في إطار مفاوضات لبنان مع صندوق النقد الدولي سيتم التطرّق إلى إعادة هيكلة المصارف أو ما يسمّى آليات الإنقاذ - Bank Resolution - عبر إجراءات استثنائية. لكن منذ بداية الأزمة ولغاية الآن، يتركّز النقاش في هذه المسألة حول آليات الإنقاذ المصرفي من دون أي تحديد للمعايير التي يجب الاستناد إليها لإخضاع المصارف لعملية الإنقاذ. ما الذي يدفع لإنقاذ مصرف ما وترك مصرف آخر للغرق؟ في الواقع، يمارس مصرف لبنان عملية إنقاذ بعيداً عن كل هذا النقاش حتى قبل أن تخضع المصارف لعملية تقييم يفترض أن تُجريها لجنة الرقابة على المصارف في إطار المعايير الدولية لعمليات الإنقاذ. هذه الآليات تميّز، على أساس الأهداف، بين من يخضع لإجراءات الإنقاذ وبين من يخضع لآليات الإفلاس الاعتيادية. بهذا المعنى فقط يتحدّد من يبقى ومن يُشطب. ورغم أن لهذا المسار طابعاً تقنياً، إلا أنه في جوهره يتعلق بدور القطاع المصرفي في الاقتصاد. لذا، يكون تحديد معايير الإنقاذ بالاستناد إلى «المصلحة العامة». فهل تقتضي المصلحة العامة إنقاذ مصرف ما أو شطبه أو استملاكه أو وضع اليد عليه أو دعمه؟
Bail-out VS Bail-in
تشترط المعايير الأوروبية المطلوبة للإنقاذ عبر آليات التسوية الاستثنائية، أن تكون المصارف الخاضعة للآلية ذات أهمية للمصلحة العامّة. فلا يمكن أن يخضع بعض هذه المصارف لآليات الإفلاس العادية من دون إحداث آثار ضخمة على الاقتصاد. ويمكن أن تُترجم هذه العبارة بطرق مختلفة، فمثلاً هناك نظرية تتعلق بالمؤسّسات المصنّفة على أنها «أكبر من أن تفشل»، وهي التي تكون عادة منخرطة في النظام المالي إلى درجة يمكن أن يؤدّي فشلها إلى أضرار كارثية على الاقتصاد، إذا تمّ التعامل معها على أنها عملية إفلاس عادية.

إيغور سميرنوف ــ روسيا

وُلدت فكرة وضع آليات الإنقاذ عبر التسوية الاستثنائية، لتكون بديلاً من فكرة الإنقاذ بواسطة المال العام أو ما يسمّى «Bail-out» التي سادت أثناء الأزمة المالية العالمية عام 2008 وكلّفت البلدان المتقدّمة كثيراً. وبموجب الـ«Bail-out» تضخّ الدولة أموالاً من الخزينة العامة في المؤسّسة المعنية لإنقاذها من الإفلاس رغم مخاطر فشل المؤسّسة بعد إنقاذها ما يجعل الأموال التي ضُخّت فيها مهدورة. لذا، طوّرت الدول «المتقدّمة اقتصادياً» آليات بديلة بعدما واجهت خلال الأزمة المالية العالمية، صعوبات في إخضاع بعض المؤسسات الكبيرة إلى آليات الإفلاس التقليدية معتبرة أنها مضرّة «بالمصلحة العامة»، فأُجبرت على الـ«Bail-out». إلا أنه بعدما ثبت ارتفاع كلفة هذه التجربة على المصلحة العامة، صار اعتماد الدول أكثر على آليات تسوية استثنائية لإنقاذ المصارف بواسطة أدوات تنسجم مع الهدف من الإنقاذ ومع أوضاع المصارف المستهدفة:
- الإنقاذ من الداخل أو ما يُعرف بالـ«Bail-in».
- بيع المصرف إلى طرف ثالث.
- تحويل ملكية المصرف (الأصول والمطلوبات والحقوق) إلى طرف ثالث يسمّى «المؤسّسة الجسر» (Bridge Institution).
- نقل الأصول والمطلوبات والحقوق التابعة للمصرف إلى أداة تُعنى بإدارتها، تٌسمّى «Asset Management Vehicle».

