رغم كل الشبهات التي كانت تُثار حول أداء مصرف لبنان في التعامل مع القطاع المصرفي المفلس، ولا سيما منذ 2016 حين تبيّن أن هناك أزمة آتية لا محال، إلا أن الأمر تُرك بيد الجهة نفسها لإدارة الأزمة والتعامل معها. هذه المسؤولية أدخلت لبنان في النفق الذي يقبع فيه اليوم. ففي النتيجة، تبيّن أن الجهة المسؤولة عن حصول الأزمة وانفجارها وقصورها عن معالجتها، أخذت فرصة طمس الوقائع التي تدينها. إذاً، السؤال الأساسي مَنْ هو صاحب القرار في التعامل مع تداعيات الأزمات المصرفية؟ في حالة لبنان، هل يجب أن يكون مصرف لبنان الذي كرّس الأزمة وعمّقها منذ 2016 لغاية اليوم، أم يجب أن تكون هناك هيئة مستقلّة؟أعدّ بنك التسويات الدولية تقريراً يحدّد بطريقة علمية وتقنية واضحة استناداً إلى 16 تجربة حول العالم دواعي وجود هيئة مستقلّة ومدى انخراطها مع هيئات الإشراف والرقابة مثل المصرف المركزي وهيئات الرقابة على المصارف. تشير الدراسة إلى أن هناك حاجة لاستقلالية الهيئة المعنية بالعمل على «تسوية الأوضاع المصرفية الناشئة عن الأزمة»، بعيداً من ضغوط المصرف المركزي - مصرف لبنان في الحالة اللبنانية، فضلاً عن ضرورة منع وجود التضارب في المصالح معه، بالإضافة إلى ضرورة التعاون والتنسيق مع جهات الإشراف (لجنة الرقابة على المصارف في الحالة اللبنانية).
الدراسة أعدها باتريزيا بودينو وكارلوس سانشيز وروث وولترز، بعنوان «الإجراءات المؤسّساتية لتسوية أوضاع المصارف». وهي تميّز بين سلطة الإشراف على القطاع المصرفي (الرقابة على المصارف)، وبين سلطة تسوية المصارف، وبين المصرف المركزي. فعندما تتداخل سلطتي الإشراف والتسوية، يكون هناك تنسيق أكبر وسهولة في تدفق المعلومات، لكن يقع النموذج في فخّ «الانحياز» الذي يمكن أن يحدث في تغليب وظيفة الإشراف على المصارف، على وظيفة التسوية، ولا سيما في حال حدوث تعارض بين الوظيفتين. ويمكن أن يترجم هذا النزاع في تعزيز مقاومة سلطة التسوية، سواء عبر الامتناع عن الاعتراف بفشل المؤسّسة المالية التي كانت خاضعة لسلطة الإشراف، أو بسبب المخاوف من التفاؤل المضلل بإمكانية استعادة عافيتها. فعلى سبيل المثال، قد تسعى الجهة المشرفة إلى تمديد فترة تدابير التعافي المفروضة على مصرف ما، بينما يكون لدى سلطة التسوية مصلحة في تسريع عملية التسوية. كذلك، يحتمل وجود تضارب فيما يتعلق بمستويات استيعاب الخسارة، بين التركيز الإشرافي المستمرّ على الربحية، وبين حوافز سلطة القرار لتعظيم الموارد التي ستكون متاحة لتسوية الخسارات السابقة.
حصر أي سلطة لتسوية أوضاع المصارف المفلسة بـ«السلطة المشرفة» ستكون تلقائياً تحت عباءة مصرف لبنان


ومن النماذج التي سلّطت الدراسة الضوء عليها، النموذج الهجين الذي يقسّم وظيفة «تسوية المصارف» بين أكثر من سلطة. يتطلب هذا النموذج تنسيقاً قوياً بين مختلف السلطات، ما يجعل العمليات تستغرق وقتاً طويلاً وتستهلك موارد كثيرة. بالإضافة إلى ذلك، هناك أيضاً خطر من أن يكون صنع القرار عملية مرهقة أكثر لأنها تحتاج إلى جهود جهات عدّة لا صلة بينها قانونياً. وأخيراً، يجب أن يكون هناك ترتيبات لتبادل المعلومات بسلاسة، لتجنّب مخاطر أن تكون تدفقات المعلومات أقلّ سهولة مما هي عليه في النماذج الأخرى.
أما فصل التسوية والرقابة عن «المركزي» فلم يُتّبع سوى في حالتين فقط. إذ أُعطيت المؤسّسة الكندية للتأمين على الودائع (CDIC) وظيفة تسوية أوضاع المصارف بشكل مستقلّ عن سلطة الرقابة على المصارف وعن المصرف المركزي. لكن من مخاطر هذا الفصل أن تكون الجهات المسؤولة عن الإشراف، هي أيضاً مسؤولة عن تحديد قابلية الاستمرار في الحياة كشرط للدخول في عملية التسوية. فقد يتفاقم التضارب في المصالح.
إذاً، أين لبنان من هذا الأمر؟ المشكلة في لبنان أن سلطة الإشراف ممثلة بلجنة الرقابة على المصارف تخضع إدارياً ومالياً لحاكمية مصرف لبنان. بمعنى أن حاكم مصرف لبنان يسيطر على عمل الهيئة ويتحكّم بمواردها ورواتب موظفيها وسائر عملية تشغيلها. وهذا الأمر يجعلها أيضاً خاضعة موضوعياً لمصرف لبنان الذي يحدّد السياسات ويطلب من اللجنة تنفيذها من دون أن يكون لديها رأي حاسم بهذا الأمر. لذا، فإنه من بين النماذج المشار إليها في دراسة بنك التسويات الدولية، ينطبق على لبنان النموذج المتعلق بأنه لا وجود لهيئة مستقلة تقوم بعملها. ليس هناك أي جهة منفصلة عن المصرف المركزي، ولا عن لجنة الرقابة على المصارف. أي سلطة لتسوية أوضاع المصارف، إذا حصرت بالسلطة المشرفة على المصارف، ستكون تلقائياً تحت عباءة مصرف لبنان. وهذا الأمر، بالنظر إلى مسؤولية مصرف لبنان وحاكمه في الأزمة، قد يؤثّر بشكل مباشر على استقلالية العمل في وظيفة التسوية. ومن ناحية أخرى إذا وُضعت هذه الوظيفة في يد سلطة مستقلة عن السلطة الإشرافية، وبالتالي عن سلطة مصرف لبنان، ستمنح الاستقلالية في القرار والتطبيق، لكن في الوقت نفسه قد يكون عملها عرضة للتباطؤ بسبب انعدام سهولة انسياب المعلومات بين السلطات.
لكن بشكل عام، أن تكون الهيئة مستقلّة عن لجنة الرقابة أو مصرف لبنان هو أمر مطلوب لأن التجربة السابقة أيام حكومة حسان دياب، تشير بما لا يرقى إليه شكّ بأن مصرف لبنان لديه تضارباً في المصالح مع أي عملية تسوية كون ميزانياته متداخلة إلى حدّ كبير مع ميزانيات المصارف ومع ميزانية الدولة اللبنانية.