تقول «النبذة التاريخية» المنشورة على موقع الاتحاد العمالي العام في لبنان، إن «تركيبة الاتحاد باتت محكومة بتوازناتها السياسية الداخلية التي يَمنَع اختلالها أيّ اتجاه وحدوي في العمل النقابي، والتي يقتضي معالجتها بإصلاح جذري لتركيبة التنظيم النقابي يرتكز على التمثيل الحقيقي لمختلف الأجراء في جميع القطاعات الاقتصادية».

تستند هذه الخلاصة إلى دراسة أعدّها الاتحاد الأوروبي ومؤسسة فريدريش إيبيرت في عام 2002، وهي تقدّر أن عدد المنتسبين إلى الاتحادات التي تكوّن الاتحاد العمالي العام بنحو 58690 منتسباً (7.8%) من أصل 745760 عاملاً وأجيراً يحقّ لهم الانتساب. أما سبب هذا الضعف التمثيلي فيكمن في «كثرة الانتسابات الوهمية، ولا سيما تلك المسؤولة عنها الأحزاب المختلفة». لكنّ الدراسة لم ترَ أن هذا الرقم له صفة تمثيلية، إذ إنه بالاعتماد على عدد المقترعين في انتخابات النقابات تبيّن أن النسبة قد لا تتجاوز 3.5% من الأجراء.
اللافت، ليس فقط أن هذا الكلام منشور على موقع الاتحاد العمالي العام، بل في ما تلاه، إذ يُستنتج من الضعف التمثيلي «ضعف القدرة التفاوضية للاتحاد العمالي ما لم يتوافر له دعم سياسي وحزبي».
ما يتبنّاه الاتحاد من هذه الدراسة، هو بالفعل ما يقوم به. فلا قيادات الاتحاد تزعم أنها تملك الصفة التمثيلية، ولا تدّعي أيضاً أن لديها أيّ معرفة لما يحصل اقتصادياً، أو رؤية للنهوض الاقتصادي. هم سائرون بلا تردّد وبلا مواربة تحت رعاية أسيادهم من السياسيين وأصحاب الرساميل. ليس أدلّ على ذلك من العبارة التي وجّهها رئيس غرفة التجارة والصناعة في بيروت محمد شقير إلى رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر، أثناء انعقاد لجنة المؤشّر لدراسة تصحيح الأجور: «ما تخليني إفضحك». انتهى كل النقاش بعد هذه العبارة، وحصل الاتفاق على تصحيح الأجور بقيمة 1.3 مليون ليرة رغم أن الأسعار ازدادت في ذلك الوقت 800%. ومع زيادة الأجور مرّة ثانية ليصبح الحدّ الأدنى 2.6 مليون ليرة، فإن الأجر الوسطي لم يزد أكثر من 2.3 ضعف في مقابل ارتفاع الأسعار 13 ضعفاً. في الواقع، لا شيء يفرض على الأسمر تبرير هذه المهزلة، فما يتبناه الاتحاد واضح، وجذوره راسخة في بنية «النموذج» الذي لم يضع يده على المؤسسات النقابية فحسب، بل أرسى نظاماً للزبائنية السياسية يجعل كل الأجراء يدورون في فلكه لاهثين للفوز بقطعة من كعكة التوزيعات. ففي ظل هذا «النموذج»، إن الحصول على الوظيفة مرتبط بالولاء السياسي، سواء في القطاع العام حيث يظهر مقابل 40649 مستخدماً وأجيراً، وجود 51312 عاملاً مسجّلاً بصفة متعاقد أو مياوم أو صفات وظيفية أخرى. وفي القطاع الخاص، فإن الولاء السياسي مختلف شكلاً، إذ إنه بحسب دراسة أجراها جمال حيدر وإسحاق ديوان فإن الارتباطات السياسية للشركات تدفعها نحو «التوظيف المفرط مقابل الحصول على امتيازات اقتصادية». فتحصل على دعم مالي حكومي، تراخيص، عقود الصفقات... وتسدّد دينها عبر «توفير وظائف يحتاج إليها السياسيون لأتباعهم».
لذا، فإن أي مقارنة بين النقابات في الغرب وفي لبنان أمر غير عقلاني، لكنّ المثل يُضرب ولا يقاس: انظروا إلى لبنان يحترق بفعل ارتفاع في الأسعار بنسبة 1247%، أي بمعدل وسطي للتضخّم في الأشهر التسعة الأولى من السنة الجارية بلغ 198% مقارنة مع معدل بنسبة 154.8% في عام 2021، و84.9% في عام 2020. بكل المقاييس هذه المعدلات تفوق أضعاف ما يحصل الآن في أوروبا، لكنّ النقابات الأوروبية وحتى الأميركية، بدأت تحتج في الشارع وتطالب بفرض ضرائب أكثر على الأثرياء لتصحيح أجور العمال. هي مجرّد رؤية يتحرّك الشارع بالاستناد إليها عندما ظهرت الأرباح الفاحشة في شركات المحروقات في أوروبا وأميركا، أما في لبنان فإن المطلب البسيط بتصحيح الأجور لا يحرّك أحداً في الشارع. في الغرب قضت النيوليبرالية على النقابات، وفي أميركا استُخدمت الاغتيالات والجريمة المنظّمة، لكن ذلك لم يمنع عودة العمل النقابي، إنما في لبنان يبدو أن «نموذج الاقتصاد السياسي» أكثر تماسكاً، إذ لا يزال يعمل كالمعتاد ويقبض على الشركات والقطاع العام والمؤسسات النقابية.