يستعير علم الاقتصاد في العلوم الطبيعية والاجتماعية الأخرى بعض المفاهيم والنماذج التي تساعده على وضع تصوّر ما لمسائل اقتصادية، وهذا طبيعي جداً لأن أساس العلوم ينطلق من المنطق. لكن ما من علم مستقلّ عن الإيديولوجيا وبالذات العلوم الاقتصادية التي أكثرها أدلجة. يذكر الاقتصاديّ لازير Lazeear أن علم الاقتصاد السائد أو النيوكلاسيكي يتصرف مع اكتشافات العلوم الأخرى بطريقة إمبريالية، أي كما تستغل الدول الغنية الفقيرة، بالعنف غالباً ما يستغلّ علم الاقتصاد التقليدي العلوم الأخرى ويجتزئ منها اختيارياً، كي يبرّر موقفه المنحاز عادة إلى فئة ضيقة من المجتمع الدولي، ألا وهي الفئة الإمبريالية. وللدلالة على الأهمية السياسية لعلم الاقتصاد، فاستثناءً تُمنح فيها جائزة تُسمى بجائزة نوبل لكنها في الواقع جائزة بنك السويد في العلوم الاقتصادية على ذكرى ألفرد نوبل. والإمبريالية الفكرية هذه هي كأيّ فكر، يستبق العمل التطبيقي أي كأي ممارسة اجتماعية تكون مقرونة مسبقاً بخطة عمل أو منهج. فالعلوم الاجتماعية الغربية تحاول دائبة (احتواء واستعمال كل ما هو جديد من العلوم بما في ذلك الفكر الماركسي لتشويه وإلغاء صفة التورية عنه. والسبب هنا واضح؛ يراد منها أن تظن البشرية أن هذه الخرافات النيوكلاسيكية علمية كما الكيمياء.
وعلم الاقتصاد السائد هذا هو أكثر العلوم الاجتماعية وقاحة، أي أنه يستقي من هنا وهناك حتى من فيزياء الجزئيات كما فعل أخيراً. فكما يقول الباحث ميراوسكي Mirowski؛ كل ما في علم الاقتصاد النيوكلاسيكسي سرقة من علم الفيزياء. وبما أن علم الفيزياء يدرس الأغراض الجامدة بطريقة تجريبية وضعية، أي الأشياء كما هي وليس كما يجب أن تكون عليه، غلب على الاقتصاد مناهج دراسة المجتمعات البشرية كأنها أشياء فيزيائية لا تفكر لذاتها إنما تتفاعل مع محيطها كما الذرات تتفاعل مع ارتفاع الحرارة. فاذا ارتفعت المكاسب أو الأجور لحق بنمو البشر الأجر الأعلى أو المكسب الأوفر. ولهذه الملاحظة صحّة ما دام الناس أشياء، أي إذا شيَّأتَ الناس؛ في بعض الترجمات يقال للتشييء تمدية أي من جعل البشر أو المفهوم مادة. والناس مشيَّؤون إلى حدّ ما، لكنهم في أزمان معينة يخلعون عنهم صفة الشيء أو يتخلون عن الوعي الذي أسقطه عليهم الفكر السائد، ويتسلمون زمام الأمور عندئذ، أي أنهم يبدأون بالمطالبة بتغيير الخلفية الاجتماعية التي تحدد منظومة الأسعار بما في ذلك سعر الأجور. فبدلاً من أن يلاحق العامل السعر الأعلى للأجور، يغيّر موازين القوى التي تكمن خلف تكوين السعر. عندها تصبح الجماهير مالكة للمختبر، إذا صحّ التعبير، وتتحكم بالحرارة التي تحرك الذرات. في هذه الحالة يفشل علم الاقتصاد السائد في دراسة التحول الاجتماعي، بما أن العلم هو دراسة التحرّك، وتسقط عنه صفة العلميّة. ويُضطر آنذاك أن يستعمر أفكاراً جديدة مستحدثة كي يصلح خطأه، لكنه قطعاً لا ولن يسائل الأسباب الاجتماعية لنقلة الوعي أو سبب تحوّل الإنسان في شيء إلى فاعل تاريخي مفكّر ومكوّن لأسس وجوده، بما في ذلك الاقتصاد السائد لن يبحث في مسألة تكوين الثراء، أي كيفية تحول مكاسب فئة صغيرة على حساب مكاسب الجماهير، والظروف الاجتماعية المولّدة لأرضية القوى الاجتماعية، وهو قطعاً لن يقارب مسألة بديهية مثل الأسعار بما في ذلك سعر العمل المحدّد بالسلعة وبممارسة العنف. هل كانت حروب الاستعمار الغربي تبشيرية تمدينية أم كانت بغرض ضرب السكان الأصليين، وإلغاء فاعليتهم التاريخية، ومحو قدرتهم على التفاوض على مواردهم، وقمع قدراتهم الإنتاجية لكي لا يضاربوا عليهم ويبقوا اتكاليين. وبذلك كلّه تنخفض المدخلات الإنتاجية الغربية كلفة وتزداد أرباحها. الربحية كانت وما زالت، حتى باعتراف الاقتصاد النيوكلاسيكي السائد ديناميك المنظومة أو قوّته المحرّكة. هذه ما زالت تتطلب خفض الأكلاف كما في السابق، بتشييء البشر (أي جعلهم أشياء من دون فكر مستقل)، ونزع إرادتهم أو سيادتهم. في المقابل، إن انتزاع هذه السيادات هو استجلاء لعملية التفاعل ما بين العنف والإنتاج الإيديولوجي المشيِّئ للبشر ما زال سارياً، وهو يقوي شكيمة الغرب وشركاته الكبرى.
أما عن إلغاء الفكر المستقل، فهذه مقولة تعود للمفكر ماركوزا. فطالما كان الناس مسطحين بلا عمق أو ذوي بعدين فقط، لطالما سادت سخافة أن المرء يشتري السلعة الأرخص، وهذا قرار يمكن أن يتخذه فأر هو العماد الذي عليه تُبنى النظرية الاقتصادية.
الناس مسطّحون ومشيّؤون ليس لسبب جيني، إنما لسبب حقيقي تاريخي ألا وهو الترهيب والإرهاب الممارسان روحياً من أجل ردع الشعوب عن التنظيم أو الخوض في البديل


وفي دراسته للتحوّل الاجتماعي الاقتصادي يفترض الاقتصاد النيوكلاسيكي أن العقلانية هي شراء ما هو أرخص. لذا تنتج المنظومة الاقتصادية السائدة الإنسان المشيّأ أو المسطح، قبل أن تنتج السلعة، لكن كما هو معروف الآن: هذه السلعة هي التي تستهلك الإنسان فعلياً لأنها في عملية إنتاجها وخفض كلفتها استهلكت بشراً، وتحتوي كذلك على سموم بيئية، ويبقى الإنسان غير منتفع لا من الأجر ولا من الاستهلاك. والتسطيح في العلوم الاجتماعية هو غياب أو تغييب التاريخ من أنماط التفكير ومناهج المعرفة. كيف أصبح الناس هكذا أو كم كانت علاقات العنف والإفراز الإيديولوجي الموازي فعّالة كي يقبل الناس أن منظومة الأسعار هذه غير مسبقة الصنع، وأن السلع المستهلكة مفيدة؟
لكنّ الناس مسطحون ومشيّؤون ليس لسبب جيني، إنما لسبب حقيقي تاريخي ألا وهو الترهيب والإرهاب الممارسان روحياً من أجل ردع الشعوب عن التنظيم أو الخوض في البديل. البديل مخيف لأن التشييء لا يشعر وهو بذلك يمارس أبشع أنواع الهمجية. التضحيات في السابق كانت هائلة بما في ذلك شعوب أُبيدت عن بكرة أبيها، محاولة الدفاع عن نفسها بأسلحة ضعيفة التقنية أمام قوى غربية تقتل للاستعراض. وللتذكير بما أن الربحية هي الديناميك الذي يتطلب العنف للإخضاع أولاً، فإن الاستسلام لا يجدي لأن معدّل الأرباح النامي استطراداً يتطلب تذويب إرادة الإنسان بالقصف العسكري أو بالقصف الإيديولوجي، وهذا الأخير هو الأهم، أي أن يذوب الإنسان نفسه في فترة حياتية مريرة وقليلة نسبياً، أي نسبة إلى الحد التاريخي المتاح – فالتاريخ تحول نوعي والمقارنة أسلم إذا كان في الزمن التاريخي نفسه، فلا يحق لنا مقاربة حياة اليوم، بحياة الإنسان الحجري لأن ظرف وحقبة اليوم يختلفان، ما يعني أنه عندما يقول الغرب لولا تكنولوجيا الغرب لما عشتم أكثر وبقيتم في العصر الحجري، فإن هذا منطقياً غير جائز، كما أنها مقولة عنصرية بغضاء.
إذاً، ممارسة العنف لإخضاع الشعوب هي العلاقة الرئيسية التي تعيد إنتاج الظروف المؤاتية للربحية، وللعنف أشكال وألوان منها اللفظي ومنها الرمزي ومنها الفعلي، وكلها علاقات اجتماعية اقتصادية تخضع الإنسان لتسعّره وتسعّر عملته بأبخس الأثمان، وكذلك موارده البشرية والطبيعية.
