لماذا التوجّه شرقاً؟ السؤال بحدّ ذاته يطرح إشكاليتين في آنٍ واحد. الأولى تكمن في طرح السؤال بحد ذاته كأنه مخالف لمشيئة إلهية أو للطبيعة أو أي مرجعية لا يمكن مناقشتها. قد يعود ذلك إلى تجذّر الشعار في الوعي اللبناني بأن لبنان جسر بين الشرق والغرب، بينما فعلياً، هناك نخبة حكمت وما زالت متحكّمة بالأمور تعتقد أنه امتداد للغرب في المشرق العربي. أما الإشكالية الثانية فهي التهيّب من تداعيات هذا التوجه على مصالح النخب الحاكمة وعلى وعي اللبنانيين. لهذا التوجّه أسباب سياسية واقتصادية وفكرية؛
- سياسياً، كان التماهي مع الغرب مضرّاً للبنان. فالغرب لم يكن يوماً صديقاً للبنان إلاّ بمقدار ما كان يشكّل منبراً لأعداء الحركات التحرّرية في الوطن العربي، وبمقدار ما كان يشكّل دولة حاجز بين الكيان الصهيوني المحتلّ والعمق المشرقي العربي، وبمقدار ما قد يكون منصّة للتطبيع مع الكيان الصهيوني المحتلّ. فقرارات مجلس الأمن ظلت حبراً على ورق عندما لم تكن لمصلحة الكيان الصهيوني المحتل، ولا سيما بعد احتلال لبنان في عام 1978 ولاحقاً في عام 1982. لكن لبنان استرجع أرضه المحتلّة بفعل المقاومة التي دعمتها دولة مشرقية نُعتت بالإرهاب بسبب ذلك. والغرب تصرّف مع لبنان من موقف العداء والاستعلاء، وليس من موقف الصداقة التي يزعم بعض اللبنانيين أنهم امتداد له. فالأزمة الاقتصادية الحالية ناتجة من فساد وسرقة من قبل سلطة حاكمة حماها الغرب وندّد بكل محاولات إصلاحية تحدّ من استشراء فسادها وخصوصاً في حقبة الطائف. والغرب يحاول درء اللوم عن نفسه عبر إلقاء اللوم على المقاومة واتهامها بكل ما يحصل. ويمكننا الاسترسال في الأسباب السياسية التي تجعل التعامل مع الغرب عملاً عبثياً لا جدوى منه، لكن نكتفي بالتركيز على المواقف العدائية للبنان في المحاصرة الاقتصادية التي يفرضها الغرب بقيادة الولايات المتحدة وبمشاركة بعض الدول العربية خدمة للكيان الصهيوني المحتل.
فلوريان دورو كريهانا ــ رومانيا

من دلائل عدم الصداقة مع لبنان ثناء الخزينة الأميركية على سلوك النظام المصرفي اللبناني الرامي إلى تجويع اللبنانيين، لإتاحة المجال أمام انتفاضة البيئة الحاضنة للمقاومة على المقاومة وحلفائها. لقد أقدم النظام المصرفي على العمالة لمصلحة الولايات المتحدة، إنما في آخر المطاف هو لمصلحة الكيان الصهيوني. فجهاز مكافحة تبييض الأموال في الخزينة الأميركية أُنشئ لخدمة الكيان ومحاربة القوى التي تواجهه. دليل آخر، هو توقّف التنقيب عن الغاز من قبل شركة «توتال» من دون تبرير، اللهم إلا الامتثال لقرار أميركي. دليل آخر على «عدم الصداقة» هو تدخّل الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص في الشأن التفصيلي اللبناني كقضايا التعيينات ومعاقبة الفاسدين الذين تغطيهم الولايات المتحدة إلى فرض العقوبات على شخصيات لبنانية من دون إبراز أي دليل عن فسادها إلا مواقفها غير المتماهية مع السياسة الأميركية. لا ننسى أيضاً موقف إدارة بوش الابن من الرئيس السنيورة التي اعتبرته خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه. فمن يمسّ بالرئيس السنيورة يمسّ بالأمن القومي الأميركي! والرئيس السنيورة لم «يرفّ له جفن» من مطالب اللبنانيين، كما صرّح. بل ما زال عاجزاً عن تقديم تفسير عن المبالغ المقدّرة بالمليارات التي اختفت من حسابات وزارة المالية. لذا، يمكن القول إن الغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، يغطّون الفساد في لبنان، بل يشجّعونه لأنه يخدم سياساتهم ويهدف إلى تدمير النسيج الاجتماعي المحلي خدمة للكيان الصهيوني المحتلّ.
- اقتصادياً، إن المقاربة تكمن في مقارنة ما يقدّمه الغرب وما تقدّمه دول الشرق. فالغرب لم ينظر يوماً إلى لبنان وسائر دول المشرق العربي بعين الراغب الفعلي في التعاون. الغرب يريد أسواقنا ولا يعرض أسواقه إلا وفقاً لشروط تعجيزية. التجارة البينية بين لبنان والصين أهم من التجارة البينية مع أوروبا. الاستثمارات الأوروبية في لبنان ضعيفة حتى في القطاع المالي الذي شهد انسحاب العديد من الشركات المالية الأوروبية. في المقابل يغضب الغرب إذا حاول لبنان التوسّع في العلاقات مع سوريا والعراق وروسيا والصين والجمهورية الإسلامية في إيران. الغرب سلبي تجاه لبنان عبر التاريخ القديم والمعاصر وخصوصاً بعد الحرب الأهلية وقيامه بتشجيع منظومة الفساد على تدمير لبنان.
أما في ما يتعلّق بالشرق، فالعروض التي قدّمتها حكومات عديدة كالصين وروسيا وإيران كانت، لو قُبلت، ستساهم في إخراج لبنان من المستنقع المالي والاقتصادي الذي أوصلته إليه منظومة الفساد المدعومة من الغرب، وكانت ستؤمن الخدمات الأساسية في الطاقة والمياه. كما أن مشاريع إعادة تأهيل مرافئ لبنان، ولا سيما بعد تفجير مرفأ بيروت وإعادة تأهيل شبكة الطرقات والبحث في شبكات سكة الحديد، كانت لتشكّل قفرة نوعية في مشروع نهوض لبنان. نلاحظ هنا الغياب الغربي عن هذه الملفّات بينما العروض الشرقية امتازت ليس فقط بجدواها التقنية والمدّة القصيرة نسبياً لإنجازها، بل بكلفتها المعقولة وتسهيلات الدفع بالليرة اللبنانية.
هذا من ناحية العروض الاستثمارية. أما الشق الآخر للانفتاح على الشرق فيكمن في إعادة العلاقات التجارية مع سوريا ومعها العراق والأردن. لكنّ قصر النظر من قبل طبقة حاكمة خنوعة وخاضعة للقرار الغربي، ما زالت متردّدة في حتمية الانفتاح تجاه سوريا سياسياً واقتصادياً وأمنياً خشية من الولايات المتحدة. هذا دليل إضافي على عدم صدقية «صداقة الولايات المتحدة» التي سعت بسياساتها إلى تدمير لبنان (تصريحات بومبيو دليل على ذلك) وإن دمّرت بذلك أصدقاءها وحلفاءها المحليّين.
الغرب يريد أسواقنا ولا يعرض أسواقه إلا وفقاً لشروط تعجيزية بينما التجارة البينية بين لبنان والصين أهم من التجارة البينية مع أوروبا


واستكمالاً للانفتاح على سوريا، فمن الطبيعي الانفتاح على الجمهورية الإسلامية في إيران التي برهنت عملياً عن استعدادها لمساعدة لبنان عبر كسر الحصار النفطي عليه. لسنا هنا في إطار تعداد المنافع التي يمكن أن يجنيها لبنان من الانفتاح على إيران، بل نعتقد أنه من الضرورات لعملية النهوض الاقتصادي، عبر التشبيك الاقتصادي مع دول الجوار في المشرق العربي بعيداً من الاعتبارات السياسية التي توكّد أن ذلك المحور المقاوم مصيره السياسي والاقتصادي واحد غير قابل للتجزئة. ما نريد أن نركّز عليه هو أن نهوض لبنان مرتبط عضوياً بنهوض سوريا، وأن التخطيط للنهوض في لبنان، عندما تتشكل حكومة قادرة عليه، هو ضرورة لنجاح المشروع اللبناني.
