وضع الدين العام في أوروبا اليوم بعيد كلّ البعد عمّا كانت تطمح إليه دول الاتحاد الأوروبي في بداية التسعينيات، خصوصاً مع القواعد التي تم الاتفاق عليها في معاهدة «ماستريخت» التي نصّت على أن لا تكون مستويات الدين العام أعلى من 60% من الناتج المحلّي في الدول التي كانت جزءاً من المعاهدة. حالياً من الواضح أن دول أوروبا تتّجه إلى الاستدانة بشكل أكبر، خصوصاً مع التطوّرات العسكرية والاقتصاديّة التي تلت الحرب الروسيّة الأوكرانيّة، والتي أسفرت عن تضخّم فُرض على أوروبا وركود اقتصادي قادم إليها. ومع رفع أسعار الفائدة في العالم، أصبحت الدول الأوروبيّة أمام مشكلة كبيرة في ما يخصّ كلفة الدين وكلفة إعادة تمويله.

كل «الأهداف الماليّة» في أوروبا اليوم هي وليدة معاهدات التسعينيات. هي أهداف بُنيت على الرؤية النيوليبراليّة، التي انتشرت في الدول الغربية منذ الثمانينيات، وهي تقول إن دور الدولة يجب أن يتقلّص إلى الحد الأقصى، ما يعني ضمنياً أن لا يكون حجم إنفاق الدولة كبيراً. بالتالي كان الحافز الأكبر أمام هذه المعاهدات هو سياسات التقشّف، أي أن تقلّص الدول نفاقاتها التي يجب أن تتوازى مع إيراداتها. على هذا الأساس أُنشِئت معاهدة «ماستريخت» في عام 1992، التي تُعدّ الهيكل الأصلي للحوكمة الاقتصادية في الاتحاد الاقتصادي والنقدي في أوروبا (EMU). بُني الاتحاد الاقتصادي والنقدي الأوروبي على أساس سياسة نقدية واحدة، يديرها بنك مركزي أوروبي مستقلّ من جهة، وعلى مجموعة من السياسات المالية الوطنية المنسّقة من جهة أخرى. في ذلك الوقت، كان الانضباط المالي يعتبر شرطاً أساسياً لا غنى عنه لاتحاد نقدي لا يمتلك سلطة أو قدرة مالية مشتركة. بعد خمس سنوات من معاهدة «ماستريخت»، أُنشئ ميثاق الاستقرار والنمو، الذي وُقّع في عام 1997. كان يفترض أن يُطبّق هذا الميثاق الأرقام المرجعية لقواعد الدين العام والعجز في الاتحاد الأوروبي المحددة في معاهدة «ماستريخت». وذُكر في الميثاق أن العجز الحكومي السنوي يجب أن لا يتجاوز 3% من الناتج المحلي الإجمالي، على أن لا يتجاوز الدين الحكومي العام 60% من الناتج المحلي الإجمالي. كانت هذه الأرقام منطقيّة في التسعينيات، إذ تزامنت مع اقتصادات في نموّ متسارع ومع معدلات دين قريبة من الرقم المذكور.
وفي آذار 2020، قام الاتحاد الأوروبي بتعليق العمل بقواعده الماليّة. وقد أتى هذا الأمر بسبب جائحة كورونا التي خلّفت أضراراً اقتصادية هائلة في جميع اقتصادات العالم. كان من الواضح في ذلك الحين أن الدول الغربيّة بشكل عام، ومنها دول أوروبا، تتجه إلى تنفيذ سياسات ماليّة إنفاقيّة لمواجهة الجائحة. وقد أتى هذا الأمر على شكل حزم تحفيزيّة، للمؤسسات والأُسر. كان هذا الإنفاق عجزياً، بمعنى أنه أتى من عجز في موازنات الدول، وبالتالي كان مصدره الاستدانة. هذا الأمر تسبب بارتفاع مستوى الدين في الاتحاد الأوروبي بشكل كبير خلال سنتين فقط، حيث أصبح الدين بعيداً كثيراً عن ما تنصّ عليه معاهدة «ماستريخت».
إلا أن جائحة كورونا لم تكن هي نقطة التحوّل في المسار الأوروبي في موضوع الدين العام والتعامل معه. فالاتجاه العام للدين الحكومي الأوروبي كان تصاعدياً منذ عام 2008، أي بعد الأزمة الماليّة العالميّة. منذ ذلك الوقت أُصيبت العديد من دول الاتحاد الأوروبي بأزمات دين، التي بدأت في أيسلند ومرّت لاحقاً بدول أخرى أهمّها اليونان وقبرص. تضرّرت القطاعات المصرفيّة في هذه الدّول بعد أزمة عام 2008، وهو ما اضطر الدول الأوروبيّة الأخرى على التدخّل لإنقاذها خوفاً على عملة اليورو، إلا أن هذا الإنقاذ أتى على شكل ديون للحكومات المتضررة. واضطرّت هذه الأخيرة إلى فرض سياسات تقشّف مقابل الديون التي اقترضتها لإنقاذ اقتصاداتها، إلا أنه حتى مع هذه السياسات كانت كلفة الديون مرتفعة كثيراً، ما أدّى إلى بقاء مستويات الدين في مسار تصاعدي.


أما اليوم، ومع أن انعكاسات أزمة كورونا لم تنتهِ بعد، أتت الحرب الروسيّة الأوكرانيّة لتزيد من جروح الاقتصادات الأوروبيّة. فقد تسببت الحرب بصدمة كبيرة في سوق النفط العالميّة، ما رفع أسعار المشتقات النفطيّة بشكل كبير. ومن ناحية أخرى، كان لدى أوروبا ضرر خاصّ من الحرب، حيث إن اندفاعها لمناصرة أوكرانيا في الحرب «أجبرها» على وقف معظم التعاملات الاقتصاديّة مع روسيا، ومنها شراء الغاز الطبيعي الروسي، الذي كان يُشكّل نحو 40% من استهلاك أوروبا. هذا الأمر تسبب بارتفاع في أسعار الكهرباء بشكل كبير، بلغ نحو أربعة أضعاف ما كان عليه قبل الحرب. وهي حتى الآن لم تستطع أن تؤمّن بديلاً كافياً للغاز الروسي. هذه العوامل أجبرت دولة مثل ألمانيا، بتأمين أموال لمواجهة الارتفاع في أسعار الطاقة، تبلغ قيمتها نحو 200 مليار يورو، هي عبارة عن حزمة إنقاذ للمؤسسات والأُسر لحمايتها من الإفلاس. تجدر الإشارة إلى أن ألمانيا هي إحدى الدول التي لطالما كانت من المتشددين في الموضوع المالي للدول، وكانت تطالب الدّول الأوروبيّة الأخرى بالقيام بإجراءات تخفّض ديونها وتقلّص العجز المالي فيها.
دول أوروبا تخطّط لزيادة إنفاقها العسكري، ما يعني أنها ستتجه نحو مزيد من الاستدانة


يُضاف إلى ذلك، أن دول أوروبا اليوم تتّجه نحو التسلّح أكثر، لمواجهة التحديات العسكريّة القادمة إليها، خصوصاً بعد الحرب الروسيّة الأوكرانيّة، وهو ما يعني أن هذه الدّول ستتجه للمزيد من الاستدانة لتغطية الارتفاع في إنفاقها العسكري.
في موازاة ذلك، ارتفعت معدلات التضخّم في العالم بشكل كبير. كان ذلك بسبب رتفاع أسعار الطاقة، بالإضافة إلى المشاكل التي تواجهها سلاسل التوريد العالميّة، والأموال التي ضُخّت في الأسواق الغربية خلال الجائحة والتي حفّزت جانب الطلب. أوّل المواجهين كان بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، الذي رفع معدلات الفائدة بشكل سريع جداً. عملياً، ورّط الفيدرالي باقي المصارف المركزيّة العالميّة مجبراً إياها على رفع أسعار الفائدة معه، وذلك خوفاً من هجرة رؤوس الأموال منها إلى أميركا، ما يؤثّر سلباً على قيمة عملاتها. ولم يكن المصرف المركزي الأوروبي استثناءً، حيث اضطر إلى رفع أسعار الفائدة أيضاً بعدما تلقّى اليورو ضربة موجعة في الأسواق، خفّضت قيمته إلى ما دون الدولار الأميركي الواحد للمرّة الأولى منذ عقود. وإن رفع أسعار الفائدة في أوروبا، يعني أن كلفة الدين الأوروبي ستصبح مرتفعة أكثر، وتزامن هذا الأمر مع زيادة في الديون الأوروبيّة، كما ذُكر آنفاً، يعني أن هذه الدّول أصبحت في دائرة خطر وقوعها في أزمة ديون كبيرة.