شكّلت الفترة بين عامي 2010 و2011 نقطة تحول من عدّة نواحٍ؛ تراجع أسواق النفط العالمية ترك تأثيراً كبيراً على النظام المالي المرتبط بالتدفقات الخارجية. ومع اندلاع الحرب على سوريا في نهاية 2011، ازدادت التقلّبات في لبنان بالتزامن مع فقدان الاستقرار السياسي، والمرور بمرحلة من الاضطرابات التي أثّرت على حركتَي التجارة والترانزيت، وتدفّق اللاجئين السوريين بما يفوق قدرة لبنان على التحمّل. كذلك، بدأت دول الخليج بالتخلّص من عقاراتها وودائعها اللبنانية ردّاً على الدور المتصاعد لحزب الله محلياً وسورياً. ساهمت هذه العناصر في تحوّل ميزان المدفوعات من ميزان فائض إلى عاجز، حتى بلغ العجز 26.2% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2014. ومنذ ذلك الحين، بدأ هرم الـ«بونزي» الذي كان يُدار سراً، ينحو إلى مسار الانهيار. ومع ذلك، بقي الانهيار خارج الواجهة لأن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لم يكن يتشارك بيانات «المركزي» المالية مع أي جهة أخرى، بمن فيهم رئيس الجمهورية، رئيس الوزراء، وزير المال، وحتى نوابه. لذلك بقي تقدير الخسائر في مرتبة أقلّ من قيمتها الحقيقية.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

كانت أصول المصارف التجارية تنمو بالتوازي مع الدين العام، وكان حجمها يقرب من 4 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي، لكن مع ضيق التدفقات وجدت هذه المصارف نفسها تحت ضغط المصرف المركزي للبحث عن طريق لجذب الدولارات من الخارج. لكن المصارف افتقرت إلى القدرة على زيادة أسعار الفائدة علناً. لأن حاكم المركزي حاصَر نفسه في موقف صنعه هو، إذ كان مضطراً لأن يحافظ على أدنى معدلات ممكنة للفائدة من أجل مساعدة النخبة الحاكمة على إخفاء العجز المالي المرتبط بخدمة الدين.
وبالإضافة إلى إخفاء الخسائر المتراكمة بالدولار نتيجة دعم تثبيت سعر الصرف وتمويل العجز الكبير في الحساب الجاري، قام البنك المركزي أيضاً بالتدخّل بين الحكومة والمصارف لشراء السندات الحكومية بأسعار رخيصة بالليرة وبيع شهادات الإيداع إلى المصارف بأسعار فائدة أعلى. بالطبع، سمح هذا الأمر للمصارف التجارية بالحفاظ على وهم الأرباح المتزايدة التي خدعت به المودعين، بينما سمح أيضاً للحكومة بتقليل عجزها. بهذه العملية، كان البنك المركزي يراكم الخسائر التي أصبحت خارج السيطرة سريعاً. حدث كلّ هذا الأمر خلال محاولة حاكم المصرف المركزي الحفاظ على السمعة التي بناها لنفسه، على حساب صحّة المؤسّسة التي يترأسها.
لسنوات عديدة، كلّ مرة جادلنا فيها حول عدم إمكانية استدامة هذا النظام، كانت النخبة المصرفية تتبع حجة حاكم مصرف لبنان، بأنه لا مشلكة طالما ظلّت الثقة قائمة. هذا الخطاب كان موسيقى مُستحسنة لآذان النخبة السياسية، لكن المفاجأت استمرّت بالظهور من الأسواق الدولية التي كانت لا تزال حتى ذلك الحين تُظهر شهية، وإن محدودة، على السندات اللبنانية. لكن هذا الوضع تغيّر في 2016 عندما فقد لبنان عملياً وصوله إلى الأسواق المالية الدولية، بالتوازي مع كشف البنك المركزي عن عمليات غير تقليدية أشير إليها لاحقاً باسم «الهندسات المالية» من قِبل حاكم المركزي. أقنعت تلك العمليات الأسواق المالية العالمية بأن النظام المالي اللبناني أصبح ذا مخاطر عالية. وأُدير العرض بغموض وسرية.
في النهاية، بدأ بعض المصرفيين يتساءلون كيف يكون مصرفا «بنك ميد» و«بنك عودة» قادرَين على جذب المودعين دوناً عن المصارف الأخرى؟ عن طريق دفع فوائد مرتفعة للمودعين. في الواقع، خلقت العملية عوائد عالية للمصراف بلغت 35%. ومن الصعب تحديد ما إذا كانت استفادة «بنك ميد» و«بنك عودة» من هذه العملية في نهاية 2015 جزءاً من مخطط الهندسات. يومها كان «بنك ميد» على وشك الإفلاس بسبب انكشافه الكبير على شركة سعودي أوجيه (شركة سعد الحريري للمقاولات، الموروثة عن والده) ومورديها. وأيضاً كان «بنك عودة» في مأزق خطير، بعد توسّعه في الأسواق التركية والمصرية وتكبّده الخسائر هناك. لكن، كما جرت العادة، قرّر حاكم مصرف لبنان ومن دون إذن من أحد، أن يستعمل المال العام لإنقاذ المصارف رغم أن عمليات كهذه تتطلّب قانوناً من البرلمان. لكنه لم يكلّف نفسه حتى عناء إبلاغ مجلس إدارة مصرف لبنان بها أو مناقشتها معه. الحاكم كان حرّاً في فعل ما يريد منذ تعيينه، أي منذ أن قام رئيس الوزراء ووزير المالية بتفكيك أنظمة الرقابة التي كانت موجودة للإشراف على عمل البنك المركزي.
بعد عدة أشهر على «الهندسات» اشتكى مصرفيون آخرون إلى السياسيين. اعترف الحاكم بتقديمه الدعم لبعض المصارف التي اختارها بشكل تعسّفي، على افتراض أنها «أكبر من أن تفشل». لكن هذا الدعم لم يكن مُجازاً به قانوناً، وتم تقديمه بغموض تام. في النتيجة، حصل ضغط كبير لمعاملة المصارف الأخرى بالتساوي مجدداً بدعمها من المال العام. ومن ناحية أخرى، كان المصرف المركزي بحاجة إلى مزيد من الدولارات من الخارج. كان يشتري كل سندات اليوروبوند التي أصدرتها الخزينة، ما جعله مضطراً إلى استبدالها بالدولار النقدي. ففي آذار 2017، نفّذ لبنان آخر عملية استدانة من السوق المالية العالمية، تلتها صفقة اكتتاب بقيمة 4.2 مليارات دولار مع المصرف المركزي في تشرين الثاني من العام نفسه. ثم استثمر المصرف المركزي بكامل إصدارات اليوروبوندز في 2018 بقيمة 5.5 مليارات دولار، وفي 2019 بقيمة 3 مليارات دولار. هكذا زاد مجمل ما اشتراه المركزي من اليوروبوندز إلى 12.7 مليار دولار. كان هذا الوضع بمثابة تعثّر غير معلن. وتم توسيع ما يسمى بعمليات الهندسة المالية لتشمل جميع المصارف التجارية بكلفة كبيرة جداً، وبقيت «الهندسات» مستمرّة رغم إعلان الحاكم مراراً عن نهايتها، لتجنّب أي تحقيق أو جلسات استماع. واستمرت هذه العمليات حتى بعد توقّف الدولة اللبنانية عن الدفع في آذار 2020، مع وجود أدلة على أنها تمّت مع شركات مالية لم تكن بحاجة إليها، بأي شكل من الأشكال، وأنه حتى هناك أفراد ـــ اختارهم الحاكم ـــ استفادوا منها. ببساطة، اختار الحاكم المستفيدين وكمية الأرباح التي أُعطيت لهم، وجميع التفاصيل الأخرى.
