في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، شدّدت الأقليّة المهيمنة في لبنان، إمساكها بالقرار الاقتصادي داخل المؤسسات مدعومة بقوة ماليّة تؤمنها الديون العامة والتدفقات الخارجيّة (الائتمان الخارجي) وبالصلاحيات السياديّة التي يمتلكها المصرف المركزي في خلق النقد من ناحية وتحويل السيولة بالعملات الأجنبية إلى سيولة محليّة من ناحيّة ثانية (شرط أن تلي ذلك تغطية بعملات جديدة لاحقاً وهذا ما فعله مصرف لبنان حتى عام 2018). وقد استفادت الأقليّة المذكورة في ذلك من تسوية الطائف التي أوجدت تقاسماً طائفيّاً للسلطة حظي بموافقة معظم الأطراف، ونال تفويضاً واسعاً من اللاعبين الأساسيّين في الداخل والخارج. في النصف الثاني من التسعينيات اتّسعت مظلة تلك الأقلية لتشمل الفاعلين خارج السلطة كالنقابات والمنظمات الأهلية والمدنية والتجمعات المهنيّة ومؤسّسات الأعمال متوسطة الحجم، والتي راحت تسقط الواحدة تلو الأخرى في يد السلطة، وبذلك صارت «النخبة» قادرة على إمساك عصا الحكم من طرفيه؛ المؤسّساتي في جانب، والأهلي/المدني من جانب آخر، فيما جرى احتواء المعارضة السياسيّة قدر الإمكان داخل مؤسّسات الحكم لتحييد قوتها. ورغم ما حفل به عام 2005 وما بعده من أحداث سياسيّة وأمنية وعسكرية خطيرة، حافظت الأقليّة الأوليغارشية على وحدتها وتأثيرها في القرار، لكن مع بروز منافسة جديّة لها داخل الدولة. وقد تطوّرت هذه المنافسة مع مرور الوقت لكن من دون الوصول إلى حدّ استبدال سلطة قرار بأخرى.
تجيرد روياردس ــ هولندا

وإذا تتبّعنا مسار الوقائع التي سبقت الانهيار، نجد أنّ ممثلي مصالح الجمهور العريض باتوا يعملون خارج نطاق الأطر المنظّمة كالنقابات المهنية والعمّالية. وقد زادت فعاليتهم لسببين: الأول: عجز السلطة عن معالجة مشاكل حيويّة تمسّ معيشة الجمهور المذكور بما فيه القواعد الاجتماعية للأحزاب والزعامات التقليديّة (أزمة النفايات نموذجاً) علماً بأن هذا الجمهور كان يتفق في ما بينه على الغاية العامة (مثل وجوب حلّ مشكلة النفايات)، ويتفرق في التفاصيل (مثل أين تكون المطامر؟). والثاني: اهتزاز المقايضة الضمنية بفعل اشتداد الأزمة المالية في العقد الأخير، وبموجب تلك المقايضة تحكّمت فئة صغيرة بسلطة اتخاذ القرار الاقتصادي في مقابل استفادة الجمهور الواسع من إنفاق تعويضي على الخدمات والوظائف والمشاريع المناطقيّة. ما يجدر ذكره هنا هو أن تحكّم تلك الفئة بالقرار في الدولة وخارجها، خلق فراغاً مجتمعيّاً يجري ملؤه بالمنظمات غير الحكوميّة وبقوى فوضويّة، وفراغاً «سياسويّاً» حاول مصرف لبنان ملأه لكن من دون جدوى.

هيمنة النخب الاقتصادية
وبالعودة إلى مقاربة «هيمنة النخب الاقتصادية»، يسجّل بولانتزاس الاعتراض الآتي: إن إنفاق قدر كبير من الاهتمام على تحليل البنى الطبقيّة وعلى الطبيعة الرأسماليّة للدولة يهدّد بإعادة إنتاج فرضيتين ضمنيتين (خاطئتين برأيه) في أدبيات التعدديّة السياسيّة؛ أولاهما أنّ القوة تتموضع داخل أجهزة الدولة، والثانية أن الطبقات الاجتماعيّة أو مجموعات التأثير هي عبارة عن حصيلة العلاقة بين الأفراد الذين يشكلونها. ويخلص إلى نتيجة مفادها بأنّ رجال الأعمال ليسوا أقوياء لأنهم في الحكومة، بل هم في الحكومة لأنهم أقوياء. لكن في الحالة اللبنانيّة ثبت العكس، إذ قوي رجال الأعمال داخل السلطة وتضاعفت ثرواتهم باستخدام مقدّراتها ونفوذهم فيها، والعديد منهم ولد أصلاً من رحمها. والفكرة الرئيسيّة عند بولانتزاس هي أنّ الدولة تمتلك استقلالاً نسبيّاً عن الطبقة الرأسماليّة، في تعارضٍ مع الماركسيّة الكلاسيكيّة التي ترى أن الطبيعة الطبقيّة للدولة هي من شروط التراكم الرأسمالي. أمّا الانقسامات والمنافسات بين أطراف الدولة المهَيمَن عليها طبقياً، فإنها تساعد برأيه على تكوين هويتها وإعطائها صورتها النهائيّة، حيث يصعب على مجموعة واحدة بسط سيطرتها الكاملة على كل الأجهزة السياسيّة.
