رغم تعثّرها المالي، ما زالت المصارف العاملة في لبنان قائمة. هي مصارف تعتاش على الدعم «الحكومي» المباشر أو غير المباشر، أي أنها لا تملك أصولاً قادرة على تغطية التزاماتها المستحقة في المديين المتوسط والطويل لكن الدعم الحكومي أو من المصرف المركزي يبقيها على قيد الحياة. بهذا المعنى هي تعمل بالحدّ الأدنى من وظائفها كوسيط مالي بدلاً من إفلاسها وعرض أصولها للبيع لتغطية التزاماتها. بتعبير أوضح، مصارف لبنان هي مصارف «زومبي». وصم هذا التعبير كل المؤسسات المالية التي صار لديها خسائر في ميزانياتها أكبر من أصولها، ابتداءً بالمؤسسات الأميركية بعد اندلاع أزمة مؤسّسات الإقراض والادخار التي انفجرت بين عامي 1986 و1995. ففي عام 1987 استعمل إدوارد كاين من جامعة بوستن تعبير «زومبي» لأنها: «تملك رأس مال سلبي (أي أن مطلوباتها أكبر من أصولها) وتعاني من خسائر في ميزانياتها». يومها سقطت ثلث المؤسّسات (نحو 3234 مؤسّسة) في هذه الأزمة، ورغم محاولات الحكومة الأميركية إنقاذها، إلا أنها اضطرت أن تتخلى عن هذه المهمة عندما بلغت خسائر المؤسسات ثلاثة أضعاف ما كانت عليه قبل المحاولات. وصف الـ«زومبي» عاد مجدداً في التسعينيات مع رفض المصارف اليابانية مواجهة خسائرها أو الاعتراف بعد انفجار فقاعة سوق العقارات. كذلك تكرّر استخدام هذا التعبير خلال الأزمة المالية العالمية في عام 2008 فأُطلق الوصف على المصارف التي أضعفتها الأزمة.
نهاد علم الدين ــ لبنان

التأثير على الاقتصاد
يعكس هذا الوصف حقائق ظاهرة في التعاطي مع الأزمات التي تصيب المؤسسات المالية. ينقل المحامي الأميركي دايمون سيلفيرز عن مسؤول في صندوق النقد الدولي، أن هناك ثلاث مراحل تمر فيها الحكومات خلال الأزمات المالية: الإنكار، ثم تقديم الدعم المالي للمتضررين، وبعد فشل هاتين المرحلتين تنتقل الحكومة إلى مواجهة المشكلة الحقيقية. وكلما أخذت الحكومات وقتاً أكثر للوصول إلى المرحلة الأخيرة، كلما ارتفعت كلفة الأزمة على الحكومة وعلى الاقتصاد.
في الواقع، سيلفيرز عمل طويلاً لدى حكومة الولايات المتحدة في المجال المالي، وهو يدرك معنى «تنظيف» ميزانيات الشركات المأزومة. قد يؤدي إلى إفلاس بعضها. وبحسب كين، فإن دعم الحكومات للمصارف الميتة، من خلال ضمانها أو ضخّ الأموال فيها، يزيد المخاطر على دافعي الضرائب من دون غيرهم. لكن التداعيات تكون أكثر شمولاً لأنها تصيب الاقتصاد بكامله. فبحسب ما ورد في كتاب يلمان أوناران «مصارف الزومبي»، فإن ترك الأصول العقيمة في ميزانيات المصارف «الزومبي» تكون نتيجته انخفاض الإقراض من قبل هذه المؤسسات، أو رهانها على الاستثمار في قروض ذات مخاطر كبيرة لإعادة إحياء نفسها.
إن وجود مصارف «زومبي» يبعد رأس المال الخارجي عن البلد، فبوجودها تكون هناك مخاطر عالية على النظام المالي اللبناني، لانعدام الثقة فيها


خلال أزمتها في التسعينيات، سلكت اليابان الطريق الذي يؤدّي إلى انخفاض الإقراض، ما أدّى إلى تضييع عشر سنوات. فالاقتصاد الياباني لم يستطع أن يعاود النمو على مدى عقد من الزمن أعقب أزمة فقاعة سوق العقارات لأن المصارف توقفت عن الإقراض. أما الطريق الآخر، فقد سلكته مؤسسات الإقراض والادخار في أزمتها في الثمانينيات حين راهنت على الاستثمار في القروض ذات المخاطر المرتفعة لانقاذ نفسها. لكن هذه الطريقة لم تنجح إلا مع عدد قليل منها، بينما تضاعفت خسائر المؤسسات الباقية ما أدى إلى زيادة الكلفة على الدولة وبالتالي على دافعي الضرائب.
ولا تنحصر التداعيات بذلك، فإبقاء المصارف في حالة «زومبي» يرتّب أعباء إضافية على النظام المالي بما في ذلك على المصارف المنافسة التي تتمتع بوضع مالي متين. وهذا الأمر، بحسب أوناران، يؤدي إلى جمود هذا النظام كلياً وينعكس في ركود النمو الاقتصادي.
في المحصّلة، هناك إجماع عند الباحثين على أن إبقاء هذه المصارف الميتة يأتي على حساب أموال المواطنين دافعي الضرائب، ولا يؤدي إلى التخلّص من المشكلة. ففي معظم الحالات لم تستطع هذه المصارف أن تبقى على قيد الحياة واضطرت الحكومات إلى التخلص من عبء دعمها. لكن تكون كلفة التأخر في ذلك مضاعفة. وهذه الكلفة تقع أيضاً على كاهل دافعي الضرائب.

