قبل فترة، أعلنت شركة «عز الدخيلة» - هي جزء من «مجموعة العز»، صاحبة أكبر حصّة سوقية في قطاع الحديد والصلب - أنها تنوي شراء حصّة أحمد أبو هشيمة في شركة «حديد المصريين» والبالغة 18%، علماً بأن باقي الأسهم مملوكة من الجيش المصري. ويتعامل السوق المصري مع أبو هشيمة باعتباره واجهة شراء وسيطة للجيش، (سبق أن اشترى شركات إعلامية وباعها للجيش). وفي المقابل، أحمد عز، صاحب مجموعة العزّ، هو إحدى الشخصيات التي كانت محسوبة على نظام الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، إلا أنه فرّ من مصر بعد ثورة 25 كانون الثاني 2011، وحوكم غيابياً. لكنه رحّب بالانقلاب العسكري في عام 2013 وعاد إلى مصر. بهذه الخلفية، يتم التعامل مع صفقة عزّ الدخيلة - أبو هشيمة، باعتبارها تعديلاً في الواجهة الوسيطة للجيش الذي يتوسّع نشاطه الاقتصادي. فاعتماد أحمد عزّ هو بمثابة تحالف جديد بين الجيش وأكبر اللاعبين في السوق، ولا يُستبعد أن يكون بقرار من الجيش.





قطاع الحديد المشبع
يُعدّ قطاع الحديد في مصر قطاعاً مُشبعاً. الجزء الأكبر منه تابع للقطاع الخاص، علماً بأن الدولة كانت من أوائل المستثمرين فيه في نهاية الخمسينيات. إلا أن دور الدولة في القطاع تراجع منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا. هو قطاع مُشبع لأن إنتاج الحديد في مصر تخطّى استهلاكه بشكل متواصل منذ عام 2000 حتى اليوم. ففي عام 2017 بلغ إنتاج الحديد في مصر نحو 6.5 ملايين طن، وهو ما ترك 35% من سعة الإنتاج غير مستغلّة. ورغم ازدياد الطلب على هذه السلعة إلى 8 ملايين طن بسبب مشاريع البنى التحتية الضخمة في عام 2018، إلا أنه ما زال دون القدرة الإنتاجية البالغة 13.5 مليون طن، أي نحو 41% من سعة الإنتاج لم تكن تُستخدم. فمن منطلق مالي بحت، تُعد الاستثمارات التي ضُخت في هذا القطاع، سواءً كانت استثمارات خاصة أو عامة، استثمارات فاشلة لأن 40% منها لا تأتي بمردود.
وينقسم قطاع الحديد في مصر إلى صلب مسطّح وقضبان الحديد والحديد الخام، ولكل منها سوقه الخاصة وحصصه السوقية. والجدير بالذكر أن مجموعة «العزّ»، التي تملك «العزّ للحديد» و«العزّ الدخيلة للحديد»، تستحوذ على أكبر حصّة سوقية في كل من هذه الأقسام من الإنتاج. فالمجموعة تستحوذ على 42% من سوق الحديد الخام، وعلى 25% من سوق قضبان الحديد، و16% من سوق الحديد المسطّح.
ويأخذ هذا القطاع حيّزاً مهمّاً في الاقتصاد المصري لأن إنتاجه يشكّل مدخلات وسيطة في العديد من عمليات الإنتاج الأخرى. وأهمّ عمليات الإنتاج التي يدخل فيها الحديد تحدث في قطاع الإنشاءات، الذي يُعتبر أكبر قطاع في الاقتصاد المصري، مع القطاع المالي.