بعد تأكيد أولوية العنف في عملية الإنتاج، أعود لمسألة استعمار الفيزياء اقتصادياً. الفيزياء ترتكز على الطاقة بأشكالها المختلفة وتحوّلاتها كي تفسر قوة الدفع الكونية، وهذا ما يجب أن يقتبسه الاقتصاد النيوكلاسيكي والكلاسيكي كذلك لتفسير قوة الدفع الاجتماعية. الفكر النيوكلاسيكي السائد يركز في مقولته على خيارات الفرد الحياتية وحبه للاستهلاك واختيار الأفضل، أي السلعة الجميلة بالسعر المتدني والملذات التي تعطيها قيمتها التي تكمن في سعرها. السعر هو القيمة والمشكلة في تعليل كهذا، أنه ليس فيه مشكلة، أي أنه لا يُخطئ، ونظرياً ما لا يُخطئ ليس نظرية إنما حقيقة مفرغة كالحقيقة الرياضية والحسابية، وكما هو معروف حساب الحقل غير حساب البيدر.
لكنّ التسطيح أو إلغاء التاريخ والارتماء في حضن الوضعية في هذا الطرح كل ذلك يُغيب فكرة أن السلطة تستهلك حياة الإنسان كما هو يستهلك السلعة في توسعها. تسيطر السلعة على ذهن الإنسان، فهي التي تسعّر الإنسان من خلال الأجر الذي يحصل عليه. الأمور على حقيقتها أصعب بكثير من معادلات رياضية مبنية على فرضية معادلة العرض والطلب. السلعة تَستهلِك وتُستَهلك.
لكن للكلاسيكيين نظرية دفع اجتماعي أو نظرية قيمة أخرى، ألا وهي القيمة الاجتماعية المبنية على استهلاك طاقة العمل، وهذه بدورها، مبنية على علاقة استغلال البشر من أجل الربح. وهذه النظرية ليست شكلية أو اسمية، إنما تاريخية وشكلية في آنٍ، وبذلك هي تتطلب أن يتوافق المنطقي مع التاريخي في تحليل الأمور. فمثلاً الربحية أساس الديناميك، فلنقل على مدى جيل ما، القوى المشغّلة تورد العمل والعمالة من حيث تشاء بعد أن تُخضعها بالعنف وتسلبها إرادتها، ومن ثم تصرف القليل من الموارد لإعالة أطفال هذا الجيل أو تقضي على صناديق التقاعد، على مدى حياة هذا الجيل، وتقتنص حصّة أكبر فأكبر من الناتج الكلّي المُرمّز بالأسعار، والسعر هنا يعمل فعل إله الضم الذي يغيّب القيمة العملية، أي الجهد والحياة والمستثمرين في الإنتاج. مثلاً أكبر منتج اجتماعي هو الأم، وأجرها صفر أو لا شيء.
والقيمة هنا ليست العمل المجسّد نفسه، فهذا أيضاً شيء والشيء لا يفعل، إنما العلاقة التي تستغل وتوظف هذا العمل أو ذاك بالعنف الاجتماعي. علاقة العنف هي حلقة من الطاقة الرئيسية التي تدفع المنظومة الاجتماعية كالطاقة الكهرومغناطسية في الفيزياء. وهذه كما ذكرت لها أوجه عدّة أهمها تداخلها مع الإنتاج الإيديولوجي الذي يفرض نفسه أولاً بالرعب الذي يمليه على كل من تملي له نفسه أن التغيير سهل. ولحسن حظ الفئة الضيقة المستغِلّة، أنها ليست هي ولا دولها التي تحكم، بل هو الإرث الإيديولوجي المهيمن. الفئة الضيقة كما غيرها تستقي من الفكر المهيمن أدوات عملها النظرية لتعيد إنتاج المنظومة. هذا الإرث الفكري الخارج عن السيطرة الاجتماعية المباشرة، أي المُستغرب والموضوعي، والذي يحوي كمّاً من المفاهيم المسطِّحة والمتماسكة بعضاً ببعض في إطار نظري شكلي لديه طابع الحقيقة الرياضية المطلقة. وهو كذلك، مماثل للطبقة السائدة. الطبقة الاجتماعية السائدة، هي بالمختصر المفيد، الإيديولوجيا السائدة كما الأفكار التي تدير أمور هذه الفئة الضيقة، وهي كما السلع المنتجة أشكالاً تعيد إنتاج المنظومة. العامل الفكري كالعامل بيده يصنع فكراً وذلك يصنع أشياء وكلاهما مفاهيم فكرية تغذّي الإيديولوجيا السائدة. عملية إعادة الإنتاج هذه مرتبطة ببند أساسي مادي هو إعادة تراكم الأرباح من خلال العنف والترهيب من البدائل الذي بدوره يقسم الفئات الواسعة على أسس طائفية وعنصرية. حساب التاريخ الحقيقي هو الدورة الحياتية المطابقة للمنطق العقلاني الذي يتابع تولّد فائض القيمة الذي يتوسط بدوره الأرباح من خلال تقسيم وإضعاف الطبقة العاملة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام