ظاهرة «الدولرة» هي عملية استبدال العملة المحليّة بالدولار للقيام بالأدوار المحورية للمال في الاقتصاد. اختيار العملة الأميركية أمر منطقي طالما أنها العملة المهيمنة على العالم حالياً. فمن النادر أن هناك دولاً لجأت إلى استعمال الإسترليني أو اليورو أو أي عملة أخرى، خارج نطاق الاستعمار المفروض عليها. أما في الدول التي تعاني من الأزمات، فبحسب البنك الدولي، تلجأ إلى استعمال العملة الأجنبية بدلاً من العملة المحلية كنتيجة حتمية للأزمة. فالعملة المحلية فقدت كل أدوارها بما فيها الدور الأبسط كوسيط أو وحدة حساب، لتبادل السلع والخدمات. الدولرة في لبنان، بهذا المعنى، ليست أمراً حديثاً، بل هي ظاهرة مترسّخة منذ عقود تغيّر شكلها بفعل الأزمة الراهنة، لتصبح الدولرة قائمة على «الدولار النقدي» بدلاً من الدولار المصرفي.

لطالما كان الاقتصاد اللبناني عرضة لظاهرة «الدولرة» التي اجتاحته بعد كل أزمة، ولا سيما بعد الحرب الأهلية التي بدأت عام 1975. تمثّلت ظاهرة «الدولرة» بشكل أساسي من خلال حجم الودائع بالدولار في القطاع المصرفي اللبناني. بعد انهيار الليرة في نهاية الثمانينيات، ظهرت دولرة الودائع في القطاع المصرفي، لأن الأفراد والمؤسسات لجأوا إلى تحويل أصولهم إلى الدولار باعتباره ملاذاً آمناً وضمانة عالمية لحفظ القيمة. في عام 1992 بلغت نسبة «الدولرة في الودائع الخاصّة نحو 86.7%. وبعد نهاية الحرب الأهلية والأزمة التي رافقتها تمت السيطرة جزئياً على سعر الصرف، فانخفض حجم «الدولرة» في الودائع ليبلغ 56.4% في عام 1997». عملياً، لم يكن سهلاً، حتى بعد انتهاء الأزمة، التخلّي عن «الدولرة». وقد استمر النمط نفسه حتى بعد عام 1997 حين أصبح سعر الصرف مثبتاً بقوّة تدخلات مصرف لبنان، على سعر مستهدف يُراوح بين 1501 ليرة، و1514 ليرة، أي 1507.5 ليرات لكل دولار. كان يفترض أن الثقة بالعملة المحليّة قد عادت، إلا أنه مع ذلك، لم يتم التخلّي عن الدولار كعملة لحفظ القيمة. وهذا الأمر كان يظهر أيضاً في العمليات الائتمانية في القطاع المصرفي، حيث كانت القروض الخاصّة بالدولار تشكّل الجزء الأكبر من الديون. ففي عام 2008 بلغت نسبة القروض بالدولار من إجمالي القروض نحو 85.1%، ومع أنها انخفضت لاحقاً، إلا أنها بقيت مرتفعة نسبياً، إذ بلغت في عام 2018 نحو 66.4%، الأقل في فترة ما بعد الحرب الأهلية.