الدولة تخرج من القطاع
تستعدّ الدولة المصرية للخروج النهائي من قطاع الحديد والصلب. وتجدر الإشارة إلى أن الحكومة المصرية دخلت هذا المجال في نهاية الخمسينيات، عندما أنشأت، في حلوان، أول مصنع متكامل لصهر خامات الحديد. وقد تبع هذه الخطوة إنشاء ثلاث شركات أخرى تابعة أيضاً للحكومة المصرية. إلا أن الدولة المصرية تخلّت عن هذا القطاع تباعاً، حيث صفّت، بدايةً، شركة «الأهلية للصلب» في عام 1998، ثم أعلنت عن توقّف نشاط الحديد الصلب في شركة «النحاس» التابعة لها، وأخيراً أعلنت في بداية السنة الحالية تصفية الشركة المصرية للحديد والصلب، كما أن هناك حديثاً عن تصفية شركة «دلتا» التابعة للحكومة أيضاً. وهكذا تكون الحكومة المصرية قد تخلّت عن آخر شركاتها في هذا القطاع.

2.5 مليار

جنيه مصريّ أو نحو 159 مليون دولار هي قيمة عملية شراء أسهم أحمد أبو هشيمة في شركة حديد المصريين من قبل شركة «عز الدخيلة»


إن هذا الأمر هو أحد أوجه تفكيك الاستراتيجية الناصرية التي كانت تعتمد بشكل كبير على تشييد المصانع والشركات التابعة للدولة. هذا التوجه نحو التصفية بدأ في عهد الرئيس أنور السادات، مع اعتماد سياسة «الانفتاح» التي اتّبعها، والتي كانت مسؤولة عن «لبرلة» الاقتصاد المصري. وقد أكمل هذا النهج خلفه، حسني مبارك، من بداية الثمانينيات حتى خروجه من سدّة الحكم عام 2011. وبعد وصول السيسي إلى الحكم في عام 2013، أُكمل هذا المسار الذي يمكن الاستدلال عليه من خلال تطورات قطاع الحديد في السنوات الأخيرة.

الجيش يسيطر
اقتصر وجود الجيش المصري في قطاع الحديد على شركة أبو زعبل، التابعة لوزارة الإنتاج الحربي، منذ الخمسينيات. ولم يتحرّك الجيش في هذا القطاع حتى عام 2016، عندما استحوذ «جهاز مشروعات الخدمة الوطنية»، المرتبط بالقوات المسلحة المصرية، على شركة السويس للصلب، وهي كانت ثاني أكبر شركة مصنّعة للحديد في مصر. وقد استغل الجهاز وقوع الشركة في خسارة قُدرت في عام 2015 بنحو 1.48 مليار جنيه مصري (نحو 200 مليون دولار في ذلك الوقت). اشترى جهاز مشروعات الخدمة الوطنية 40% من أسهم الشركة، وزاد رأس مالها لتسديد الديون والقيام باستثمارات لتوسعة الإنتاج، فأصبح يملك 82% منها.


أكمل الجيش هذا المسار من خلال شراء شركة حديد المصريين في شهر تشرين الأول من عام 2018. وقد تمّت عمليّة الشراء هذه من الشريك القطري، المتموّل محمد بن سحيم آل ثاني، (الذي كان يملك 70% منها)، وتبعها إزاحة أحمد أبو هشيمة من إدارة تنفيذها. هذا الأخير كان قد صرّح قبل سنة أنه يتوقّع نمواً كبيراً في مبيعات الشركة، ويقدّر أن تبلغ حصتها من السوق ما بين 20% و25%. إلا أن أزمة الغاز والكهرباء، التي ضربت القطاعات الصناعية في مصر في العام التالي، وضعت شركته في موقفٍ محرج. ووُضعت شركة أبو هشيمة تحت الضغط لسداد نحو 3 مليارات جنيه مصري من الديون، أي نحو 191 مليون دولار في ذلك الوقت. يُلمّح تقرير لمركز كارنيغي لدراسات الشرق الأوسط، تحت عنوان «أصحاب الجمهورية»، إلى أن هذه الضغوطات على الشركة كانت بهدف فرض انتقال ملكية الشركة إلى الجيش، وهو أمر كان قد حصل مع أبو هشيمة قبل ذلك عندما فرضت عليه مخابرات الجيش بيع شركته الإعلامية، التي كان قد اشتراها من نجيب ساويرس قبل سنتين. واليوم يبيع أبو هشيمة حصته الباقية من شركة حديد المصريين إلى شركة عز للحديد، لتنتهي بذلك شراكته مع الجيش المصري.

