لا يمكن التعامل مع برامج الحل أيّاً كانت، باعتبارها خطوة إلى الأمام، بل قد تكون أخطر من الأزمة نفسها إذا دارت مدار الخيارات السابقة أو استنسخت وصفاتها من كتاب الانهيار نفسه. والحلول الجيدة هي التي تعترف بأن لمشكلتنا جذوراً مغروسة في تربة الاقتصاد الحقيقي فتسمح بتغيير اتجاهاته، وتنضوي تحت مظلّة سياسات عامة متقاطعة ومتكاملة، وتتجنّب التلاعب بمبدأ الندرة من خلال «التسعير الخاطئ»، وتمهّد الطريق أمام نوع من المحاسبة ولو في حدود الاعتراف بالمسؤولية.تغيير الاتجاه
منذ الطائف، أُدير الاقتصاد بمنطق الأسواق الماليّة، الذي يزدحم بالمفاهيم والمؤشرات ذات الصلة ببيع سندات الدين وتعزيز القدرة الاقتراضية واستدعاء الودائع ومراكمة الاحتياطيّات، وبكل ما يتعلق بعالم المديونية الواسع. لكن المال السهل لا يبقى سهلاً كونه يستدرج الدول الباحثة عنه نحو فخّ الاقتصاد السياسي للتمويل الدولي. ففي بداية المنحدر، أي عندما تُطّل الأزمة برأسها، تستطيع الدولة أن تستخدم جزءاً من رصيدها السيادي لتخفّف من أعباء الديون، فتُجْري مقايضاتٍ تمكّنها من الحصول على قروض ميسّرة أو هبات وتحويلات رسميّة وشبه رسميّة في مقابل أثمان سياسية واقتصادية يمكن تحمّلها، وقد فعلنا ذلك مرّات عدّة من خلال المؤتمرات الدولية التي مكّنت لبنان من نيل تمويل ملحوظ، ولو أنه متواضع الحجم مقارنة بالأموال الحرّة التي تلقّيناها في عقد الألفية الأول.
لكن سُحب التعثر المالي لا بد أن تتجمع في الأفق، وحينها لا تجد الدولة مناصاً من الارتماء في أحضان المؤسسات الدوليّة، وهذه لا تفرّق بين اقتصاد ذي قاعدة إنتاجية قويّة وآخر ذي قاعدة ضعيفة، أو بين دولة ذات سلطة مركزيّة تمكّنها من اتخاذ القرارات الصعبة في وقت قياسي كمصر، وأخرى لا مركزيّة محكومة بالتوافق الواسع كلبنان. فكلتاهما بنظر المؤسّسات المذكورة، مطالبة باتخاذ إجراءات ثقيلة الوطأة ومؤلمة وفورية، تُطبّق في طرفة عين.
وحتى لا نقع مجدداً في مصيدة المقاربة التي أدارت رؤوسنا بدهائها زهاء ربع قرن، علينا هذه المرّة أن نربط برامج الحل بالعربة التي تنتقل بالاقتصاد من منطق تداول القيمة الذي يكتفي بإحصاء حركة الأموال وكلفتها، إلى منطق إنتاج القيمة الذي يوجه اهتمامه قبل أي شيء آخر إلى ما نراكمه من أصول منتجة ومصادرها ومكوناتها ونموها المحتمل. ولهذا مؤشراته ومتغيراته التي لم تتغلغل بما فيه الكفاية في قاموسنا الاقتصادي، ومنها على سبيل الذكر لا الحصر: المؤشرات المعبّرة عن الإنتاج (معدّل نمو الاقتصاد الحقيقي، وزيادة استهلاك قطاعات الإنتاج من الطاقة، وإنتاجية العاملين بأجر، والإنتاجية العامة للاقتصاد TFP، ونسبة كل من الاستثمار والادخار والصناعة من الناتج ...)، والتنافسية (مؤشر التنافسية والتعقيد ومصلّب النمو، وأرصدة الميزان التجاري والحساب الجاري وميزان المدفوعات ...)