المشهد في مصر كافٍ للدلالة بوضوح على نتائج التطبيع. فرغم اتفاقية السلام وبعض الاتفاقيات مع السلطة عبر العقود الأربعة الماضية، إلا أن الدولة في مصر لم تستجِب لضرورات هذا التطبيع. فلم تغيّر في عقيدة الجيش، ولا في المناهج التربوية، ولم تحثّ الشعب على مراجعة موقفه. أما السلطة، فقد غضّت النظر عن إنشاء الأنفاق التي أسهمت في صمود غزّة وإمدادها بالسلاح رغم التباين الظرفي بينها وبين المقاومة. كما أن مجلس الشعب المصري طرد من صفوفه من تجرّأ على التعامل مع ممثل الكيان. طبعاً هناك بعض حالات النشاز من منافقين وانتهازيين، إلا أنهم لم يشكّلوا حالة عامة، بل إن السلطة استجابت للضغط الشعبي في إلغاء اتفاقية الغاز معلنة اكتفاءها الذاتي وعدم ضرورة الاستيراد من أي جهة كانت.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

هذا لا يعني أنه يجب ترك الأمر على طبيعته، بل العكس هو المطلوب. أي العمل على تعميق الوعي بمساوئ التطبيع ويقين طبيعة العدو الصهيوني. فالعداء لا يعود إلى احتلال أرض أو اغتصاب حقوق شعب فحسب، بل إن وجود الكيان هو نفي لوجود الأمة. المعركة وجودية فقط لا غير. في هذا السياق يمكن تفسير إقدام السلطات الإماراتية على تغيير مناهج التعليم، لإضعاف الوعي الوطني والقومي والعداء للكيان الصهيوني. لكن في المقابل، على القوى الشعبية في الدول الرافضة للتطبيع، الحرص على ألّا يحصل أي تغيير في المناهج التربوية التي تغيّر في وعي الأجيال الصاعدة.
بناء على ذلك، إن مواجهة التطبيع هي أولاً مواجهة شعبية، ثم ثقافية، واقتصادية.
المواجهة الشعبية، وخصوصاً في الدول التي تتعرضّ للتطبيع بسبب سياسة حكّامها، يجب أن تستمر وتتصاعد. يُفترض بالضغط أن يصل إلى إصدار تشريعات تجريم التطبيع في الدول التي لم تعقد حتى الآن أيّ اتفاق. فكما قال قيس سعيد، رئيس جمهورية تونس «التطبيع خيانة». وحتى في الدول التي عقدت أخيراً، اتفاقيات تطبيع، مثل المغرب، يجب إحياء مشروع قانون تجريم التطبيع مع الكيان. والمقاومة الشعبية يجب أن تكون منسّقة داخل كل بلد وبين الدول العربية لإيجاد جبهة عربية واحدة تواجه التطبيع وتتبادل التجارب أيضاً. تجربة حركة «بي دي أس» مثال يُقتدى به.

تجربة «بي دي أس»
حركة «بي دي أس» هي الأحرف الأولى بالإنكليزية لمقاطعة ومعاقبة وتفكيك الاستثمار في مشاريع الكيان. إبداع العقل الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، ولا سيما اقتصادياً، تجسّد في تجربة «بي دي أس». فقد انطلقت هذه الحركة في 2005 ونجحت في ترويج الدعوة إلى مقاطعة البضائع الصهيونية والتعامل مع الهيئات التعليمية والثقافية الصهيونية، طالما استمرّ الكيان في اضطهاد الشعب الفلسطيني وحرمانه من حقوقه الطبيعية. باختصار استطاعت «بي دي أس» تعبئة قطاعات واسعة من المثقفين والناشطين في الولايات المتحدة وأوروبا وحول العالم. في دول الغرب، حققت نجاحات كبيرة في تغيير مزاج شباب الجامعات تجاه القضية الفلسطينية رغم احتكار الدعاية الصهيونية للخطاب الجامعي. جنّدت العديد من الهيئات الشعبية والمؤسّساتية، مثل الكنائس الإنجيلية التي صفّت استثمارات أوقافها في الشركات العاملة في الكيان سواء كانت صهيونية المنشأ أو غير صهيونية. الاتحاد الأوروبي قرّر عدم استيراد البضائع الصادرة عن المستعمرات الصهيونية في فلسطين المحتلة بسبب الضغوط الشعبية التي أنتجتها حملة «بي دي أس» هناك. علم الحركة ظاهرة تستحق الدراسة.
في الواقع، إن نجاح «بي دي أس» أثار حفيظة الحكومات الغربية المؤيّدة للكيان الصهيوني، فحاولت إصدار تشريعات تمنع أو تحدّ من نشاطها، غير أنها فشلت أحياناً كثيرة. فالأسلوب العلمي والهادئ يستطيع إقناع من يريد أن يستمع، بينما الجرائم الصهيونية ساهمت في إعطاء مصداقية لطرح «بي دي أس».
أما على الصعيد الرقمي، فقد كبّدت الحركة خسائر فادحة للاقتصاد الصهيوني. وفقاً لتقرير أعدّه موقع «العربي الجديد» نقلاً عن تقرير نشرته محطة «سي أن بي سي» الأميركية صدر في تموز 2017، فإن المقاطعة ستكلّف الكيان الصهيوني أكثر من 80 مليار دولار منها 44 ملياراً تعود إلى الخدمات التجارية. أضف إلى ذلك جملة من الانسحابات لشركات دولية كانت تعمل داخل الكيان.