خرج أبو هشيمة من قطاع الحديد بعد قيام تحالف جديد بين الجيش وأحمد عز أكبر اللاعبين في السوق بقرار لا يُستبعد أن يكون الجيش فرضه


لقد أنقد الجيش، بالفعل، الشركتين المذكورتين من الإفلاس. لكنّ الدافع لم يكن كسر الاحتكارات أو تثبيت أسعار الحديد، أو المساعدة في تطوير القطاع. فقد عزل الجيش الشركتين عن مخاطر السوق، مثل منافسة الحديد المستورد، ونقص الدولارات، ونقص الطاقة، وتقلّب أسعار الصرف وغيرها. وذلك فقط لأن هاتين الشركتين تابعتان للجيش، الذي يمتلك المقدرات لمواجهة كل هذه المخاطر. كما أن الطلب على إنتاج الشركتين شبه مضمون بسبب مشاريع البنى التحتية الضخمة التي تقوم بها الدولة المصرية. هذا الأمر يجعل المنافسة بين هاتين الشركتين والقطاع الخاص غير متكافئة، إذ إن الشركات الخاصة تتعرض لمخاطر أكبر بكثير من الشركتين التابعتين للجيش، ما يسمح للجيش بالتحصّل على حصّة سوقية كبيرة، تبلغ اليوم نحو 16% من السوق، كما يفتح له المجال للاستحواذ على حصّة أكبر في المستقبل، يُقدّرها تقرير كارنيغي بنحو 27%، إذا طُبّقت خطط توسيع الإنتاج في الشركتين. وإذا تم الأمر، تكون حصّة الجيش السوقية من القطاع قد أصبحت مرتفعة كفاية لفرض ما تريده في السوق، سواء كان هذا الأمر متعلّقاً برفع الأسعار أو خفضها أو حتى إخراج المنافسين من السوق.



جهاز مشروعات الخدمة الوطنيّة: الأداة السوقية
جهاز مشروعات الخدمة الوطنية هو جهاز تابع للقوات المسلحة المصرية، تأسّس في عهد الرئيس أنور السادات لضمان الاكتفاء الذاتي من احتياجات القوات المسلحة. خلق هذا الجهاز فائضاً في الإنتاج في السوق المحلية، في قطاعات الإنشاءات والزراعة والغذاء ومنتجات الألبان. كما ساهم «جهاز مشروعات الخدمة الوطنية» في المشاريع التي كانت تنفذها الدولة بهدف التنمية الاقتصادية في جميع أنحاء مصر، مثل مشاريع البنى التحتية والتنمية في المقاطعات الحدودية. في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، توسّعت سلطات الجهاز بشكل تدريجي. وأصبح لاعباً فاعلاً في الأسواق المصرية، بالأخص في شراء الشركات الخاصّة التي تعاني من أزمات مالية. حتى إنه في شهر آذار من عام 2020 وقّع صندوق الثروة السيادي المصري اتفاق تعاون مع «جهاز مشروعات الخدمة الوطنية»، ما شكّل محاولة من قبل القوات المسلحة المصرية لجعل أصول الجهاز أكثر جاذبية للاستثمار المحلي والأجنبي وتوسيع قاعدة ملكيته من خلال اختيار الشركات الناجحة اقتصادياً التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية وطرح أسهمها للشراء في البورصة. الآن، هذا الجهاز هو من أكبر المحرّكات في الاقتصاد المصري، ويشارك، كذراع للجيش، في جميع القطاعات وينافس القطاع الخاص.