العلاج بالصدمة كان المصطلح المستخدم لوصف التحوّل الجذري من نموذج الاقتصاد المملوك للقطاع العام في الاتحاد السوفياتي في عام 1990، إلى نمط الإنتاج الرأسمالي الكامل. كانت كارثة على مستويات المعيشة لمدّة عقد. كانت «عقيدة الصدمة» هي المصطلح الذي استخدمته نعومي كلاين، لوصف التدمير الذي قامت به الحكومات، منذ الثمانينيات، للخدمات العامة ودولة الرفاهية. والآن تقوم المصارف المركزية الكبرى بتطبيق «علاج الصدمة» الخاص بها على الاقتصاد العالمي، عازمة على رفع أسعار الفائدة بهدف السيطرة على التضخّم رغم الأدلة المتزايدة على أن هذا سيؤدي إلى ركود عالمي في العام المقبل.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

يقول عضو مجلس الاحتياطي الفيدرالي، كريس والر: «أنا لا أفكر في إبطاء أو إيقاف زيادات أسعار الفائدة بسبب مخاوف الاستقرار المالي». لذا، لا يهم لو بدأت أسعار الفائدة المرتفعة في إحداث ثغرات في المؤسسات المالية وأصولها المضاربة. ورغم أن منطقة اليورو وألمانيا خصوصاً تنزلقان بالفعل نحو الركود، فقد بدا رئيس المصرف المركزي الألماني ناجل، حازماً عندما قال: «يجب أن تستمرّ أسعار الفائدة في الارتفاع - وبشكل ملحوظ». ناجل، لا يريد فقط أسعار فائدة أعلى، إنما يريد من المصرف المركزي الأوروبي أن يخفض ميزانيته العمومية، أي ليس فقط التوقف عن شراء السندات الحكومية للحفاظ على انخفاض عوائد السندات، بل بيع السندات أيضاً، ما يؤدّي إلى ارتفاع العوائد عليها، وبالتالي انخفاض أسعارها.
يتابع ناجل: «هناك صدمة في أسعار الطاقة، لا يمكن للمصرف المركزي أن يغير انعكاساتها كثيراً على المدى القصير. ومع ذلك، يمكن للسياسة النقدية أن تمنعها من القفز والتوسّع. وبهذه الطريقة، فإننا نكسر ديناميكية التضخّم ونجعل تطوّر الأسعار يصل إلى هدفنا على المدى المتوسط. لدينا الأدوات اللازمة لذلك، ولا سيما رفع أسعار الفائدة».
كل هذا الكلام «الصارم» من قبل محافظي المصارف المركزية، يخفي الواقع. إن رفع أسعار الفائدة لن ينجح في خفض معدلات التضخّم إلى المستويات المستهدفة من دون إحداث ركود كبير. ويرجع ذلك إلى أن معدلات التضخّم الحالية ليست ناتجة من «الطلب المفرط»، أي إنفاق الأسر والحكومات، وإنما من «عرض غير كافٍ»، ولا سيما في إنتاج الغذاء والطاقة، وأيضاً في التصنيع على نطاق أوسع والمنتجات التقنية. تم تقييد نموّ العرض نظراً إلى انخفاض نموّ الإنتاجية في الاقتصادات الرئيسية، وبسبب عوائق سلاسل التوريد في الإنتاج والنقل، التي ظهرت أثناء جائحة كورونا وبعد تراجعها، ثم تسارعت بسبب الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية.
في الواقع، أكدت الدراسات أن دوامة التضخّم كانت مدفوعة من جانب العرض في السوق. في تقرير جديد، وجد البنك المركزي الأوروبي أن الارتفاع في معدلات التضخّم الأساسي (Core inflation)، والتي تستبعد عوامل العرض للغذاء والطاقة، كان مدفوعاً بشكل أساسي بقيود العرض. «أدّت عوائق عرض السلع الصناعية، والنقص في مدخلات الإنتاج، بما في ذلك نقص العمالة الناجم جزئياً عن آثار جائحة كورونا، إلى زيادة حادّة في معدلات التضخّم».