من الواضح أن النتيجة الطبيعية لهذا الأمر، كانت الغياب التام لإنفاذ القانون وغياب الإرادة السياسية لمنع البنك المركزي من ممارساته المارقة. حيث كان جميع الأطراف المسؤولة في البلد يستفيد عملياً، وإن لم يكن بشكل متساوٍ، من سخاء الحاكم الخارج عن السيطرة. لا يريد الكثيرون تصديق ذلك.
عندما سأل رئيس الوزراء الجديد (حسان دياب) إذا كان ممكناً دفع سندات اليوروبوندز في آذار 2020 (1.2 مليار دولار)، نيسان (0.7 مليار دولار)، وأيّار (0.8 مليار دولار)، كانت إجابة الحاكم هو أنه يفضّل الدفع في آذار، دون ضمان المدفوعات الأخرى


باختصار، كانت المصارف تحقق أرباحاً على الورق، لكن الدولار كان يصبح أكثر ندرة يوماً بعد يوم. والأسوأ من ذلك، أن المصرف المركزي كان يتكبّد خسائر بطريقة مبهمة للغاية. وفي 2017-2018، أعادت المصارف التجارية حصّة كبيرة من أموالها من البنوك المراسلة إلى لبنان وأودعتها في المصرف المركزي، ربما تحت ضغط من الحاكم. ببساطة، كانت المصارف تعرّض نفسها لمخاطر المصرف المركزي وتفقد ذخيرتها في حالة احتياجها إلى السيولة.
في مطلع 2019، أعلن وزير المال آنذاك، علي حسن خليل، أنه يعمل على إعادة هيكلة الدين اللبناني، قبل أن يتراجع عن تصريحه. في غضون أيام، خفّضت وكالة «موديز» تصنيف الجمهورية إلى Caa1، وتبعتها فيتش بخفض التصنيف إلى CCC. كان النظام المالي اللبناني يدفع أصلاً أكثر من 20% فوائد على الدولار. كان عدد كبير من المصارف يسجّل 2.5 دولار في ودائع العملاء مقابل كل دولار يأتي به هؤلاء من الخارج. هذه الصورة للتعاملات كشفت عن الخسائر في النظام. كانت المطلوبات بالدولار أكبر من الأصول المتبقية بالعملة الخضراء. خلق البنك المركزي مبالغ هائلة من الدولارات المزيفة في النظام. وبنهاية ربيع 2019، فرضت المصارف التجارية قيوداً صارمة على عمليات سحب المودعين. كان ذلك أحد الأسباب القوية للحراك الشعبي الذي بدأ في 17 تشرين الأول 2019. الناس كانوا قلقين للغاية بشأن ودائعهم. في تلك اللحظة قررت المصارف، مدعومة من قبل حاكم المصرف المركزي، الإغلاق لعدة أيام، وكان ذلك بمثابة تخلّف غير معلن عن السداد، أدّى إلى انتشار المزيد من عدم اليقين.
في تشرين الثاني 2019، بعد استقالة رئيس الوزراء سعد الحريري، قرّرت الحكومة المستقيلة أن تدفع 1.6 مليار دولار لحاملي سندات اليوروبوندز. هذا المبلغ غادر البلد فوراً في ظل غياب قانون كابيتال كونترول. كان البلد مقسوماً بين الذين يمتصون الدولارات حتى آخر سنت، والذين يرون مدخراتهم تتلاشى. بالنسبة إلى الحريري ووزرائه، وجميعهم يمثّلون مختلف القبائل التي تسيطر على الدولة، وهم إما مساهمون في المصارف أو عرابون غير مباشرين لمعظم المصرفيين، فإن المهم هو تأمين استمرار تدفق الأموال في اتجاه حسابات النخبة الحاكمة، رغم عواقب هذا الأمر الوخيمة. كان دفع هذه الحزمة من التزامات اليوروبوندز غير مبرر إطلاقاً، بل رافقته ـــ كالعادة ـــ خطابات حاكم مصرف لبنان حول الثقة القائمة واستقرار الليرة.