هذه الظاهرة انعكست، على الواقع الاقتصادي، وخصوصاً على عمليات تسعير المعاملات التجارية وغيرها، ما أسهم في ذلك بشكل أكبر، هو الاعتماد الكبير للاقتصاد اللبناني على الاستيراد، إذ إن جزءاً كبيراً من السلع الاستهلاكية تعتمد أسعارها على كلفة الاستيراد، المسعّرة بدورها بالدولار. هذا النمط يزداد حدّة بعد الأزمات وهو أمر حدث أيضاً بعد الأزمة الأخيرة، إذ إن ظاهرة الدولرة اتسعت أكثر واتخذت شكلاً جديداً لأن الأزمة بطبيعتها كانت أزمة نقدية - مصرفية، ما أدّى إلى تمظهر الدولرة في التحوّل الاقتصادي العام. فلم تظهر الدولرة في القطاع المصرفي، بل انتقلت إلى الاقتصاد الحقيقي مع تحوّل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد نقدي، أو اقتصاد «كاش» يستخدم الدولار للتسعير، والدفع أيضاً.
تاريخياً، يمكن تحديد «الدولرة» في لبنان، من مؤشرات مختلفة غير زاوية الودائع؛ هناك العجز في الميزان التجاري، القروض المصرفية، الدين العام بالدولار، الشيكات المتقاصّة بالدولار... إنما في الأزمة الراهنة، أي في «اقتصاد الكاش»، فإن تحديد «الدولرة» بات أكثر تعقيداً، ولا سيما أن مصرف لبنان يتدخّل في السوق بواسطة أدوات غير تقليدية، منها أداة خلقها حديثاً اسمها «صيرفة» وهي تتعامل مع الصرافين إلى جانب المصارف ومؤسسات مالية أخرى. فهل يمكن اعتبار حجم التداولات على منصّة «صيرفة» مؤشراً إلى ظاهرة «الدولرة» بشكلها الحالي «الكاش»؟
على أي حال، تظهر الدراسات المختلفة، أن التقلّبات الكبيرة في أسعار الصرف تُسهم مباشرة في تمدّد ظاهرة «الدولرة». وذلك لأن هذه التقلبات تجعل العملات المحلية مصدرَ مَخاطر على المؤسّسات والتجار والأفراد. كيف ذلك؟ التاجر الذي يبيع البضائع بالعملة المحلية في ظروف تتقلب فيها أسعار الصرف بشكل كبير، يُعرّض نفسه لمخاطر فقدان قيمة مبيعاته إذا ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل العملة المحليّة، أي قيمة رساميله. لذا، يلجأ إلى التسعير بالدولار، وأن بعضهم يطلب تسديد ثمن السلعة أو الخدمة بالدولار أيضاً. كذلك هو حال الفرد الذي يحتفظ بمدّخرات يريد أن يحافظ على قيمتها، فيقوم بتحويلها إلى الدولار كي لا يُعرّض نفسه لمخاطر فقدان قيمتها. إنما في حالة الأزمة الراهنة، فإن التحويل جاء بعد سحب الودائع من المصرف، أي تخزين الدولارات النقدية.
بشكل عام، تؤكّد الدراسات أن إدارة الاقتصاد بشكل فعّال هي شرط مسبق للتخلّص من «الدولرة» في الاقتصاد، إذ يتطلب هذا الأمر استعادة دور العملة المحلية وإعادة الثقة بها.
لا تنتهي ظاهرة «الدولرة» إلا بعد معالجة اقتصادية تضع حدّاً للأزمة


لذا، يكون العمل على جعل معدلات التضخّم مستقرّة ومنخفضة من العوامل التي تساهم في إعادة الثقة للعملة الوطنية، وبالتالي يقلّل الحاجة إلى استخدام العملات الأجنبية للحفاظ على القوة الشرائية. دعمت السياسات المالية والنقدية الموثوقة جنباً إلى جنب، مع تطوير أسواق العملات المحلية، إزالة الدولرة في العديد من البلدان، بحسب دراسة دي نيكولو وآخرين تحت عنوان «دولرة الودائع المصرفية: الأسباب والنتائج». فمن المهم العمل على سياسات اقتصادية عامّة تسهم في لجم التضخّم والحد من التحركات الكبيرة في سعر الصرف. وهذا الأمر يتعلّق بشكل أساسي باستهداف المشكلة المزمنة في لبنان، وهي العجز في الحسابات الخارجية، ولا سيّما في الميزان التجاري، إذ إن لبنان بلد مستورد، وهذا الأمر يساهم في فقدانه للعملات الصعبة، ما يزيد من الضغط على سعر صرف العملة المحليّة مقابل الدولار. وهذا الأمر كان محورياً في زيادة حجم الدين بالعملات الأجنبية، ولا سيّما الدين العام، الذي سيساهم في فقدان الثقة بالليرة بشكل أكبر.
بمعنى أوضح، إن استمرار ظاهرة «الدولرة» يعني أن لبنان لم يخرج، في العقود الثلاثة الماضية، من دائرة الأزمة، وأنه لن يخرج من هذه الأزمة بلا سياسة اقتصادية واضحة، علماً أن النتائج غير مضمونة. فالعلاج الاقتصادي لا يضمن نهاية الدولرة، ولا العودة عن اقتصاد الكاش.