تعدُّ نشأة البنك المركزيّ مرحلةً متقدّمةً من المراحل التي ساهمت في تطوّر المصارف التجاريّة في القرن التاسع عشر. وخلافاً للرّوايات الرسمية، فقد كان المصرف المركزي ملازماً للثّورات البرجوازية، مثل تلك التي انفجرت في بريطانيا عام 1688، وأسفرت عن ظهور مصرف إنكلترا بعد بضع سنوات، ومثل الثورة البرجوازية في فرنسا التي بدأت عام 1789 وأسفرت في العام التالي عن تأسيس مصرف فرنسا المركزي. وفي اليابان استمر إصلاح ميجي طيلة السّتينيات وحتى آخر الثمانينيات، ما أسفر في 1882 عن تأسيس مصرف اليابان المركزي. هذه النُخب البرجوازية ترتبط ببعضها، إذ لم تكن واحدة في بعض الأحيان. من هنا يمكن تصوّر خطورتها على سياسات البلدان النامية، ويمكن في السياق نفسه أيضاً تصوّر خطورتها في لبنان .في نهاية عام 2020، بلغ دين الحكومة الأميركيّة أكثر من 20 تريليون دولار مقارنة مع نحو تريليونَي دولار في 1990. لا شيء يُمكن أن يوقف اقتراض الحكومة الأميركيّة، باستثناء الوصول إلى سقف الاقتراض المسموح به. لكن هذا الأخير، جرى رفعه أيضاً أكثر من 70 مرّة منذ عام 1962 إلى أن جرى، أخيراً، تعليق العمل به منذ عام 2019، ليتمّ تجاوزه باستخدام صلاحيات وزير الخزانة. وفي نهاية نيسان 2021، تخطّى حجم الدين الإجمالي للحكومة الأميركيّة 28 تريليون دولار، وهو الآن يزداد.

سلطة التحكّم بالنقد
لعلّ المرّة الوحيدة التي لم تكن فيها الولايات المتحدة الأميركيّة مدينة، هي في عهد الرئيس الأميركي السّابع أندرو جاكسون (1829 إلى 1837). صورته موجودة على ورقة الـ20 دولاراً أميركياً. ففي عهده جرى تصفير الدين، واستطاع بذلك أن يُبرهن للأميركيّين أنهم قادرون على العيش بلا ديون. لكن اللّافت في هذا الرئيس، ورغم مشاركته في قتل الهنود، أنه كان الشّخصيّة الأكثر أهميّة في الصّراع ضد أسياد المال. فهو الرّئيس الوحيد الذي استطاع أن يسحب الترخيص من «بنك الولايات المتحدة الأميركية الثاني» الذي كان يمنحه صلاحيّات المصرف المركزي، وبمثابة الوكيل المالي في البلاد. فقد أدرك جاكسون خطورة المصرف المركزي لكونه يمثّل فرعاً مستتراً مستقلّاً عن فروع السّلطة الظّاهرة (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، وهو يعمل بالتّوازي مع السلطات الأخرى. كذلك، أدرك الرئيس خطورته لجهة تحكّم النخبة المصرفيّة والأوروبيّين (لا سيّما البريطانيّين)، في اقتصاد أميركا، من خلاله.
وذلك ليس سرّاً. يقول ماير روتشيلد: «أعطوني سلطة التّحكم بإصدار النقد، وسيصبح عندي، سيّان من الذي يسنّ القوانين». قولٌ كهذا لا يحتاج إلى تعليق. فهذا الأمر كان يحصل في أوروبا من القرن السابع عشر. أما الرؤساء الأوائل لأميركا - المهاجرين أو الذين عاصروا المهاجرين ومن ضمنهم جاكسون ولينكولن - لم يريدوا تكرار الأخطاء الأوروبيّة. بل استندوا إلى نصوص الدستور الأميركي والذي ينصّ على آليّات للدّفاع تحول من دون تمكين أسياد المال من التّأثير على ممثّلي كل فروع سلطة الدولة الأميركيّة، وعلى ممثّلي فرع السّلطة الروحيّة ضمناً.
من هنا، خاض جاكسون، المنافسة الرئاسيّة أثناء الانتخابات تحت شعار مقتضب «لا لأي مصرف مركزي»، واضعاً الناس في الانتخابات بين خيارَين: إمّا المصرف المركزي وإما أندرو جاكسون. حينها فاز جاكسون في تلك الانتخابات. وبعد فوزه، سرعان ما سحب التّرخيص من البنك الذي حصل على تفويض لمدة 20 عاماً أثناء رئاسة جيمس ماديسون في 1816. وبالفعل، نجح جاكسون في تدمير البنك من خلال استخدام حقّ النقض «الڤيتو» - وهو من أكثر الرؤساء الذين استخدموا حقّ النقض - في وجه تجديد امتياز المصرف المركزي الذي أقرّه الكونغرس عام 1832، والذي استتبعه سحبٌ لودائع الولايات المتحدة في عام 1833 من المصرف المركزي.
أسياد المال مسمّرون لغاية الآن فوق مناصبهم ويتغلغلون بكلّ أدواتهم في مفاصل الدولة


وفي رسالة النّقض الموجزة التي أرسلها الرئيس جاكسون -وكتبها جورج بانكروفت- يقول إن البنك وجب إلغاؤه للأسباب التّالية:
- البنك يركّز قوّة البلد الماليّة في مؤسّسة واحدة.
- يترك الحكومة عرضة للسيطرة من قبل المصالح الأجنبية (في الثلاثينيات، تميّز الاقتصاد المفتوح بالتجارة الحرّة وضعف الحواجز التجارية، فتنتقل السياسات النقدية للسلطة المهيمنة – بريطانيا العظمى في هذه الحالة – إلى بقية النظام الاقتصادي العالمي المترابط، بما في ذلك الولايات المتحدة.
- هدف البنك الأساس هو أن يجعل الثري أكثر ثراءً.
- البنك يُمارس سيطرة هائلة على أعضاء الكونغرس.
- البنك يحابي ولايات الشمال الشرقي على حساب الولايات الجنوبية والغربية.
بعد توقّف عمليّات الصّرف، صدر عن جاكسون أوامر تنفيذيّة بعددٍ من الخطوات الإصلاحية، أهمّها استخدام العملات الصّعبة (الذهب والفضّة) في شراء الأراضي، بهدف كبح مضاربات الأراضي العامة. وهذا ما سبّب انخفاضاً كبيراً في أسعار العقارات. في مقابل ذلك، عمد إلى دعم الزراعة كقطاع أساسي تعتمد عليه الولايات المتّحدة الأميركية. هكذا، وبشكل تصاعدي، تعمّق الصّراع مع أسياد المال، حتى نفّذوا محاولة فاشلة لاغتياله في 1835. إلّا أنّهم نجحوا، بعد مدّة، في اغتيال الرئيس لينكولن عام 1864، وهو الذي دخل في تحدٍّ مع أسياد المال الأوروبيّين لأنه رفض اقتراحهم بمنحه قروضاً ضخمة ذات فائدة عالية، فضلاً عن أنه عارض نشوء البنك المركزي الذّي يملك صلاحيّة إصدار الأوراق الماليّة الأميركيّة، معتبراً أن ذلك سيؤدي إلى «عصر من الفساد تسعى فيه القوى الماليّة لإطالة أمدها على حساب مصلحة الشّعب، حتى تتجمع الثروة في أيدي البعض ويفنى الشعب». حينها، قرّر لينكولن أن الولايات المتحدة ستطبع العملة بنفسها بواسطة الخزينة لا بواسطة المصرف، وهكذا ظهرت عملة خضراء اللّون من الجهة الخلفيّة.
ورغم مضيّ نحو قرنَين، ما زال أسياد المال في أميركا، وبعد انتصارهم، يحاولون التّكتم على هذه الصفحة من تاريخ البلاد. حتى أن محاولة جرت في عهد الرئيس باراك أوباما لتغيير التّصميم الفني لأوراق الدولار من كل الفئات بهدف إزالة صورة جاكسون عن أوراق العملة. حتى الآن هو يُضايق المصرفيّين. لكن قضايا سياسيّة أعاقت تنفيذ هذا المشروع، فبقي تصميم الأوراق على حاله.

حصان طروادة لبناني؟
وفي نهاية عام 2019 - نفس عام ثورة 17 تشرين - وجد لبنان نفسه في وضعٍ مشابه مع بلوغ الدين العام 91 مليار دولار، بحسب تقرير جمعية المصارف اللّبنانية. وهذا يعني أن كل طفل يولد في لبنان يكون مديناً بقيمة 14500 دولار. هذه الديون تراكمت عبر السّنين بسبب العلاقة المتناغمة بين مؤسّسة الإصدار، أي المصرف المركزي، وبين الدولة، ولا سيّما بعد النهاية الرسمية للحرب الأهلية وقيام دولة الطائف، وبعد فقدان الدولة سيطرتها على مواردها بفعل ضعف سلطتها وسيطرة الميليشيّات على الأرض. لذا، فإن مسؤولي الدولة الجدد - هم مسؤولو المليشيّات - وجدوا في قروض المصرف المركزي بديلاً من موارد الدولة لتمويل عجز الموازنة وتثبيت سعر الصّرف. وبذلك صار المصرف المركزي، بعد تعيين الحاكم الجديد - المنسجم مع السّلطة الجديدة - خادماً للحكومة أو الطبقة السّياسية الذي كان على رأسها أسياد المال.