في تلك الأثناء قال السفير بيير دوكان خلال حدث نظّمته مؤسسة المواطن اللبناني في أيار 2021: «كان ينبغي على لبنان أن يتخلّف عن السداد منذ فترة طويلة». ويتبين هذا فقط من خلال مقارنة الإنفاق على الصحة (13% من الناتج المحلي الإجمالي) والتعليم (8 إلى 9% من الناتج المحلي الإجمالي) مع خدمة الدين (38% من الناتج المحلي الإجمالي).
عندما أدت حكومة حسّان دياب اليمين الدستورية في شباط 2020، كانت الخيارات أمامها ضيقة. وكان التخلف عن السداد حتمياً، خاصة بعدما قيدت المصارف الوصول إلى الدولار بمبالغ صغيرة للغاية، بينما لم يكشف المصرف المركزي عن أرقامه المتعلقة بأصوله الأجنبية وصافي احتياطاته. وعندما سأل رئيس الوزراء الجديد (حسان دياب) إذا كان ممكناً دفع سندات اليوروبوندز في آذار 2020 (1.2 مليار دولار)، نيسان (0.7 مليار دولار)، وأيّار (0.8 مليار دولار)، كانت إجابة الحاكم هو أنه يفضل الدفع في آذار، دون ضمان المدفوعات الأخرى.
الأسوأ من ذلك، أثناء النقاش حول التخلف عن سداد سندات اليوروبوند أم لا، قامت المصارف اللبنانية والمصرف المركزي بالتخلّص من كميات كبيرة جداً من سندات اليوروبوند إلى حاملين أجانب، لا يمكن للحكومة اللبنانية تتبعهم، بحجة الاحتياج إلى السيولة. من خلال القيام بذلك، حرمت المصارف والمركزي الحكومة من خيار التخلّف عن الدفع بشكل منظم، حيث يتطلب ذلك اتفاقاً مع 75% من حاملي السندات. وما زاد من حدّة المشكلة هو رفض جمعية المصارف اللبنانية ومصرف لبنان التحدث إلى شركة لازارد، مستشار الحكومة بشأن إعادة الهيكلة، وعدم الموافقة على أي اجتماع معها، رغم طلبات لازارد المتكررة. بالإضافة إلى ذلك، زعم المصرف المركزي وجمعية المصارف لاحقاً، أن الحكومة ومستشارها لم يتشاورا معهم قبل الخروج بخطة التعافي الحكومية.
هذا النظام يدور حول مجموعة من القبائل يضمن مصالحها حاكم المصرف المركزي. معظم المصرفيين ومعظم وسائل الإعلام في البلاد مدرجة على لائحة رواتب (payroll) هذا الأخير. هناك مجموعة سكانية كبيرة تحركها النزعة الجماعاتية والأخبار الكاذبة، ويحرّكها أيضاً الخوف. وقد استغلّت القبائل عنصر الخوف عند السكّان، لا سيما الخوف المبني على أسس اجتماعية: يجب على المسيحيين أن يخافوا من أي تغيير لأنهم سيفقدون الحق في أن يكون لديهم نصف نواب ونصف وزراء، ويجب على السنّة أن يخافوا من فقدان مزايا دستور الطائف وصلاحيات رئيس الوزراء، وعلى الشيعة أن يحذروا من أي تغيير لأنهم مستهدفون من قبل العالم بأسره. وفي هذه الأثناء، كان هؤلاء السكان​​، باستثناء زعماء القبائل، يُسلب منهم كل ما لديهم، في حين بقيت دولة لبنان ذات السيادة فكرة غامضة من الصعب تحقيقها.