شروط الإنقاذ
حدّد الاتحاد الأوروبي عدة معايير وشروطٍ لاختيار المؤسّسات/ المصارف المؤهّلة للخضوع إلى آلية التسوية الاستثنائية، من أبرزها:
- أن تكون المؤسّسة مصنّفة فاشلة أو تملك احتمالات عالية للفشل بحسب تقدير السلطات المختصّة بإدارة عملية التسوية.
- أن لا يكون هناك أي إجراءات إشرافية من شأنها منع فشل المؤسسة في غضون مدّة زمنية معقولة.
- أن يكون إجراء عملية التسوية ضرورياً للمصلحة العامّة، أي أن أهداف عملية التسوية كلها تقوم على ما إذا كان محتماً إخضاع المؤسّسة لإجراءات الإفلاس العادية.
الأهداف العامّة لعملية التسوية هي ضمان استمرارية الوظائف الحيويّة للقطاع المصرفي. وهي وظائف اقتصادية يكون لإيقافها انعكاسات مضرّة بالاقتصاد الحقيقي وبالاستقرار المالي. بمعنى آخر، التأكد مما إذا كان إفلاس المؤسسة المالية المعيّنة يؤثّر على استمرارية الوظائف الحيوية للقطاع المصرفي... فعندها يكون هذا المصرف مؤهّلاً لعملية التسوية. ويُعد تلقّي الودائع، إحدى الوظائف الأساسية للمصرف ويلعب دوراً في الدورة الاقتصادية ويؤمّن السيولة للإقراض، وبالتالي يكون له أثر مباشر على حجم الاستثمارات وعلى الاستهلاك. ويؤخذ في الاعتبار إذا كان التعامل مع المؤسّسة التي تقع تحت الدراسة بموجب إجراءات الإفلاس العادية، يؤثّر على عملية تلقّي الودائع لدى المصارف الأخرى، أو أن هذه المؤسّسة تستحوذ على حصّة كبيرة من عملية الإيداع في الاقتصاد.
وظيفة الإيداع لم تعد موجودة في القطاع المصرفي، لذلك لا يؤثّر إفلاس المصارف على هذه الوظيفة، خصوصاً بعدما فُقدت الثقة في القطاع وتضاءلت عمليات الإيداع في النظام المالي كله.
كذلك الأمر من ناحية الإقراض. وهي وظيفة أساسية يعتمد عليها الاقتصاد الحقيقي وتوقّفها يؤدّي إلى انكشاف المقترضين، مؤسسات وأفراداً، على مخاطر فقدان السيولة. وتعتمد أهميّة المؤسّسة التي تقع تحت الدراسة في هذه الوظيفة، على وجود بدائل أخرى للإقراض في النظام المالي، أي قدرة المصارف الأخرى على تغطية عمليات الإقراض التي كانت من حصّة المؤسسة المتعثّرة. مجدّداً، إذا أُخذت هذه الوظيفة في الاعتبار في لبنان، فإنها تكاد تكون معدومة في السنتين الأخيرتين، لذا من غير الممكن تقييم انعكاس إفلاس أي مصرف لبناني على هذه الوظيفة.
كلما كانت إجراءات الإفلاس العادية حسّاسة تجاه القطاع بكامله مالت الإجراءات الأوروبية نحو الإنقاذ بالآليات الاستثنائية


إضافة إلى ذلك، هناك وظيفة «للدفع والمقاصّة والتسوية». فالمصرف يلعب دوراً وسيطاً بين مجموعات الزبائن المحليين والخارجيين ما يستوجب التمييز بين العمليات الخارجية والداخلية خلال تقييم كل مؤسسة. وهذه الوظيفة في شقّها الداخلي مهمّة للحركة الاقتصادية لأنها تسهِّل عمليات الدفع عبر التحويلات أو الشيكات، فتسهم في خفض كلفة المعاملات الاقتصادية وتجعلها أكثر سرعة وفاعليّة. في هذا الشق، لا تزال المصارف تلعب دوراً في الداخل إنما تُقلّص مع تقلص سيولتها بالليرة. تقييم المصارف المتّصل بهذه الوظيفة ينطلق من مدى تركّزها في مصرف معيّن أو مجموعة مصارف. ففي حالة التركّز لدى مصرف أو مجموعة مصارف وتعرّض المصرف لإجراءات الإفلاس الاعتيادية، تصيب التداعيات القطاع المالي كله. وإذا لم يكن هناك مصارف بديلة للقيام بهذه الوظيفة، يخضع المصرف إلى آلية إنقاذ بدلاً من الإفلاس. وعندما يجري تقييم وظيفة «الدفع والمقاصّة والتسوية» بشقّها الخارجي، تصبح المعايير أكثر أهمية في تحديد الإجراءات التي يجب أن تخضع لها المصارف (إنقاذاً أو إفلاساً)، لأنها مؤشّر إلى استمرار تدفّق الأموال من الخارج.
بشكل عام، كلما كانت إجراءات الإفلاس العادية حسّاسة تجاه القطاع بكامله، مالت الإجراءات الأوروبية نحو الإنقاذ بالآليات الاستثنائية. فإذا كانت إجراءات الإفلاس العادية لأحد المصارف تؤثّر في حالة لبنان، فإن ذلك يعني أن الآليات الاستثنائية لتسوية أوضاع المصارف، لا يجب أن تسري على القطاع المصرفي بمجمله، بل أن تكون انتقائية بعدما فقد عدد كبير من المصارف دوره في أداء وظائف القطاع الحيوية. بمعنى آخر، إن إفلاس هذه المصارف بالإجراءات التقليدية لن يؤثّر على وظائف القطاع.