بعد ذلك،لم يعد مصرف لبنان يعترض على قرارات اقتراض القطاع العام. فقَدَ المصرف استقلاليته بالكامل في هذا الشّأن. وأضحت العلاقة بين مصرف لبنان والدولة منذ سنة 1993 تتميّز، ليس فقط بقبول مصرف لبنان إقراض الدولة فحسب من دون قيد أو شرط، بل اعتبر أن هذا التّمويل هو من أولوياته سواء باستعمال معدّل الفائدة لتشجيع المصارف على الاكتتاب بإصدارات الدين العام، أو عبر القروض المباشرة التي كان يوفّرها هو للخزينة خلافاً لقانون النقد والتّسليف.
وللمفارقة، نجح أسياد المال في لبنان أيضاً، وبشكل نسبي، في تعمية الناس عنهم رغم الأزمة الماليّة الكارثيّة، وفي تحويل لبنان إلى اقتصاد استهلاكي يقابله تدمير للإنتاج الزراعي والصناعي. وانكسر حاجز تثبيت سعر الدولار، وظهرت سرقة المودعين إلى العلن.
تخيّلوا أنه لو ارتفع سعر الدولار مقابل اللّيرة وحُجزت أموال المودعين بوضع هادئ ومستقرٍّ في لبنان، ماذا كان سيحصل؟ ربّما كان غضب الناس، بمختلف أطيافهم وطوائفهم، سينزل على أصحاب المصارف وأسياد المال. إلا أن ما حصل في 17 تشرين كان نموذجيّاً لهم! كـ«حصان طروادة» تماماً. نعم، لا يُخفى على أحد، الآن، مشاركة أصحاب المصارف وأسياد المال في الحراك بشكل مباشر أو غير مباشر (تحريضاً وتمويلاً خاصة عبر بعض وسائل إعلام - الثورة - والناشطين وغير ذلك). كذلك، تجنّبت وسائل إعلام الثورة نقل مظاهرات المصرف المركزي. لكن السّؤال الحقيقيّ، هل كانوا يخطّطون للحراك بشكل مسبق بغية التّعمية على الكارثة التي أوقعوها؟ أم لا! (ربّما سنحتاج إلى ويكيليكس أميركيّة جديدة كي نحصل على إجابات شافية).
ما نعرفه أن أصحاب المصارف وقبل مدّة من الحراك، سحبوا أموالاً طائلةً من المصارف اللّبنانيّة إلى أميركا. وحين اندلع الحراك، من دون سابق إنذارٍ، ومن داخل الولايات المتحدة الأميركيّة، اتخذوا قرار إغلاق المصارف بشكل كاملٍ لنحو نصف شهر من دون أن يرسموا مساراً واضحاً لخطوة الإغلاق وخطّة فتح الأبواب، رغم أن المصارف نفسها لم تغلق في عزّ أيام الحرب الأهلية بشكل كامل، كما فعلت إبان 17 تشرين!
الأسوأ من ذلك، أن المصارف ورغم إغلاقها ظلّت تحوّل أموالاً إلى الخارج. يذكر مركز كارنيغي للشرق الأوسط، أنه فقط وفي 10 تشرين الثاني 2019 جرى تحويل 800 مليون دولار إلى خارج لبنان. البعض يظنّ أن خطوة إغلاق المصارف كانت خطوةً خاطئةً أو انفعاليةً غير محسوبةٍ منهم، لكن الوقائع قد تظهر عكس ذلك تماماً. إذ يبدو أن مفاصل الحراك، وليس الكلام عن التّفاصيل، كان يحصل عن سابق تصورٍ وتصميم. (ليس الكلام عن الناس الذين نزلوا وشاركوا وأنا أحدهم).
للأسف، على حدّ علمي لا وجود لأي استقصاء حقيقي عن سير التّحضيرات قبل 17 تشرين؛ سواء في الإعلام أو في سرفيرات المعلومات وشبكات التّواصل والإعلام، ولا عن تدريب المذيعين والمذيعات والتجهيز والتمويل للبث المباشر وأدواته، وأيضاً ليس هناك معلومات عن مجموعات وسائل التّواصل الاجتماعي التي أنشئت ولا عن إدارتها! وغير ذلك. هل يُعقل وجود مجموعات كبيرة على وسائل التّواصل الاجتماعي ليس معروفاً من يشكّلها أو يتابعها؟
للأسف، قلّة - سواء وسائل إعلامية أو غيرها - مَن كان يحاول شرح وتصويب أسباب الأزمة علمياً ليبيّن للناس وبشكل حقيقي ماذا كان يحصل انطلاقاً من جذور المشكلة الأساسيّة من 1992 أو حتى قبل ذلك. وأيضاً، قلة من شرح لنا صدفة تزامن صعود الثورتَين في لبنان والعراق ثم اضمحلالهما من دون تحقيق أهدافهما. وهناك الكثير بعد. فها هم أسياد المال مسمّرون لغاية الآن، فوق مناصبهم، ويتغلغلون بكل أدواتهم في مفاصل الدولة (التنفيذية والتّشريعية والقضائية) إضافة إلى المصرفيّة والإعلاميّة.