وفي تقريره الأخير عن التجارة والتنمية، توصّل «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية» إلى نتيجة مماثلة. رأى التقرير أن كل زيادة بنقطة مئوية واحدة في سعر الفائدة الرئيسي لبنك الاحتياطي الفيدرالي، ستخفّض الناتج الاقتصادي في البلدان الغنية بنسبة 0.5%، وبنسبة 0.8% في البلدان الفقيرة على مدى السنوات الثلاث المقبلة؛ ومن شأن الزيادات الأكثر حدّة بنسبة 2% و3% أن تزيد من كساد «التعافي الاقتصادي المتباطئ أصلاً» في الاقتصادات الناشئة. أثناء تقديم التقرير، قال ريتشارد كوزول رايت، رئيس فريق «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية» الذي أعدّ التقرير: «هل تحاول حلّ مشكلة العرض من خلال حلّ الطلب؟ نعتقد أن هذا نهج خطير للغاية».
من الواضح أن المصارف المركزية لا تعرف أسباب ارتفاع التضخّم. وكما قال رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جاي باول: «نحن نفهم بشكل أفضل، الآن، مدى ضآلة فهمنا للتضخّم». لكنه أيضاً نهج أيديولوجي من قبل محافظي البنوك المركزية. كل ما يتحدثون عنه هو الخوف من دوامة ارتفاع الأجور والأسعار. حجتهم أنه بينما يحاول العمال تعويض ارتفاع الأسعار عن طريق التفاوض على أجور أعلى، فإن ذلك سيؤدي إلى مزيد من الارتفاع في الأسعار ورفع توقعات التضخّم.
المعلّم الكينزي مارتن وولف، لخّص نظرية التضخّم هذه، لصحيفة فاينانشال تايمز: «ما يتعيّن على محافظي البنوك المركزية فعله هو منع دوامة الأجور والأسعار التي من شأنها زعزعة توقعات التضخّم. يجب أن تكون السياسة النقدية محكمة بما يكفي لتحقيق ذلك. بعبارة أخرى، يجب على المصارف المركزية أن تخلق/ تحافظ على بعض الركود في سوق العمل». هذا الكلام يدعو إلى الحفاظ على الأجور كما هي والسماح للبطالة بالارتفاع. يعتقد رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جاي باول أن مهمة الاحتياطي هي «من حيث المبدأ (...) من خلال تعديل الطلب، يمكننا (...) خفض الأجور، ثم خفض التضخّم، من دون الاضطرار إلى إبطاء الاقتصاد والركود وارتفاع معدل البطالة مادياً. هناك طريق لذلك».
إن خفض الأجور هو المسار الذي تتّخذه المصارف المركزية. لكن الأجور لا ترتفع كنسبة من الناتج؛ بل على العكس، إن حصة الأرباح كانت تتزايد أثناء الجائحة وبعدها، وليس الأجور.
ومع ذلك، وفقاً لتقرير «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية»، فإنه بين عامَي 2020 و2022 «يُعزى ما يقدر بنسبة 54% من متوسّط زيادة الأسعار في القطاع غير المالي للولايات المتحدة، إلى هوامش الربح المتزايدة، مقارنة بنسبة 11% فقط في الأربعين سنة الماضية». كان الدافع وراء ارتفاع التضخّم هو كلفة المواد الخام (الغذاء والطاقة على وجه الخصوص) وارتفاع الأرباح، وليس الأجور. لكن لا نرى البنوك المركزية تتحدث عن دوامة ارتفاع في الربح والأسعار، كما هي الحال مع الأجور.
لذا، تواصل المصارف المركزية رفع أسعار الفائدة والتحول من التيسير الكمي إلى التشديد الكمّي. وهم يفعلون ذلك في الوقت نفسه عبر القارات. في النهاية، أدّى هذا «العلاج بالصدمة»، الذي استخدم لأول مرة في أواخر السبعينيات من قبل رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي آنذاك بول فولكر، إلى ركود عالمي كبير بين عامَي 1980 و1982.
إن الطريقة التي تحارب بها المصارف المركزية، التضخّم، من خلال رفع أسعار الفائدة، تضع ضغوطاً هائلة على النظام المالي العالمي، إذ تؤثّر هذه الإجراءات في الاقتصادات المتقدمة على البلدان المنخفضة الدخل.