تفعيل مكتب المقاطعة
من المجدي إعادة الاعتبار لمكتب مقاطعة إسرائيل وتفعيله. صحيح أن الجامعة العربية تحت سطوة دول الخليج المطبّعة، إلا هذا لا يمنع الحكومات غير المطبّعة من دعم مكتب المقاطعة الموجود في كل قطر عربي. فالمقاطعة كانت فعالة عبر السنوات وأفضت إلى خسائر هائلة تكبدها الكيان تُقدر اليوم بنحو 95 مليار دولار. وإذا كانت المقاطعة مدعومة بمقاومة سلمية، فالخسارة المقدرة للفلسطينيين ستبلغ 12 مليار دولار في مقابل خسائر للكيان تصل إلى 80 مليار كما جاء في تقرير لمركز «راند كوربوريشن» أصدره سنة 2014 حول الكلفة المحتملة وفقاً لعدّة سناريوهات. فالمقاطعة ستكون مكلفة للفلسطينيين لكن الكلفة على الكيان ستكون تقريباً سبعة أضعاف. لذا، يمكن تفعيل مكتب المقاطعة عبر الدعم الذي يمكن أن تقدّمه الدول الرافضة للتطبيع مثل الجزائر وتونس والكويت.
إنشاء صندوق شعبي لدعم الشعب الفلسطيني
هدف إنشاء الصندوق الشعبي لدعم الشعب الفلسطيني، المساعدة على مقاطعة المنتجات الصهيونية في الضفة ومقاطعة العمل وراء الخطّ الأخضر. ليس سهلاً تحقيق ذلك، لكن أقوى إشارة لمقاومة التطبيع في الوطن العربي تأتي من فلسطين. الدعم الشعبي العربي مطلوب بشكل ملّح. ستكون هناك صعوبات لوجيستية منها خطر الفساد في تأمين المساعدات المالية كبديل جزئي من الخسارة التي سيتحمّلها الشعب الفلسطيني، لكن لا بد من ذلك. من جهة أخرى، إن مقاطعة البضائع الصهيونية، وعدم تقديم اليد العاملة الرخيصة والعالية الإنتاجية، سيضرّ مباشرة بالاقتصاد الصهيوني. انتفاضة جديدة تقاطع المنتجات الصهيونية (حتى لو كانت سلمية)، بالإضافة إلى عصيان مدني في وجه سلطات الاحتلال، قد تؤذي سمعة الكيان وتجلب الضغوط الدولية عليه.

المقاومة الفكرية الاقتصادية
التطبيع مع الكيان جزء من مشروع العولمة الهادف إلى إخضاع الدول الناشئة لنظام اقتصادي دولي تتحكّم فيه دول الشمال بشكل عام، والولايات المتحدة بشكل خاص. وبما أن الترويج الفكري للتطبيع يستند إلى تلويح بنمو التجارة الخارجية للدولة المطبّعة، فإن نقض هذا النموذج التنموي ينفي جدوى التطبيع. كما أشار الدكتور نجيب أقصبي حول التجربة المغربية فإن «الشراكة التجارية» و«التجارة الحرّة» مع الولايات المتحدة كانت بشكل سافر لصالح الولايات المتحدة وعلى حساب المغرب. لذا يجب أن يكون هناك فكر اقتصادي جديد يناهض الفكر الاقتصادي الغربي الذي يشكّل حجّة لسياسات غير مقبولة من وجهة نظر الدول الناشئة وفي هذه الحال الدول العربية.
حركة «بي دي أس» مثال يُحتذى به لدراسة حملات مقاطعة البضائع الصهيونية


من جهة أخرى فإن الرد على التطبيع كنموذج اقتصادي للتنمية يكمن عبر التشبيك الاقتصادي بين الدول العربية وليس مع الكيان الصهيوني الذي لا يستطيع أن يقدّم ما تحتاجه الدول العربية. وبمعزل عن هذه الاعتبارات، إن التطبيع مع الكيان هو انحراف أخلاقي لا يجوز أن نقع فيه. ففي المقابل هناك سبل أخرى للتنمية والرخاء يمكن سلوكها، لكنها تحتاج لقرارات شجاعة تكرّس استقلالية القرار الوطني أمام الإملاءات الخارجية التي منها التطبيع مع العدو.
موجة التطبيع القائمة تدلّ، في رأينا، على:
- ضعف الموقف الصهيوني والأميركي. بات واضحاً أن التطبيع الذي فُرض بموجب اتفاقية سلام مع العدو، لا يحظى بأي نجاح بسبب مقاومة الشعب في كل من مصر والأردن. ولا بد من تسجيل تساهل السلطة تجاه المقاطعة الشعبية للتطبيع. ويمكن اعتبار تطبيع بعض دول الخليج بمثابة عدوان صريح على أمن الأمة، وخصوصاً على أمن مصر والأردن ولبنان وسورية. هذه الدول المطبّعة لم تقاتل الكيان، وبالتالي لن تؤثّر في المعادلة الاستراتيجية لموازين القوّة، أي أن تأثيرها سيكون محدوداً جدّاً.
- التطبيع لم يعد بالفوائد الاقتصادية المرتقبة للدول المطبّعة، بل أضاف لمصلحة الكيان الذي أضاف فوقها مكسباً سياسياً كبيراً.
- المقاومة الشعبية ضرورة لمواجهة التطبيع كما أنها فعّالة إذا توافرت الإرادة التي تستطيع تجاوز العقبات اللوجستية.
- تجربة الغاز الفاشلة بين مصر والكيان تشير إلى أن العدو لا يستطيع حماية خط الأنابيب. لعل ذلك درس يمكن الاستفادة منه إذا أقدّمت الإمارات والكيان على مدّ أنبوب وسكّة حديد بين الخليج والكيان.
- ضرورة إنشاء صندوق شعبي عربي لدعم الصمود الفلسطيني في مقاطعة المنتجات الصهيونية والانكفاء عن العمل في اقتصاد الكيان.

**باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي



التطبيع في ظل ترامب
في الأشهر الأخيرة من ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حصلت سلسلة اتفاقيات تطبيع مع عدد من الدول العربية هي بمثابة ربح سياسي صافٍ للكيان الصهيوني، وإن كان ربحاً مضخّماً. ونالت هذه الاتفاقيات ترويجاً إعلامياً واسعاً وسط محاولات الدول المطبّعة استغلاله لتسويق سردية قائمة على إظهار الفوائد الاقتصادية. غير أن التجربة التاريخية مع مصر والأردن والسلطة الفلسطينية، تشير إلى أن الكيان الصهيوني هو المستفيد سياسياً عبر خروج مصر من دائرة الصراع، أو الأردن كبوّابة للخليج.
-المغرب: يشير الاقتصادي نجيب الأقصبي إلى أن منافع التطبيع وهمية. هو يستند إلى اتفاقية الشراكة مع الولايات المتحدة التي أفضت إلى تفاقم العجز في الميزان التجاري من 5 مليارات دولار في 2006 إلى 25 مليار دولار في 2019. عن أي مكسب يمكن الحديث إذاً؟ فالوعود بالمن والسلوى ليست إلّا لتطمين المشكّكين في جدوى التطبيع بينما الدلائل التاريخية تشير إلى العكس. لذا، ليس هناك تأكيد بأن العلاقة بين المغرب والكيان الصهيوني ستأتي بمكاسب اقتصادية ذات أهمية للمغرب مقارنة بما سيحصل عليه الكيان الصهيوني، وذلك بمعزل عن عدم أخلاقية التطبيع مع العدو الوجودي للعرب وللمسلمين.
-السودان: قد تكون حالة السودان أسوأ، لأن أطماع الكيان بمياهه وثرواته الزراعية تفوق أي مكاسب قد يحصل عليها السودان. وفي العموم، إن الشعب السوداني ليس جاهزاً لتقبّل التطبيع، بل سيقاومه لأنه ينقض الموروث التاريخي الذي يتمسّك به. كذلك لا بد من الإشارة إلى أن سدّ النهضة الاثيوبي الذي يحظى بتشجيع صهيوني يمثّل خطراً مباشراً على السودان ومصر. لذا، يتوقع مواجهة حادّة بين الشعب والسلطة الجديدة التي تخلّت بشكل صريح عن ثوابت الأمة.
-الإمارات والبحرين: إذا تحققت الاتفاقيات التي يُشار إليها بين الكيان والإمارات والبحرين لجهة تطوير المرافق وخطوط نقل الغاز والنفط من الخليج إلى شرق المتوسط، تشكّل عدواناً صريحاً على مصر، لبنان، سورية، والأردن. فالتطبيع تلازم مع ضرب مرفأ بيروت، ومع مشاريع خطوط سكك حديدية تربط مرفأ حيفا بالخليج متجاوزة قناة السويس ومهددة أمن الأردن لجهة التعرضّ الأمني الحتمي لذلك الخط.
كما أن المستفيد الأكبر هو الكيان الطامع بالرساميل الإماراتية والخليجية، بينما الاستفادة من التكنولوجيا الصهيونية ستكون محظورة كما حُظر الاستثمار الإماراتي في مرافئ الولايات المتحدة. فالولايات المتحدة والكيان الصهيوني ثابتان في عدم الإيفاء بالتعهدات أو في تحويرها لصالحهما بسبب اللاتوازن في القدرات بين الطرف الإماراتي والخليجي والطرف الأميركي والصهيوني.
عين العدو على الرساميل والنفط والغاز بينما النظام القائم لا يسعى إلّا لحماية حكمه من غضب الشعب الإماراتي. لكن الخطورة تكمن في مباشرة السلطات الإماراتية بممارسة القمع لكل من يعارض التطبيع وأن تعمل على تغيير المناهج التربوية لجعل التطبيع مع الكيان الصهيوني أمراً مقبولاً. كما أن التخلّي عن القضية الفلسطينية وعدم اعتبارها أولوية هي أيضاً ضربة قاسية لثوابت الأمة.
أما في البحرين، فالشعب البحريني كان وما زال وسيستمر مقاوماً للتطبيع مع الكيان وسيستمر في تصعيد المقاومة عبر التشهير وفضح كل من يقدم على تطبيع اقتصادي مع الكيان.
أما التضخيم الإعلامي للتطبيع فمصدره الكيان في الدرجة الأولى للتغطية على الإخفاقات التي يواجهها. فما صدر في بعض وسائل التواصل الاجتماعي الإماراتي من تزايد في اللقاءات والتبجيل لا يمثل رأي أكثرية الإماراتيين كما أبرزته بعض مراكز استطلاع الرأي العام.

* هذا المقال هو الحلقة الأخيرة من الورقة التي أعدّها الباحث والكاتب الاقتصادي والسياسي، زياد حافظ بعنوان: «البعد الاقتصادي للتطبيع: الواقع والمواجهة}، والتي قدّمها في منتدى «متحدون ضد التطبيع} في 21 شباط 2021. يقول حافظ إن مهمة الورقة ليست تعداد المكتسبات التي حققها الكيان الصهيوني من خلال اتفاقيات السلام والتطبيع غير الرسمي الذي تعمّم في التسعينيات، بل التركيز على فكرة أساسية أن هذه الاتفاقيات لم تؤدّ إلى تحسين المشهد الاقتصادي للدول التي أقدمت على تلك الخطوة

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام