يُظهر تقرير أعدّته منظمة العمل الدولية عام 2011، أنه بعد عقد من النمو في معدلات الأجور في العالم، وتحديداً العقد الذي سبق أزمة 2008، بدأت معدلات النموّ بالانخفاض بعد الأزمة. كذلك تبيّن أن الأشخاص الذين يتلقون أجوراً منخفضة بدأ يزداد. وبحسب تعريف المنظمة، فإن ذوي الأجور المنخفضة هم الأشخاص الذين يتلقّون أجوراً أقل من ثلثَي الأجر المتوسّط. وارتفاع عدد هؤلاء هو دلالة على ازدياد فجوة التفاوت. إذ ازدادت رواتب أصحاب الأجور العليا في مقابل وقوع الكثير من العمّال تحت مستوى الأجور المنخفضة. والذين أصبحوا في الفئة الأخيرة، باتوا عرضة للوقوع تحت خط الفقر، أي ازدياد الأشخاص المهدّدين بالوقوع في الفقر.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

هذه خلاصة سريعة لما حصل بعد انفجار الأزمة المالية العالمية نهاية عام 2008. لكن الأزمة اليوم تبدو أكبر وأكثر عمقاً. فلم يكد العالم يجتاز أزمة انتشار وباء «كورونا»، حتى اندلعت الحرب الروسيّة الأوكرانية بكل ما خفي من شكلها الفعلي المتعلق بالحرب بين حلف الناتو وروسيا. العقوبات الأميركية والأوروبية على روسيا كانت هائلة، لكنها لم تكن كافية لإخضاع روسيا، بل ردّت عليها روسيا باستعمال النفط والغاز أداة قويّة لكبح عدوانية أعدائها. وربما أصبحت هذه الأداة مدخلاً لتغيرات بنيوية في النظام المالي العالمي. كل ذلك، أشعل الأسعار حول العالم. وهو أمر أتى بعدما استعملت الدول حول العالم سياساتها النقدية لمواجهة أزمة العرض والطلب أثناء انتشار الوباء بكل ما فرضه من إغلاقات للعمل والحدود. طبعت تريليونات من الدولارات التي امتصت معظمها الأسواق المالية، ما خلق فقاعة بدأت تتكوّر ككرة نار في ظل أزمة ارتفاع الأسعار. ولم تكن القصّة مجرّد ارتفاع للأسعار وإجراءات كلاسيكية لمواجهة التضخّم، بل كانت عبارة عن ارتفاع لأسعار السلع الأساسية: منتجات غذائية، نفط وغاز، معادن نادرة لزوم الصناعات، سائر أنواع المعادن... ووسط صعوبات في التوريد، وتقطّع سلاسل الإنتاج، وتأخّر المصارف المركزية حول العالم في استيعاب ما يحصل ومواجهته، أصبحت التوقّعات في السوق سلبية لتنفجر واحدة من أكبر موجات التضخّم التي يتزامن معها انكماش اقتصادي. في ظل هذا التباطؤ النيوليبرالي في مواجهة التضخّم، فإن هناك الكثير من الشكوك بأن تقفز الأنظمة مباشرة نحو تصحيح الأجور بما يكفي لتعويض التآكل في القدرات الشرائية. وهذا بالفعل ما حصل، إذ تُشير أحدث الإحصاءات الأوروبية الواردة في تقرير صادر عن «يوروفاوند» بعنوان: «الحدّ الأدنى للأجور 2022: المراجعة السنوية»، إلى أن معدل الأجور الحقيقية في أوروبا سجّل انكماشاً رغم التصحيحات اللاحقة بها (بالحدّ الأدنى) مع تفاوتات كبيرة بين الدول. وهذا يعني أن الأجور بحاجة إلى تصحيحات إضافية حتى تتمكن من تعويض ما تآكل بفعل التضخّم. لكن هنا تكمن مشكلة أخرى، فهل زيادة الأجور سيتطلب ضخّاً إضافياً من السيولة في الأسواق، بينما يتركّز همّ المصارف المركزية على سحب السيولة التي سبق أن ضخّتها، منعاً لزيادة التضخّم؟ أي أولويات اقتصادية واجتماعية في ظل الأنظمة النيوليبرالية ستكون؟ للأجور، أم لمكافحة التضخّم، أم للتحضير لمواجهة الركود أيضاً؟

بالأرقام

27%
هي نسبة الزيادة في الكتلة النقدية المتداولة في دول اليورو منذ آذار 2020 لغاية اليوم (فترة كورونا وما بعدها) ليصبح حجمها 11.4 تريليون يورو
52.8%
هي نسبة الزيادة في الكتلة النقدية المتداولة في أميركا بسبب ضخّ السيولة لمكافحة تداعيات كورونا على الاقتصاد ليصبح حجمها 19.4 تريليون دولار


تكتسب هذه الأسئلة أهمية مضاعفة عندما يتبيّن أن الأجور أصبحت سلبية، وأن قيمتها الحقيقة انخفضت، وأن التشوّهات في بنيتها أصبحت أكبر. صحيح أن البلدان المتقدّمة سجّلت تعافياً في معدلات التوظيف، إلا أنّ ذلك لا يعني أنّ الأشخاص الذين استعادوا وظائفهم التي خسروها خلال جائحة «كورونا»، استعادوا مستوى الأجور الذي كانوا يتقاضونها قبل الجائحة. فمع التضخّم الحاصل، ثمة خطر كبير في أن يقع هؤلاء تحت خطّ الفقر أكثر من أي وقت مضى. ورغم أن أوروبا حاولت تصحيح الأجور، من خلال تصحيح الحد الأدنى للأجور، إلا أن هذه الأداة لا تستهدف تصحيحات واسعة المدى، وهي ليست وسيلة فعالة لتصحيح يأخذ في الاعتبار أن بنية الأجور في النظم النيوليبرالية تعبّر عن موازين قوّة هي في غالبيتها تنحاز إلى أصحاب الرساميل بشكل واضح. إذ إن نصيب الأفراد والأسر من الأموال التي ضخّتها دول العالم في السوق خلال السنتين الماضيتين، لم يكن يُذكر مقارنة مع نصيب الأكثر ثراء والشركات الكبرى.
في كل الأحوال، تُظهر الأرقام الصادرة عن التقرير أن الأجور الحقيقيّة في دول الاتحاد الأوروبي تآكلت رغم التصحيحات اللاحقة بها. فمع قرارات الدول الأوروبية بزيادة الحد الأدنى للأجور، أتى التضخّم في بلدان أوروبا ليأكل الزيادات ويخفّض القيمة الحقيقية للأجور مقارنة مع ما كانت عليه سابقاً.
بنتيجة ذلك، تكون الأجور الفعلية قد انكمشت بدلاً من النمو. أي إذا أعدنا احتساب القدرة الشرائية للأجور بعد إدخال ارتفاع الأسعار والتصحيحات، فإن قوّتها الشرائية تصبح أدنى من قوّتها السابقة قبل التضخّم. ويقول التقرير: «في الفترة ما بين أول كانون الثاني 2021، وأول كانون الثاني 2022، زاد الحدّ الأدنى للأجور، لكن تأثير الحياة الواقعية لا يعني زيادة في مستويات المعيشة عند أخذ التضخم المتزايد في الاعتبار. خلال الفترة نفسها، سجّل في 15 دولة من أصل 21 دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي ولديها حدّ أدنى قانوني للأجور، انخفاضاً في الأجور بالقيمة الحقيقية». ويتخوّف التقرير من أن تصبح الخسائر في القدرة الشرائية كبيرة «إذا استمرّت اتجاهات التضخم الحالية». وهذا ما يجعل الأمر «موضوعاً مهيمناً ما لم يتم معالجة المشكلة من خلال زيادات إضافية أو تدابير دعم أخرى منخفضة».
عملياً، هناك الكثير من البلدان الأوروبية التي لديها أدوات قياس مرجعية تستند إليها لتصحيح الحدّ الأدنى للأجور، وبعضها يقوم بتغييره أكثر من مرّة في السنة الواحدة. وفي نهاية السنة الماضية قامت الدول الأوروبيّة بزيادة الحدّ الأدنى للأجور بنسب متفاوتة تبعاً لتوقعات كل منها لتضخّم الأسعار. بعض الدول أجرت تعديلات تراوحت بين 1% و5%، فيما بعضها الآخر أجرى تعديلات زادت عن 10%. «كانت البلدان التي لديها آليات للقياس مثل بلجيكا وفرنسا ولوكسمبورغ، أسرع في رفع الأجور بما يتماشى مع التضخّم؛ ولكن يمكن أيضاً إدخال زيادات إضافية حسب الحاجة، كما هو الحال في اليونان» وفق ما ورد في التقرير. وسجّلت بعض الدول استثناءات تجاه التعامل مع الحدّ الأدنى الحقيقي للأجور، إذ حظيت بنموّ فعلي فيه، لا انكماش، وهي الدول التي زادت الحدّ الأدنى بنسب مرتفعة مثل المجر (16%)، كرواتيا (10.8%)، ليتوانيا (13.7%). وهي دول غالبيتها ذات جذور اشتراكية.

استمرار اتجاهات التضخّم الحالية واحتمالات تزامنها مع الركود سيكبّد الأجور خسائر أكبر


المشكلة التي تؤرّق الجميع اليوم، هي أنه في حال الركود بالتزامن مع التضخّم، ماذا سيرتّب ذلك على قوّة العمل والأجور. فالركود يعني أنه لا خلق لوظائف جديدة في الاقتصاد، أي إن الطلب على العمل، من قبل الشركات، يكون قليلاً. في المقابل، عرض العمل من قبل القوى العاملة، سيرتفع بمرور الوقت بسبب دخول أشخاص أكثر إلى القوى العاملة. في هذه الحالة، لا يكون لدى العمّال أي قدرة تفاوضية تسهّل لهم رفع أجورهم، فتبقى الأجور منخفضة وتتآكل قدرتها الشرائية. ما يحصل اليوم هو شبيه بذلك، فهناك الكثير من التحذيرات أن العالم يتجه اليوم إلى حالة ركود تضخّمي، ما يعني أن الفجوة في الأجور سترتفع، وبالتالي الفجوة في الثروة. اللامساواة في الدخل والثروة ستزيد.