«زومبي» لبنان
ينطبق وصف «زومبي« على مصارف لبنان. فهي ما زالت تمتصّ الموارد للبقاء على قيد الحياة كما كانت تمتصّها سابقاً لتكديس الأرباح. حالياً، هذه المصارف غارقة في حالة من السلبية ناتجة من عدم قدرة أصولها على تغطية التزاماتها ضمن المديَين المتوسط والطويل. وبالإضافة إلى ذلك، هي تعاني أيضاً من مشكلة السيولة لأنها غير قادرة على تغطية التزاماتها على المدى القصير أيضاً. رغم ذلك، لم تشهر هذه المصارف إفلاسها حتى الآن، لأن مصرف لبنان لم يتحرّك في هذا الاتجاه، بل على العكس هو قرّر أن يبقيها في حالة «زومبي» للاستفادة منها بهدف تغطية خسائره المتراكمة في ميزانياته. فمن إحدى المفارقات أن معظم الأصول العقيمة لهذه المصارف هي عبارة عن توظيفات قامت بها المصارف مع مصرف لبنان، لا بل أغرقها في ذلك عندما نفذ ما يسمّى «هندسات مالية» اعتباراً من 2016 دفعتها بواسطة الإغراء والجشع، إلى تحويل سيولتها الخارجية إلى توظيفات مع مصرف لبنان. أتت هذه العمليات كلّها على حساب دافعي الضرائب والمودعين، إذ إنها رفعت سعر الصرف الحقيقي بشكل مستتر وكشفت عن اقتراب أزمة التوقف عن الدفع. في المقابل، اكتسب مصرف لبنان والمصارف بعض الوقت الإضافي للهروب إلى الأمام من واقع الخسائر المحققة.
عملياً، الإنكار لعب دوراً في مضاعفة الخسائر. فالتأخّر في تقبل الخسائر زاد من كلفة تنظيف الميزانيات. قبل خمس سنوات كانت كلفة تنظيف ميزانيات المصارف بسيطة مقارنة بما هي عليه اليوم. تنظيف الخسائر قبل سنة تقريباً كان يتطلب محو رساميل المصارف عن بكرة أبيها، بينما اليوم تم توزيع الخسائر بشكل غير عادل وغير هادف على كل المقيمين في لبنان من خلال تضخيم الأسعار وإفلات سعر الصرف ما أدّى إلى تآكل المدخرات الخاصة والعامة. رغم ذلك كلّه ما زالت الحسابات تشير إلى أن كل رساميل المصارف يجب أن تُمحى مقابل الخسائر، لكن فوقها سيدفع المجتمع ثمناً إضافياً باهظاً من خلال عمليات تصحيح الأجور والتضخّم وزيادة الضرائب...
رغم ذلك، يحاول مصرف لبنان الحفاظ على «الزومبي» الخاص به. فبعدما استنفذ آخر حلوله بتنفيذ «الهندسات»، لجأ إلى أداة طباعة العملة. طبع في السنتين الماضيتين نحو 35 ألف مليار ليرة استعملها لتسديد ودائع المصارف بالدولار وفوائدها لديه. وهذا يأتي على حساب ودائع الناس، لا سيما تلك المقومة بالدولار، التي يكون مصيرها البقاء على دفاتر المصارف أو الخروج بقيمة تساوي أقل من 18% من قيمتها الحقيقية. فبنتيجة ما يفعله مصرف لبنان، تكون المصارف اللبنانية غير مفلسة رسمياً، ولكن في الوقت نفسه هي غير قادرة على إعطاء المودعين أموالهم.
كلفة «زومبي» لبنان الاقتصادية تكمن في أن الاقتصاد لا يعمل بسبب توقف الإقراض الذي يفترض أن يكون مصدر التمويل للمشاريع المنتجة باعتبارها الخطوة الأولى لنهوض الاقتصاد. عدم توفّر تمويل لهذه المشاريع يعني أنه لا مجال لتحريك الاقتصاد مجدداً. كذلك، إن وجود مصارف «زومبي» يبعد رأس المال الخارجي عن البلد، فبوجودها تكون هناك مخاطر عالية على النظام المالي اللبناني، لانعدام الثقة فيها، والدليل هو خفض تصنيفاتها الائتمانية من قبل شركات التصنيف العالمية. وستظل هذه الثقة معدومة طالما أن هذه المصارف في حالة إنكار. لذا، فإنه من دون نظام مالي صحي، لا يمكن أن يعرف الاقتصاد اللبناني طريقاً إلى النمو. ومن دون «تنظيف» ميزانيات الـ«زومبي» لا يمكن أن يعتبر النظام المالي في لبنان نظاماً صحيّاً.