أدوات آليات التسوية الاستثنائية

الـ«Bail-In»
تسمح هذه الأداة للسلطة بإدارة آلية التسوية بإلغاء و/ أو تقليل و/ أو تحويل المطلوبات المؤهّلة إلى رأس مال، بهدف استيعاب الخسائر وإعادة رسملة المؤسسات المعنية. ويمكن استخدام هذه الأداة على أساس مستقلّ في عملية «Bail-In» مفتوحة، أي أنها تُعتمد في حالة الظن أن المؤسسة ستعود إلى حالتها المالية المتينة. في هذه الحالة، يكون الهدف هو استعادة نسبة رأس المال المطلوبة في المعايير العالمية والحفاظ على ثقة السوق، وتمكين المؤسّسة من مواصلة العمل والإيفاء بكل المتطلبات. ويمكن أيضاً استخدام أداة الـ«Bail-In» جنباً إلى جنب مع الأدوات الأخرى.

بيع المؤسسة
تجري تسوية أوضاع المؤسّسة ببيعها كلها أو بيع جزء منها إلى جهة أو أكثر، من دون موافقة المساهمين فيها. وهناك نوعان من العمليات:
(1) «صفقة الأسهم»:
أي نقل الأسهم أو غيرها من أدوات ملكية المؤسسة المتعثرة إلى المشتري.
(2) «صفقة الأصول»:
أي نقل أصول أو حقوق أو التزامات المؤسسة المتعثرة إلى المشتري. ويمكن استخدام هذه الأداة على أساس مستقل أو بالاشتراك مع أدوات أخرى. تعتمد هذه الأداة على توفر المشترين.

أداة «المؤسسة الجسر»
تسمح هذه الأداة للسلطات المسؤولة عن عملية التسوية، بنقل أدوات الملكية (مثل الأسهم) أو الأصول أو الحقوق أو الالتزامات الخاصة بالمؤسسة الفاشلة إلى مؤسّسة أخرى تسمّى «جسراً». سبب التسمية لأن العملية تتم من دون موافقة مساهمي المؤسّسة الأولى أو أي طرف ثالث على عملية النقل هذه لأنها مؤقتة في انتظار البحث عن حلّ نهائي. هذه الأداة مشابهة لعملية الاندماج والاستحواذ، إذ يتم التحويل القانوني إلى المؤسّسة الجسر. ويتم اختيار العناصر، الخاصة بالمؤسسة الفاشلة، المراد تحويلها بهدف الحفاظ على الوظائف الحيوية للبنك، في حين قد تتم تصفية باقي العناصر بموجب إجراءات الإفلاس العادية.
أداة مؤسسة الجسر هي إجراء مؤقّت لضمان تحقيق أهداف التسوية قبل إيجاد حلّ للقطاع الخاص. أيضاً، يمكن استخدام أداة مؤسّسة الجسر على أساس مستقلّ أو بالاشتراك مع أدوات حلّ أخرى. من حيث المبدأ، لا يُتوقع أن يتجاوز عمر هذه الأداة الافتراضي عامين، رغم أنه في ظل ظروف معينة، يجوز لسلطات القرار تمديد هذه الفترة سنة واحدة أو أكثر.

فصل الأصول
تسمح هذه الأداة بنقل الأصول أو الحقوق أو الالتزامات من المؤسسة الفاشلة أو «المؤسّسة الجسر» إلى أداة إدارة الأصول من دون موافقة مساهمي الكيان المتعثّر أو أي طرف آخر. عادةً، تُستخدم هذه الأداة لعزل القروض المتعثّرة للكيان عن طريق نقلها إلى إدارة جديدة حيث يمكن إدارتها بأكبر قدر ممكن من الكفاءة.