، والتوزيع (نسبة الأجور وفائض التشغيل من الناتج، والكلفة الحقيقيّة الصافية للعمل والمداخيل من غير الفوائد والتحويلات إلى مجموع المداخيل المتاحة ومتوسط عدد العمال للمؤسسة الواحدة ...)، والرأسمال البشري والاجتماعي والمعرفي (أدلة التنمية البشرية والمعرفة واقتصاد المعرفة والثقة والابتكار وبراءات الاختراع والبحث العلمي ...)، وإعادة التوزيع (نسبة التحويلات الداخلية والخارجية من الدخل المتاح والدخل التقاعدي من الدخل الدائم ومعامل اللامساواة ونسب الفقر وتصاعدية الضريبة والإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة قياساً على إنفاق الأسر وكفاءة هذا الإنفاق ...)، والوضعية المالية للدولة (صافي الإقراض أو الاقتراض من الخارج، ورصيد الحساب المالي للدولة، وصافي التدفقات من الخارج والاحتياطيات الأجنبية ...)، ومخاطر التمويل (نسبة الموجودات الخارجيّة إلى كل من: الناتج المحلي، والميزانية المجمّعة للمصارف والمطلوبات الخارجية للقطاع المالي عموماً وللمصرف المركزي على وجه الخصوص ...).
حتى لا نقع مجدداً في مصيدة المقاربة التي أدارت رؤوسنا بدهائها زهاء ربع قرن علينا هذه المرّة أن نربط برامج الحل بالعربة التي تنتقل بالاقتصاد من منطق تداول القيمة الذي يكتفي بإحصاء حركة الأموال وكلفتها، إلى منطق إنتاج القيمة


وإلى جانب ذلك، يكتسي الاندماج بسلاسل القيمة العالميّة أهميّة خاصة ومتزايدة، إذ بات ارتفاع نسبة القيمة المضافة الناتجة عن أنشطة مندمجة بسلاسل القيمة العالمية من مجموع القيمة المضافة للدولة، رافعة الاقتصادات الناشئة وأساساً للنمو طويل الأمد، وتوسيع القدرة على استيعاب الاستثمارات، وتوظيف التكنولوجيا واسترداد اليد العاملة المهاجرة، وتكثيف التشابك بين القطاعات الأساسية.

تشابك المسارات والسياسات
يلحق فصل السياسات بعضها عن بعض ضرراً فادحاً في مناعة الاقتصاد ويشرّع الأبواب أمام تشوّهات تمنع مقاربة الإنتاج من المضي إلى الأمام. ففي السياسة النقدية مثلاً التي فقدت القدرة على إدارة عمليات سوق مفتوحة، صار التحكّم بالمداخيل لا بالكتلة النقديّة هو الأداة المتبقية بيد السلطة النقديّة للجم التضخّم، وهذا ما يحصل من خلال السماح للمصارف بتقييد حركة الرواتب الموطّنة لديها، وعبر التعاميم التي تضع سقوفاً واطئة على سحوبات المودعين.
لكن اعتماد سياسات انكماشية على النحو المذكور، لا يفيد في لجم التضخم إلّا لمدّة قصيرة، فبعد حين تجد الدولة نفسها ملزمة بالتوسع في الإنفاق لاستيعاب النتائج الاقتصادية والاجتماعية لتدهور المداخيل وتراجع النمو وانكماش الثروات، وسواء مُوّل هذا التوسع بزيادة العجز أو بضخّ السيولة النقديّة فسيُطلق صافرة التضخّم ويعيدنا مجدداً إلى نقطة الصفر. قد تفلح الحكومة في أن توازن نفقاتها الجديدة (لزيادة الرواتب في القطاع العام مثلاً) بزيادة الضرائب غير المباشرة أو إيقاف الدعم، إلّا أنّ ذلك سيرفع الأسعار ويزيد من ثمّ الكتلة النقدية اللازمة لتمويل الطلب المتزايد على السيولة.