إن ما يسهم في تأثير ارتفاع أسعار الفائدة على الاقتصاد العالمي، هو الدولار الأميركي القوي للغاية، إذ ارتفع بنحو 11% منذ بداية العام، ولأول مرّة منذ عقدين من الزمن، وصل إلى نفس سعر اليورو. الدولار قوي كملاذ آمن للسيولة النقدية من التضخّم، مع ارتفاع سعر الفائدة الأميركية وتأثير العقوبات والحرب في أوروبا.
انخفضت قيمة عدد كبير من العملات الرئيسية مقابل الدولار. هذا أمر كارثي للعديد من البلدان الفقيرة حول العالم. لا يستطيع العديد من البلدان - وخاصة الأفقر منها - الاقتراض بعملتها الخاصة بالمبلغ أو آجال الاستحقاق التي تريدها. إذ لا يرغب المقرضون في تحمل مخاطر السداد بعملات هؤلاء المقترضين المتقلبة. بدلاً من ذلك، تقترض هذه البلدان عادةً بالدولار، وتتعهد بسداد ديونها بالدولار - بغض النظر عن سعر الصرف. وبالتالي، عندما يصبح الدولار أقوى مقارنة بالعملات الأخرى، تصبح هذه المدفوعات أكثر تكلفة نسبة إلى العملة المحلية.
أفاد معهد التمويل الدولي أخيراً أن «المستثمرين الأجانب سحبوا أموالهم من الأسواق الناشئة لمدّة خمسة أشهر متتالية في أطول سلسلة سحب مسجلة تاريخياً». هذا رأس مال استثماري بالغ الأهمية للأسواق الناشئة ينطلق منها نحو «الأمان».
وأيضاً عندما يقوى الدولار، تصبح الواردات باهظة الثمن (نسبة إلى العملة المحلية)، ما يجبر الشركات على تقليل استثماراتها أو زيادة الإنفاق على الواردات المهمة. التهديد بالتخلف عن سداد الديون آخذ في التصاعد.
المصارف المركزية لا تستطيع التحكم في معدلات التضخّم الناتجة من ضعف العرض بالسياسة النقدية


كل هذا بسبب محاولة المصارف المركزية تطبيق «العلاج بالصدمة» على التضخم العالمي المتصاعد. الحقيقة هي أن المصارف المركزية لا تستطيع التحكم في معدلات التضخم بالسياسة النقدية، وخاصة عندما تكون مدفوعة بالعرض. لم يكن ارتفاع الأسعار مدفوعاً «بالطلب المفرط» من المستهلكين على السلع والخدمات أو الشركات التي تستثمر بكثافة، أو حتى الإنفاق الحكومي غير المنضبط. ليس الطلب «مفرطاً»، لكن الجانب الآخر من معادلة السعر، أي العرض، ضعيف جداً. وهناك، لا تملك المصارف المركزية أي أوراق قوة. يمكنهم رفع أسعار الفائدة بالقدر الذي يريدونه، ولكن سيكون لهذا انعكاس ضئيل على ضغط العرض، بل يمكنه أن ينعكس عليه سلباً. لا يرجع ضغط العرض هذا فقط إلى عوائق الإنتاج والنقل، أو الحرب في أوكرانيا، بل يرجع بشكل أكبر، إلى الانخفاض الأساسي الطويل الأجل في نموّ الإنتاجية للاقتصادات الرئيسية - وخلف ذلك الانخفاض في النموّ في الاستثمار والربحية.
ومن المفارقات أن ارتفاع أسعار الفائدة سوف يضغط على الأرباح. بالفعل، خفض المتنبئون توقعاتهم لأرباح الربع الثالث للشركات الأميركية الكبرى بمقدار 34 مليار دولار خلال الأشهر الثلاثة الماضية، ويتوقع المحلّلون، الآن، أكبر ارتفاع في الأرباح منذ أعماق أزمة كورونا.
إنه علاج بالصدمة على الاقتصاد العالمي وليس على التضخم. بمجرد انزلاق الاقتصادات الرئيسية إلى الركود، سينخفض التضخم نتيجة لذلك.

* اقتصادي أميركي، نُشر هذا المقال على مدوّنته thenextrecession.wordpress.com في 10 تشرين الأوّل 2022