ومع التوسّع الجغرافي لمفهومنا للشرق عبر ضمّ دول الجنوب، فإن دولة جنوب أفريقيا مرشّحة لتلعب دوراً مهماً ولا سيما أنها قد تكون مع كل من نيجريا ومصر وإثيوبيا قاطرة القارة الأفريقية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى دول أميركا اللاتينية كفنزويلا والبرازيل وكوبا والأرجنتين والتشيلي. هذه الدول لديها ما يمكن أن تقدّمه في مشروع نهوض لبنان.
- من هنا ندخل إلى البعد الفكري والجيوسياسي لمشروع التوجّه شرقاً وجنوباً. إن دول الكتلة الأوراسية، أي الصين وروسيا، تعرض نموذجاً للعلاقات الدولية مختلف عن النموذج الذي تسعى الولايات المتحدة لفرضه قسراً على العالم. فالنموذج الأوراسي يعتمد القانون الدولي والمعاهدات وقرارات مجلس الأمن وأحكام المحكمة الدولية قاعدة للتعامل بين الدول، بينما الولايات المتحدة تريد أن تفرض نظاماً يعتمد القيم والأحكام كقاعدة للتعامل. وبما أنه ليس هناك أي قاعدة قانونية لخيار كهذا، يصبح تحديد القيم والأحكام التي تتجاوز حدود الدول وتخترق سيادتها محصورة بالولايات المتحدة. لذا، نرى ضعف التأييد لهذه المنظومة خارج التحالف الأنغلوساكسوني الذي يضمّ الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا وإلى حدّ ما كندا. وفي المقابل، إن المنظومة الأوراسية تحترم الحدود وتتجنّب التدخّل في شؤون الدول كما تقوم به الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية.
أما الميزة الثانية فهي أن دول الكتلة الأوراسية تعتمد قاعدة المنفعة المشتركة. وبها تصبح جميع الأطراف المتعاقد رابحة بشكل عادل وليس على قاعدة الغالب والمغلوب كما يريده الغرب بشكل عام. ونتائج ذلك تتبلور يوماً بعد يوم في العديد من الدول الآسيوية التي قرّرت التعامل مع الكتلة الأوراسية غير مكترثة للمشيئة الأميركية. هذا يعني أن الالتحاق بالكتلة الأوراسية يعني في مستقبل قريب، الالتحاق بمنظومة شنغهاي الأمنية التي تثبت عن جدارتها مع إخفاقات التفاهمات مع الولايات المتحدة التي تنقضها متى اقتضت الحاجة الأميركية إليها. فهناك استقرار في المنظومة الأمنية لمنظمة شنغهاي، مقابل منظومات غربية عدوانية تجاه الغير.
الميزة الثالثة للتوجّه شرقاً، هي في أن المستقبل في الفضاء الاقتصادي والاجتماعي هو في التواصل والتواصل الفائق السرعة (hyperconnectivity). دول الكتلة الأوراسية تعرض ذلك وبدأت بتنفيذها بينما الغرب بشكل عام والولايات المتحدة متأخّران في هذا المجال. لبنان لا يستطيع أن يكون خارج عالم المعرفة وعالم الذكاء الاصطناعي الذي سيتعمّم عبر الشبكة التواصلية السريعة. اقتصاد الغد يعتمد التواصل السريع في شتى القطاعات من الزراعة إلى الصناعة إلى التربية والاستشفاء وإلى قطاعات الأمن والدفاع والبيئة. والتواصل الإلكتروني يفرض التواصل الجغرافي عبر شبكة الألياف البصرية وسكك حديد القطار السريع، ما يعطي بُعداً مختلفاً عن مفهوم طريق الحرير القديم. فطريق الحرير الجديد هو طريق سريع جغرافياً وفائق السرعة إلكترونياً. علينا أن نتصوّر الانتقال من بيروت إلى بيجينغ (نحو 7 آلاف كيلومتر) برّاً بأقل من يوم، فالعالم يصبح فعلاً قرية كبيرة.

* باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والاجتماعي