لا يتماشى هذا التحليل مع نوعيّة الصراعات في لبنان التي كانت حتى أواسط العقد الماضي تدور حول مسائل فرعيّة (كتوزيع الاعتمادات في الموازنة الحكوميّة، وتقاسم المنافع العامة، وتصحيح الأجور...) ولم تمسّ طبيعة الدولة والعلاقة بين أطرافها. لكن مع تطوّر الأزمة تعمّقت صراعات السلطة واتّسع نطاقها لتشمل قضايا تقع في أساس تكوين السلطة وتشكيل نخبتها، كالخلاف على التدقيق الجنائي ورفع السريّة المصرفيّة مؤقتاً، وتقييد تحويل الأموال إلى الخارج، واللامركزية الإدارية (والمالية) الموسّعة، والنقاش المستأنف بشأن قانون الانتخاب... ناهيك عن تحول تدريجي ومتعثّر في موقع التجمعات والنقابات المهنيّة في الحياة السياسيّة، بيد أن ذلك لم يصل، ولا يتوقع وصوله في وقت قريب، إلى ملامسة أسئلة الهوية السياسيّة للدولة لموانع داخليّة وخارجيّة عدة، رغم الصدع في أساس النظام الذي برهنت على وجوده بما لا يقبل الشك، مشاكل العقد الأخير وانهياراته.

الاكتتاب بدلاً من الجباية
وبقول أوضح، تكشف الأزمات الماليّة عن التناقض المتأصل بين الوظيفتين الأساسيتين للدولة: المشروعيّة من ناحية، وتحقيق التراكم الرأسمالي من ناحية ثانية. فالمشروعيّة تضطر الحكومات إلى زيادة الإنفاق لتلبية الطلب الاجتماعي على السلع العامّة، فيما تقتضي الوظيفة الأخرى تجنّب إحداث زيادات ضريبية ملموسة على الأعمال والثروات حتى لا يتضرّر تراكم الرأسمال. ونتيجة هذا التناقض هي إمّا أزمة ماليّة يتسبّب بها الركود ويهدّد التراكم، وإمّا تعميق أزمة مشروعية الدولة في نظر مواطنيها. ومن بين ثنايا هذه المفارقة تطلّ الديون العامة برأسها.
في لبنان لم تكن المنافسة بين التراكم والمشروعية بل بين نوعين من التراكم: تراكم مالي يمرّ عبر المصارف التي تتلقى تدفقات الائتمان الخارجي بتحفيز من السياسة النقديّة، وتراكم رأسمالي من خلال الموازنة العامة التي تتيح تقاسم أصحاب النفوذ لأموال آتٍ معظمها من الديون والضرائب. أمّا مسألة المشروعيّة فلم تطفُ على السطح، وظلّت على الهامش إلى حين اشتداد الأزمة وتأكّد الجمهور من الفشل الذريع للنخبة المسيطرة.
ينحدر بنا التحليل السابق إلى الخلاصة الآتية: إذا كانت الدولة، أي دولة، معنيّة بتجديد مشروعيتها فما عليها سوى الانخراط في الاقتصاد الرأسمالي الذي يتيح لها مراكمة الفوائض بصورة مباشرة من خلال الشركات المملوكة من الدولة، أو من خلال إقناع المستثمرين في القطاع الخاص والمواطنين الأثرياء بتدوير فوائضهم عبر إقراض الحكومة في مقابل حوافز وإعفاءات ضريبيّة. وكلا الأمرين، الانخراط الرأسمالي والاقتراض، يحرّر الدولة من التضارب بين تجديد المشروعية وتلبية الطلب الاجتماعي على المنافع العامة، ويعفيها من تبعات خوض غمار الصراع المرتبط بفرض ضرائب على المنتجين وأصحاب رأس المال. لكن الخروج من مفارقة المشروعية/الإنفاق على هذا النحو، ليس سهلاً إلّا من خلال الانزلاق إلى فخّ الدين العام، وهذا الأخير إما أن يلزمنا بفرض ضرائب عالية ومتزايدة في المستقبل لتسديد أقساطه وفوائده، أو يجرّنا إلى التعثّر والإفلاس. والاحتمال الأخير هو المرجّح، لأنّ الفوائد في الأسواق المالية تفوق عادة نسب النمو بمقدار الضعف على الأقل (كانت أعلى من ذلك في لبنان)، ما يجعل الديون قيداً ثقيلاً يشدّ الاقتصاد نحو الأسفل.
في لبنان لم تكن المنافسة بين التراكم والمشروعية، بل بين نوعين من التراكم: تراكم مالي يمرّ عبر المصارف التي تتلقى تدفقات الائتمان الخارجي بتحفيز من السياسة النقديّة، وتراكم رأسمالي من خلال الموازنة العامة التي تتيح تقاسم أصحاب النفوذ لأموال آتٍ معظمها من الديون والضرائب


لا نتحدث هنا عن اقتراض الدولة على المدى القصير لتسوية الفرق بين تياري النفقات والإيرادات، فالضرائب لا تدخل كل يوم إلى الخزينة بل في أوقات محدّدة من السنة، في حين يتسم الإنفاق بالاستمراريّة والتتابع على مدار السنة (تسمح المواد 88-91 من قانون النقد والتسليف في لبنان للقطاع العام بالحصول على تسهيلات صندوق من المصرف المركزي لمدة أشهر فقط في ما عدا الظروف الاستثنائيّة). أمّا الاقتراض على المدى الطويل فيرتبط بالطبيعة الرأسمالية للدولة التي تنفق أكثر مما تجبي بسبب قوّة نفوذ أقليّة صغرى من السكان فيها (غالباً أقلّ من الواحد في المئة من مجموعهم)، ممن تتمركز في أيديهم الثروة ورأس المال وتعمل الأنظمة والتشريعات لمصلحتهم. وبوسع هذه الأقليّة أن تعرقل وصول الدولة إلى الجزء الأكبر من الوعاء الضريبي، وفي الوقت ذاته تمارس ضغوطاً على الدولة لزيادة إنفاقها الاستثماري والجاري في المجالات المرتبطة مباشرة، أي أنها تطالب في آن معاً بزيادة الإنفاق وخفض الضرائب المباشرة. (بالتزامن مع التخلي عن تصاعديّة الضريبة كانت حصّة الإنفاق الاستثماري للفرد في المناطق الأكثر نمواً بلبنان تعادل ضعف مثيلاتها في المناطق الأقل نمواً، في تناقض واضح مع التنمية المتوازنة التي نصّ عليها اتفاق الطائف).
يصف ما تقدم بدقة ما كان يجري في لبنان، عندما ترافق بدء تنفيذ ما سمّي بخطة النهوض الاقتصادي في بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي مع اعتماد نظام جديد للضريبة على الدخل خفّض معدلاتها لتكون الأدنى في المنطقة ومن الأقل في العالم. وكانت الديون هي الإيرادات الاستثنائيّة التي عوّضت نقص الضريبة، وصبّت غالبيّة ريوعها في أيدي النخبة المالية المصرفيّة. فضلًا عن ذلك توغّلت السلطة في لبنان بعيداً من الشاطئ في البحث عن مشروعيّة بديلة، فلم تعمل على تكوين فوائضها الخاصة من خلال الاستثمار العام (نسبته من الناتج في لبنان هي من الأقل في العالم)، ولم تكتف بالديون الداخلية، بل سارعت إلى الاستدانة من الخارج لتمويل نفقات جارية، فيما تولى القطاع المالي تحويل الودائع إلى قروض عامة وخاصة غرضها تمويل استيراد السلع الاستهلاكيّة الضروريّة منها وغير الضروريّة، ومع أنّ هذه الخيارات غير مستدامة وتنطوي على مخاطر عاليّة، فقد كانت الثمن الذي لا بد منه للحفاظ على توازن النظام والدولة في ظلّ تغليب المشروعيّات الفرعيّة (الطائفيّة والفئويّة والزعاماتيّة)، على التراكم الذي كان بيئة مناسبة لتطوير مقارباتنا السياسيّة وترميم شروخ العقد الاجتماعي.