وفي السياسة الماليّة تسود أيضاً رؤية محاسبيّة تفصلها عن باقي السياسات. تقود المؤسّسات الدوليّة هذا التوجّه من خلال تركيز اهتمامها على المتغيرات المعياريّة التي يمكن تكرارها ونسخها في كل الظروف والمواقف والأزمات، مثل خفض الدين العام وعبئه وتقليص عجز الموازنة. لكن ماذا لو خفضنا الدين إلى أقل من إجمالي الناتج (إلى 90% منه حسب صندوق النقد الدولي) ونجحنا في جعل نمو الناتج أعلى من نمو الدين (ناقصاً نسبة الفائض الأولي)، فهل يحقق ذلك مبدأ الاستدامة المالية بمعزل عن تطور الاقتصاد نفسه؟ وهل لجميع أنواع الديون ذات الأثر مهما اختلفت مصادرها وتعدّدت استخداماتها؟ وماذا عن الديون غير المعلنة كالمتأخرات المتوجبة على الحكومة للمتعهدين وغيرهم، والقيمة الحالية الصافية لأرصدة صناديق التعاضد ونهاية الخدمة التي قد تنطوي على مديونية جيليّة عالية، ولا يمكن تغطيتها إلّا بنمو حقيقي في المستقبل؟ وكيف يجري التعامل مع الديون التي ستتحملها الدولة في نهاية المطاف ربطاً بالقرارات والسياسات الخاطئة كخسائر المصرف المركزي والودائع المضمونة بحكم القانون، والتي تُحمّل الأجيال الآتية مغبّة إفراط الأجيال السابقة في الاستهلاك؟ وفي عبء الدين العام؛ هل ينبغي التعامل مع الدين الخارجي والدين الداخلي بطريقة واحدة؟ علماً بأنّ الأول يقع عبؤه على القطاعات المنتجة للسلع القابلة للمتاجرة الدولية والتي يُنتظر منها جذب العملات اللازمة لتسديده، فيما يمكن خدمة الديون الداخليّة بالاعتماد على المداخيل ذات المنشأ المحلي وبالاستناد إلى حقّ الدولة السيادي بإصدار النقد وفرض الضرائب.

المحاسبة جزء لا يتجزأ من أي مخطط للإنقاذ والتعافي وهذا ليس انضماماً إلى جوقة الحالمين بالتغيير ولا تنكّراً لقدرة النظام على مقاومته، بل ينطوي على طموح واقعي ومشروع بالحصول على اعتراف ما بالمسؤولية عن واقعة مروّعة حصلت


وفضلاً عمّا تقدّم، تولي المؤسسات الدوليّة أهميّة كبيرة للتوازن المحاسبي بين نفقات الحكومة وإيراداتها لكنها لا تفرّق في الحالة اللبنانية، بين إيرادات حكومية تنبثق عن تدفق حقيقي للقيم، وأخرى إسمية ودفترية مرتبطة بالمدخرات المتآكلة داخل المصارف، كما لا تلقي بالاً إلى تراجع أولويّة الانضباط المالي، رغم أهميّته، بعد تراجع نسبة النفقات العامّة إلى الناتج من نحو 28% قبل الأزمة إلى نحو 7% تقريباً بعدها. ويقدّم الارتفاع المزمن في نسبة الإنفاق المصنّف اجتماعياً (التحويلات والمنافع الاجتماعية) والذي لامس في السنوات الأخيرة ربع مجموع النفقات الأوليّة (من دون احتساب المعاشات التقاعدية)، مثالاً آخر على عقم النظر إلى السياسات من زاوية واحدة. فمن أسباب هذا الارتفاع، إلى جانب الفساد والمحسوبية والاستخدام السياسي للمال العام، اضطرار الدولة إلى التدخل لامتصاص التداعيات الاجتماعيّة لسياساتها الاقتصادية الفاشلة، والتي أدّت في ما أدّت إليه، إلى تقويض البنى التحتيّة الاجتماعيّة، ورفع معدلات الفقر لتكون الأعلى في دول المنطقة.

التسعير الخاطئ
يسجّل لمصرف لبنان في السنوات الأخيرة الفضل في ابتداع منهج التسعير الخاطئ، بدءاً بما أسماه الهندسات المالية التي انطوت على مبادلات للأوراق والسندات الحكومية خارج قواعد السوق ومن دون مرجعيّة محاسبيّة موثوقة، وانتهاءً بالتعدديّة الفوضوية لأسعار الصرف. ولم يؤدِّ التسعير الاعتباطي للأشياء إلى إطفاء خسائر المصارف في أجساد المودعين والمستهلكين فحسب، بل تسبّب في تشويه عمل الاقتصاد من خلال تقويض مبدأ الندرة، إذ صارت الأسعار النسبيّة بسبب ذلك تميل نحو القطاعات الأقل توليداً للقيمة المضافة وفرص العمل، فيما فقدت باقي القطاعات، تدريجياً، قدرتها على الاستمرار.
من المرجّح أن تصرّ السلطات المعنيّة على منهج التسعير الخاطئ بل أن تتمادى فيه، لتسهيل مرور برامج إعادة الهيكلة بأقل كلفة على القطاع المالي، ويتوقع أن يظهر خصوصاً في مجالين: طريقة تسديد ودائع الدولار والقيمة التي ستخمّن بها أصول الدولة. نعرف جميعاً أن المودعين تحمّلوا القسط الأكبر من الخسائر المترتبة على تطبيق التعميم 151، ويعتقد أنّ التعميم 158 هو جزء من مشروع ما لتسديد الودائع ما دون 50 (أو 70) ألف دولار خلال خمس سنوات وفق تسعير للدولار يقل عن قيمته السوقيّة، وهذا الأمر سيكبّد المودعين بالعملات خسائر إضافية قد تساوي ربع ما تبقى في حساباتهم. ولن يقف الأمر عند حدود التحكّم بتحديد قيمة «الدولار المصرفي»، بل سيشمل في مرحلة ما موجودات الدولة وأصولها العقاريّة. فمن مصلحة المصارف، أن تضخّم محاسبيّاً قيم الموجودات المذكورة لتساوي الفرق بين ودائعها بالدولار لدى مصرف لبنان في جانب، وما تبقّى من حسابات المودعين لديها بالعملة نفسها في جانب آخر، وذلك بعد خمس سنوات من تسييلها وفق التعميمين المذكورين (قيّمت المصارف في إحدى طروحات الحل موجودات الدولة بما يزيد عن عشرة أضعاف قيمتها الحقيقيّة)، وينطوي ذلك إذا حصل على ترحيل إضافي للخسائر من المصارف إلى المودعين، وكذلك إلى المستهلكين الذين سيخسرون المنافع العامة التي ما زالوا قادرين على نيلها بكلفة مقبولة.
ختاماً، لا يطوي توزيعُ الخسائر سجّل المسؤوليات، فالمحاسبة جزء لا يتجزأ من أي مخطط للإنقاذ والتعافي. هذا ليس انضماماً إلى جوقة الحالمين بالتغيير ولا تنكّراً لقدرة النظام على مقاومته، بل ينطوي على طموح واقعي ومشروع بالحصول على اعتراف ما بالمسؤولية عن واقعة مروّعة حصلت. نعرف أن ذلك لن يطفئ آلة الفساد أو يعطّلها، لكنه قد يخفف من الزخم التاريخي الذي اكتسبته بحكم ظروف وأحداث لا تجتمع دائماً. تجديد الطبقة السياسيّة المستزلمة للخارج مفيد في تقليم أظافر الفساد، حتى لو نسج ورثتهم على منوالهم. أو بقول آخر: إذا كان مقدراً لنا في مستقبل الأيام أن نلدغ من الجحر مرتين، فليكن ذلك من قبل جيل جديد أقل مكراً وفتكاً وبأنياب لم تكتمل بعد.

* رئيس المركزي الاستشاري للدراسات والتوثيق