم على مفاضلات لا تحظى فيها السياسة، حتى البيئية منها، بموقع متقدِّم، قياساً بالعوامل الاقتصادية الخاصّة بأسعار الفائدة ورزم التحفيز... وهو ما تأكّد مع اعتمادهم، أخيراً، مشروعَ خفض التضخّم، الذي استُعيدت فيه عناصر كثيرة من الحمائية التقليدية، إنما في سياق يضعها بالكامل من دون شروط، في خدمة الصناعات الخضراء والصديقة للبيئة، وأبرزُها السيارات الكهربائية، ومشاريع الطاقة النظيفة، مثل الرياح والطاقة الشمسية... والحال أنّ أزمة التضخّم الحالية هي التي عجّلت باقتراح قانونٍ كهذا، إذ تتجاور فيه الرغبة بتحفيز النموّ وتجاوز الركود المتوقّع، مع الوجهة في الاستثمار التي تستثني صناعات الوقود الأحفوري الملوِثة للبيئة من الدعم والإنفاق الرأسمالي.
والمشكلة في هذا الخيار، فضلاً عن تحيّزه الأيديولوجي المُسبَق، أنه يأتي في مرحلة لا تتسم بنموّ التضخّم فحسب، بل كذلك، بصعود سياسة أسعار الفائدة المرتفعة، على ضوء قرار الاحتياطي الفيدرالي، الاستمرار بتشديد السياسة النقدية، حتى الانتهاء من معدّل التضخّم المرتفع الذي يتجاوز نسبة الـ 2%، المطلوبة لتحفيز النموّ. هذا يجعل من الحزمة الحالية من الدعم مترافقةً مع شحٍّ كبير في السيولة النقدية المطروحة في الأسواق، أي على عكس مرحلة ترامب، التي تزامَنَت الحمائية فيها مع تيسيرٍ نقديٍّ كبير، ما سَمَح باستعادة نسب النموّ التقليدية في ظرف أشهر قليلة، من بداية الولاية.
ثمّة فروقاتٌ أخرى بين المرحلتين، تتدخّل لتصعيب المهمّة على الديموقراطيين، قياساً بالسهولة النسبية، التي لاقاها ترامب في تطبيق حمائيته. أهمُّ هذه الفروقات على الإطلاق أنّ الأزمة الحالية في الاقتصاد الأميركي تبدو مصحوبةً بأزمة أكبر عالمياً، ولا سيّما لدى الحلفاء في أوروبا، وهو ما لم يكن موجوداً بالقدر نفسه، آنذاك. حتى الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على ألمانيا وفرنسا، والتي تسبَّبت بأزمة في تنافسية السلع الأوروبية لفترة، لا يمكن مقارنتها بالأثر الكبير لأزمة الطاقة الحالية، ومعها كلفة الإنتاج المرتفعة، على تنافسيتها الحاليّة. حيث وصل الأمر، إلى حدّ «انهيار صناعات بأكملها»، ونزوح رساميل أوروبية كبيرة، إلى اقتصادات منافِسة، طلباً لكلفة أقلّ في الإنتاج، بُغية الحفاظ، أقلَّه، على معدّل الربحية السابق.

التأثير على مستقبل الصناعة الأوروبية
هذا يضع الوجهة الحاليّة من الحمائية الأميركية على سكّة متناقضات كثيرة. فالمنظور التقدّمي الذي تنطوي عليه لجهة تركيز الدعم على الصناعات التي تمثّل مستقبل الرأسمالية العالمية، وليس ماضيها، يتعارض مع الأولويّات التي أملَتها الأزمة الأوكرانية، اقتصادياً، على الحلفاء الأوروبيين. أبرز هذه الأولويات، خفوت حدّة الحماسة للصناعات النظيفة والخضراء، لمصلحة معاودة التعويل على مصادر الطاقة الأحفورية التقليدية، من نفط وغاز وفحم. فقد باتت مطلوبة، ليس للصناعات فحسب، بل كذلك لإبقاء الخدمات الأساسية قائمة، ومُتاحة لدى السواد الأعظم من السكّان هناك.
الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على ألمانيا وفرنسا وسبَّبت أزمة في تنافسية السلع الأوروبية لفترة لا يمكن مقارنتها بأزمة الطاقة الحالية التي بلغت حدّ «انهيار صناعات بأكملها»، ونزوح رساميل أوروبية كبيرة إلى اقتصادات منافِسة


الحاجة إلى مصادر الطاقة التقليدية بعد الشحّ الكبير في الوقود الذي تسبّبت به سياسة العقوبات ضدّ روسيا، أعادت الرأسماليات في أوروبا عقوداً إلى الوراء. فبدلاً من الاستمرار في إنتاج خدمات، تعتمد على الطاقة النظيفة بالكامل، بدأت الحكومات هناك في الدعوة إلى إحياء صناعة المفاعلات النووية التي تضمن إمدادات مستقرّة من الكهرباء والطاقة، للصناعات والأسر. وذلك على حساب مشاريع أخرى، أكثر تقدُّميةً وأقلُّ تلويثاً للبيئة، ولكن بكلفة كبيرة لم تعد تلك الدول قادرة على تحمُّلِها في ظلّ الأزمة الحالية. وأُعيد، أيضاً، على المستوى الشعبي، إحياء تقاليد اعتُقد أنها اندثرت مع زيادة وتيرة التصنيع وشيوع الرفاهية، مثل الذهاب إلى الغابة للبحث عن حطبٍ للتدفئة، للتعويض عن الفاقد من الخدمات الذي باتت الحكومات هناك عاجزة عن تقديمه.
ويذهب هذا التناقض بين الوجهتين الأوروبية والأميركية إلى ذروته، حين يظهر مشروع قانون خفض التضخّم، وكأنه يعيد إطلاق تدابير ترامب الحمائية في مواجهة أوروبا، ولكن في سياق يجعل تجاوزها أصعب بكثير من السابق. فالتنافسية الأوروبية التي هدّدها الرئيس السابق، برسومه الجمركية، لم تحصل في ظروف تشهد هذا القدر من الصعوبات بالنسبة إلى الصناعات الأوروبية، بل اقتصرت المعاناة حينها على تقييد توريد السلع المشمولة بالحماية الجمركية إلى السوق الأميركية. في حين لا تهدّد الأزمة الحالية بين الرأسماليتين فقط بتوقّف الإنتاج الأوروبي، بل أيضاً بنزوح رساميله إلى الولايات المتحدة وحتى إلى الصين. وهو ما يبدو أنّ مشروع القانون لا يستثنيه، إن لم نَقُل إنه يشجّع عليه، نظراً إلى حجم الدعم الذي يوفّره للصناعات الأميركية الصديقة للبيئة، والتي تعاني نظيرتها الأوروبية، بعد الحرب في أوكرانيا، من المفاضلة بينها وبين الصناعات التقليدية، لمصلحة هذه الأخيرة. التنافسية في هذه الحالة لا تصبح محسومة فحسب لمصلحة الولايات المتحدة على مستوى السلع والخدمات، بل تجعل أيضاً الاقتصاد الأميركي في موقع متقدّم بكثير على نظيره الأوروبي لجهة المنظور المستقبلي لعملية التراكم الرأسمالي. وذلك بعدما كانت أوروبا هي التي تقود هذه الوجهة، لسنوات، مع كلّ التطوير الكبير المرافِق لذلك، من بنى تحتية ومرافق وخدمات، إلى درجة كان يبدو معها أنّ اللحاق الأميركي بهذا الأفق سيحتاج إلى سنوات، إن لم نَقُل إلى عقود.