منذ نحو 18 شهراً، خسرت الليرة اللبنانية نحو 88% من قيمتها مقابل الدولار. انعكس ذلك مباشرة على معدلات التضخّم والفقر والبطالة. فقد زادت معدلات الفقر عن 50% ومعدل البطالة يتسارع نحو 40%، وتضخّم الأسعار بلغ وسطياً في عام 2020 نحو 84%، بينما بلغ المعدل الوسطي لتضخّم الأسعار في الفصل الأول من السنة الجارية 154% (مقارنة النتائج الشهرية للفصل الأول من عام 2021 مع النتائج الشهرية للفصل الأوّل من عام 2020). في النتيجة، انخفضت القوّة الشرائية للأجر الوسطي البالغ 1.7 مليون ليرة، بنسبة لا تقلّ عن 60% وفق تقديرات رئيس مؤسسة البحوث والاستشارات كمال حمدان. التصحيح الوحيد المطروح اليوم للأجور، هو ذو طابع زبائني؛ إمدادات مالية مؤقّتة للأسر مقابل رفع الدعم عن سلّة المواد الأساسيّة المستوردة. هذا النوع من التصحيح يعكس سلوك السلطة القائم منذ عقود: تعزيز آلية التوزيع على حساب النشاط الاقتصادي. بنية العمل والإنتاج كانت تعتمد على الرساميل الوافدة من الخارج. أما آلية التوزيع المحلية، فقد قضت بدعم القوّة الشرائية للأجور عبر تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار، وتعزيز مداخيل الأسر بتحويلات المغتربين. استمرار هذه الآلية يتطلب إنتاج العمالة محلياً وتصديرها إلى الخارج. إلا أن ذلك يعني أيضاً، أن تحفيز الاستهلاك لم يعد مرتبطاً بتعزيز وسائل الإنتاج، وبالتالي لم تكن هناك ضرورة لخلق فرص العمل وزيادة الأجور. فالسلع والخدمات تأتي من الخارج، وكذلك يتدفق معها التمويل. العمل بهذا المعنى يكاد أن يكون ترفاً في ظل النموذج المنهار. أما الاستهلاك فكان محفّزاً بآلية التوزيع.النظام - النموذج اللبناني يكاد يشبه إلى حدّ ما النظام الرأسمالي الواقع في حالة حرب بحسب رئيس «حركة مواطنون ومواطنات في دولة» الوزير السابق، شربل نحاس. ففي ظل الحروب التي تقع فيها الأنظمة الرأسمالية، تتدمر وسائل الإنتاج، وبالتالي لا تعود هناك حاجة إلى تحفيز الاستهلاك عبر زيادة قوّة العمل. لكن في لبنان، كانت حالة «النظام الرأسمالي الواقع في حالة حرب» غير مؤقتة، بل كانت متواصلة إلى أن انتهت بمجرّد انهيار آلية التوزيع. فقد تحطّم سعر الصرف الثابت، لأن التدفقات الخارجية لم تعد كافية لتمويل الحاجات المحلية. وبهذا المعنى، فإن الأجور لم تعد كافية لتحفيز الاستهلاك المستورد بغالبيته. الاستهلاك صار مكلفاً للغاية، لذا يتطلب الأمر تقليصه انسجاماً مع تراجع التدفقات الخارجية، وبالتالي ضرب الأجور لتقليص الاستهلاك.
هكذا تراجع استيراد لبنان بنحو النصف، وبات وجود السلع الأساسية خاضعاً لعملية تقنين مرتبطة أيضاً بمخزون العملات الصعبة لدى مصرف لبنان الذي يتناقص يومياً. واحدة من أساسيات المشكلة، أنه تم تخصيص هذا المخزون لدعم الاستهلاك بدلاً من الإنتاج. بمعنى أوضح، إن هذه الأموال قابلة للاندثار. وفي السياق نفسه، تبدو الأجور في لبنان، قد فقدت قيمتها السابقة وصارت قابلة للاندثار هي أيضاً.
في لبنان كانت حالة «النظام الرأسمالي الواقع في حالة حرب» غير مؤقتة بل كانت متواصلة إلى أن انتهت بمجرّد انهيار آلية التوزيع


ومن صلب هذه التركيبة أيضاً، أفرزت بنية النظام محوراً في مواجهة تحسين قوّة العمل في لبنان. المحور مكوّن من مجموعة شركاء: السلطة، التجّار والمصرفيين. هؤلاء لعبوا الدور الأهمّ في تكريس نموذج قائم على الاستهلاك المحلي، المستورد والمموّل بقوّة العمل في الخارج. العمليات الاقتصادية الوسيطة بين لبنان والخارج، هي الأساس، سواء من خلال التجار، أو المصرفيين. أما السلطات التشريعية والتنفيذية، فكان من صلب عملها تأمين استمرارية هذه الأعمال واقتسام مكاسبها. هكذا تكرّست الاحتكارات، وتحفّز الفساد. وتطلب الأمر تحويل المال العام إلى مال خاص بشكل متواصل. مراكمة أرباح هؤلاء المموّلة بالتدفقات الخارجية، وبعمليات تحويل المال العام إلى خاص، كانت أمراً أساسياً لاستمرارية النموذج.
إذاً، هل المطلوب تصحيح الأجور بالشكل الذي يؤدي إلى النتيجة السابقة نفسها، أم هناك معالجة أخرى؟
عملياً، كلما طال أمد حصول تصحيح للأجور، ازدادت سرعة التدهور في مؤشرات الفقر والبطالة، أي انزلاق عدد أكبر من الأسر إلى ما دون خطوط الفقر. لكن تصحيح الأجور ليس مسألة بسيطة في ظل الانهيار الحاصل. فمن المهم جداً تعزيز القوّة الشرائية للمقيمين في لبنان، لكن طالما هذه القوّة مرتبطة باستهلاك مستورد، فإنها ستبقى مصدراً لاستنزاف العملات الصعبة التي تموّل استيراد السلع من الخارج. المطلوب تصحيح سريع للأجور انطلاقاً من تصحيح اقتصادي يشمل تصحيح القدرة الشرائية.
التصحيح الاقتصادي يجب أن يكون عادلاً وهادفاً. هذان الأمران أساسيان بالنسبة إلى نحاس، في أي تصحيح آت. أن يكون تصحيحاً هادفاً، هو أهمّ، لأن أمد التصحيح الاقتصادي طويل المدى، وبالتالي فإنه ينطوي على أوجاع لا بدّ من تحمّلها. العبارة السحرية في هذا المجال: «أن يوافق الناس على تحويل أوجاعهم إلى تضحية مقابل التصحيح الموعود». بلا تصحيح اقتصادي لا يمكن تحمّل الأوجاع.
وفي هذا المجال، يبدو واضحاً أن ما هو أهم من تصحيح الأجور الاسمية أو النقدية، أي زيادة قيمتها، هو تصحيح قوّتها الشرائية. يستبعد احتمال إتمام التصحيح من دون «الأجر الاجتماعي». حصول المقيمين في لبنان على زيادة في قيمة «الأجر الاجتماعي» أهمّ من حصولهم على زيادة في قيم أجورهم، وإن كانت هذه الأخيرة ضرورية لمواصلة معيشتهم. فالحصول على التغطية الصحيّة الشاملة، وعلى التعليم، بشكل مجاني، ومموّل بالضريبة على الثروة والريع، سيوفّر أكلافاً كبيرة على الاقتصاد لأنه سيمنح المؤسسات فرصة للنهوض والانخراط في التصحيح الاقتصادي. تصحيح كهذا، يجب أن يكون هدفه تعزيز قوّة العمل من خلال تعزيز الإنتاج، وليس من خلال تعزيز تحويلات المغتربين.
هذا ما يجب أن يحصل. أما ما يحصل فعلياً، فهو أمر مختلف تماماً. حالياً، ليس هناك كلام متعلق بأي تصحيح. شركاء النظام المنهار - قوى السلطة - التجار - المصرفيون - يريدون العودة إلى السابق، أي إلى مناقشة تصحيح الأجور انطلاقاً من إعادة إنتاج النموذج السابق المنهار. لا يهمهم أن اللبنانيين يدفعون ثمناً باهظاً بأجورهم ومدّخراتهم. المدّخرات خسرت نحو 75% من قيمتها بفعل انهيار سعر الصرف، والأجور باتت قوّتها الشرائية متدنية جداً وسط موجات متسارعة من انهيار سعر الليرة وليس مستبعداً أن يكون آخرها مدفوعاً برفع الدعم، ما يشي بأن الأجور ستصبح قيمتها، خلال وقت قريب، أكثر تفاهة مما هي عليه اليوم.
المحرّك الأساسي لاستمرار تدهور الليرة، يكمن في عملية إطفاء الخسائر التي يديرها شركاء السلطة والمال. إطفاء خسائر النظام المالي، هو إطفاء لقيمة الليرة أيضاً، وبالتالي إطفاء لقوّة العمل. كل ذلك يتم بهدف العودة إلى الحالة السابقة التي أدّت إلى الانهيار الحالي. بهذا المعنى، يصبح تصحيح الأجور هدفاً بذاته، وليس أي هدف، بل هدفاً شبه مستحيل. لا يمكن التعويل على رعونة سلطة كالتي قائمة اليوم، وهي تجاهلت تصحيح الأجور أيام مراكمة الأرباح، من أجل تصحيح الأجور في أيام الانهيار.
في الواقع تعمل قوى السلطة على استعادة فعالية آلية التوزيع وتصحيح الأجور بشكل ملتو لتجعل قيمتها قابلة للاندثار مجدداً. اعتادت أن تفعل ذلك دائماً. مأسسة الدعم وتحويله إلى سياسة طويلة المدى، عبر توزيع الأموال مباشرة للأسر الفقيرة بدلاً من تصحيح اقتصادي هي الحدّ الأقصى الذي يمكن أن تقوم به السلطة. التفاف ظرفي واحتيالي على التصحيح الاقتصادي الشامل. أما أزلام قوى السلطة وشركاؤها في الاتحاد العمالي العام وفي قوى السوق التجارية والمصرفية، وفي مصرف لبنان أيضاً، فسيعملون على مواصلة المسار نفسه الذي أدّى، لغاية اليوم، إلى تصنيف لبنان دولة فقيرة لسنوات طويلة مقبلة. هذا هو معنى أن يتهامس أعضاء قيادة الاتحاد على الطاولة نفسها مع رئيس اتحاد غرف التجارة والصناعة محمد شقير، ومع رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس، حول تصحيح الأجور. ففي الجلسة نفسها، رفض شماس الحديث عن أي تصحيح، حتى إنه رفض زيادة بدل النقل. أما قيادة الاتحاد فهي ساكتة كشيطان أخرس. لكن بمجرّد الحديث عن بدل النقل يستحضر الأمر قصّة أخرى عن التصحيح الالتفافي والاحتيالي للأجور. إنهم يرقصون فوق أجساد العمال وأجورهم العارية.



قوى التجارة: رفض قاطع
في الزيارة التي قام بها رئيس غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان محمد شقير، إلى الاتحاد العمال العام يرافقه المصرفي ـ رئيس جمعية التجار نقولا شماس، قال الأخير لعدد من أعضاء المجلس التنفيذي للاتحاد العمالي العام، إنه يرفض أي بحث في موضوع تصحيح الأجور، مبرّراً الأمر بالخسائر اللاحقة بالقطاع التجاري بسبب تراجع المبيعات (حجم الأعمال). ولم يكتف الشماس بذلك، بل رفض أيضاً أي كلام متصل بزيادة بدلات النقل للعمال رغم الزيادة الهائلة التي طرأت على كلفة النقل.


الصناعيون موافقون
بالفم الملآن قالها نائب رئيس جمعية الصناعيين زياد بكداش: نحثّ الصناعيين على زيادة الأجور في القطاعات التي تملك القدرة على ذلك. هناك مصانع كثيرة قامت بتصحيح أجور العاملين لديها. لا يرى بكداش مفراً من الأمر، إنما يعتقد أن الأمر منوط بمن لديه القدرة على ذلك.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام