حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على المحكّ. بين الطلب السويسري للمساعدة القضائية من لبنان بشأن تحويلات مالية نفّذها سلامة وشقيقه رجا ومساعدته ماريان الحويك، وبين الرغبة المحليّة المحدودة الراغبة بإقالته أو إبعاده عن الحاكمية، ثمّة الكثير مما لا علاقه له بالتفليسة التي أشرف عليها وأدارها بصفته أحد أبرز رموز السلطة وقائدها التنفيذي. أصلاً، بعد أكثر من سنة على الانهيار، وفي ظل استفحال انتشار «كورونا»، يبدو أن الحديث عن النهوض من القعر الذي بلغه الانهيار لغاية اليوم، أمرٌ لا يقع ضمن أي نقاش عام، لا بل يظهر أنه ليس أمراً ملحّاً. كل ما يحصل اليوم، يدور في فلك تأليف الحكومة أو عرقلتها في ظل عدم توافر شروط انطلاقة النهوض. فالرغبة الدولية بالمساعدة «غير المجانية» غير موجودة بعد، فيما تمكّن سلامة من كيّ الرغبة الداخلية بالنهوض عبر طباعة النقد «المجاني» وتوزيعه. الباقي تفاصيل. معاونوه في المجلس المركزي هم مراسيل للأطراف السياسية. المسافة التي تبعد بينه وبين الأطراف - المراكز السياسية «المعادية» واسعة جداً. كتلة المصالح التي تجمعه بالآخرين، أقوى من الاهتزاز. يدرك تماماً موقعه في السوق كأحد صانعي اللعبة. يعلم أيضاً أيّ مصالح يجب دغدغتها، وأيّها يجب كبحها. يملك سلطاناً من الصلاحيات «المارونية» في قانون النقد والتسليف، فضلاً عن وسائل وأدوات لا تُعدّ ولا تُحصى. وسط كل هذه التفاصيل يأتي الطلب السويسري. واقع محيّر يحيط بأحد قادة اللعبة ورمزها التنفيذي: رياض سلامة.
حسن بليبل ــ لبنان

بالنسبة إلى سلامة، كان الانهيار محطّة من بين محطات متعدّدة ابتداءً من «باريس -1» وصولاً إلى «باريس -4» الملقّب بـ«سيدر». في كل تلك المحطات كان سلامة حاضراً. راكم خبرة واسعة في التعامل مع قوى السوق والسلطة. لذا، تبدّى له الانهيار بوضوح ابتداءً من عام 2011. هذا ما تقوله المؤشرات الرقمية عن الموجودات الصافية الخارجية للبنان. كانت النسبة 60% قبل عام 2000، ثم بدأت تنخفض وترتفع انسجاماً مع التدفّقات الآتية من مؤتمرات باريس، ومن ارتفاع أسعار النفط والأثر الناتج عن الأزمة المالية العالمية، إلى أن بدأت تنخفض بشكل دراماتيكي ابتداءً من عام 2011. لذا، سلامة كان يعلم أن هناك محطّة إفلاس إضافية آتية لا محال. بهذا المعنى، فإن انهيار النموذج أو ترقب انهياره، لم يكن نتيجة تقتضي منه تعديلاً في السلوك، بل مرحلة يجب التحضير لها للتكيّف. الهندسات المالية كانت الخطوة الأكثر وضوحاً بهذا الاتجاه. نفّذها بلا «رمشة عين». عَرَضَ على المصارف أرباحاً طائلة فانخرطت بها بلا سؤال. عرف غوايتهم المفضلة بفضل كل تلك السنوات من اللعب على حافة الإفلاس. كما كانت لديه فكرة واضحة عن كسل المصرفيين وجشعهم غير المحدود. يدرك أنهم لم يمارسوا العمل المصرفي الفعلي منذ عقود. هو ربّاهم بهذه الطريقة. ففي مقابل أرباح سهلة وسريعة طائلة، استقطب سيولتهم المودعة في الخارج. بهذه البساطة انطلت عليهم الحيلة. بعضهم يجاهر اليوم علناً بأن الجشع هو الذي قادهم نحو هذه الهاوية. لكن تربيتهم على يد سلامة، وجشعهم، كانت ضحيتهما ودائع الناس.


ما قام به سلامة، يعبّر عن إدراكه ومعرفته بكتلة المصالح والتوازنات السوقية. فهو الأقوى بينهم، وهو الذي أدار انهياراً يمتدّ في جذوره إلى عقود من الزمن. يقول شربل نحاس في كتابه الأخير «اقتصاد ودولة للبنان»: «سمح تمديد عمر النظام لمن يديرونه (بشكل أساسي المصرف المركزي ومن يديرون العمليات المالية) باكتساب المزيد والمزيد من الاحتراف في ضبطه». فقد تحكّم سلامة بالمصارف، وبكبار المودعين، واستخدم المال العام على نطاق واسع وحلّ محلّ الحكومات، ودعم قيمة الأصول من أسهم وعقارات، ودعم الاستهلاك بالقروض... كل ما قام به هو في إطار «إطالة عمر النظام بأي ثمن» بحسب نحاس. وفيما أصبح هو أسير لعبة الحفاظ على النموذج، منذ تعيينه حاكماً لمصرف لبنان، أغرق المصارف فيها أيضاً. كلاهما أصبحا أسرى الأدوار. سلامة أسير لعبة الحفاظ على نموذج يدرك أنه سينهار عاجلاً أم آجلاً، والمصارف أسيرة الجشع والكسل. كان يعلم أن مخطط الاحتيال (بوزني سكيم) سيسقط يوماً ما، لكنه استمر بمراكمة الخسائر والرهان على شراء الوقت.
ما قام به سلامة يعبّر عن إدراكه ومعرفته بكتلة المصالح والتوازنات السوقية


لذا، عندما يقول الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف، سمير حمّود: «نعم كنّا نعلم (المقصود هو والحاكم) بأن الانهيار آت»، فهو يعبّر عن وضوح المسار أمامهما. وحدهم المصرفيون كانوا بغباء السقوط بفخّ الإنكار. فرّطوا بأموال المودعين وأودعوها لدى سلامة. أما هذا الأخير فقد حجزها بهدفين: تغطية الخسائر السابقة، ومنع المصارف من استعمال هذه السيولة ضدّه في حال وقع الانهيار. الخسائر كانت تتراكم بفعل التحويل التدريجي للودائع الآتية بالدولار إلى موجودات محليّة. أما تجفيف سيولة المصارف بالدولار، فهو الرهان الأهم لديه. تخيّلوا لو أن الانهيار وقع فيما لدى المصارف موجودات خارجية كبيرة (سيولة بالدولار لدى المصارف المراسلة) مقابل كمية متواضعة من الموجودات بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان. كان وقع الانهيار سيكون سريعاً وأكثر حدّة. لو حصل ذلك، فإنه خلال بضعة أيام سيفقد المركزي القدرة على التحكّم بالسوق مهما اتخّذ من إجراءات. ستهرب الأموال بشكل جنوني، وستكون لقوى السلطة مصلحة في منع أي قيود أو ضوابط على عمليات السحب والتحويل. سلامة كان يستقرئ كل ذلك، كما لو أنه كان شريكاً في لعبة انهيار عام 1993.

سلامة كان يعلم أن هناك محطّة إفلاس إضافية آتية لا محال ما يعني أن انهيار النموذج أو ترقب انهياره، لم يكن نتيجة تقتضي منه تعديلاً في السلوك، بل مرحلة يجب التحضير لها للتكيّف


سلامة كان يعلم ماذا يفعل. كانت جولاته التحذيرية أو التطمينية على قوى السلطة في إطار وظيفته كقائد تنفيذي للنموذج. أما رهانهم اليوم، فهو على تذويب قيمة الخسائر عبر طباعة النقد. لا يهمه أن المودعين دفعوا الثمن بمدّخراتهم وثرواتهم، وأن المقيمين في لبنان دفعوا الثمن بتضخّم الأسعار والفقر والبطالة. المهم بالنسبة إليه انتشال النموذج من القعر. فليُترك الناس في القعر، وليُرفع النموذج. هذه كانت الحال منذ عقود. سلامة والمصارف لا يهتمّان إلا برفاهية فئة قليلة راكمت الثروة ونهبت المال العام. هذه الرفاهية هي على المحكّ أيضاً في ظل الاتهامات السويسرية لسلامة. المحاسبة ضرورية، لكن ثمة مشكلة جوهرية: الرهان على وعي السلطة في إدارة المرحلة الانتقالية - إذا حصلت - يشبه الرهان على خطوات سلامة للتكيّف مع الانهيار. التكيّف يعني الفقر والبطالة، ولا رادع لهذه السلطة من تعميقهما أكثر فأكثر.



رسم بياني | الانهيار برعاية مصرف لبنان
الانهيار كان حتمياً طالما أن النظام المالي كان يتآكل رغم كل محاولات تمديد أمده. المؤشرات كانت واضحة وتدلّ على الانهيار المقبل كلّ مرّة منذ عام 1992 ولغاية 2019. حصل كل ذلك برعاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. على يمينه قوى السلطة، وعلى يساره المصارف. السقوط الحرّ للموجودات الخارجية الصافية، على مدى السنوات كان مؤشراً واضحاً. فقد ورد في كتاب شربل نحاس «اقتصاد ودولة للبنان»، أن المسار العام للآلية المالية للنظام اتّسم بمنحى تراجعي دائم يظهر عبر تراجع نسبة السيولة الفعلية، أي الموجودات الخارجية الصافية للنظام المالي، من مصرف مركزي ومصارف، إلى الكتلة النقدية الإجمالية (أي النقد في التداول، ودائع المقيمين بالليرة وبالدولار ما دام سعر الصرف يُعتبر ثابتاً). هذا المنحى واضح على مرحلتين؛
- الفترة الممتدة بين عامَي 1992 و2002: تراجعت نسبة السيولة من 60% إلى 10%.
- الفترة الممتدة بين عامَي 2012 و2019: تراجعت نسبة السيولة من 30% إلى 3%.
هكذا انفجرت الأزمة، لكنْ ما بين الفترتين هناك «فترة استراحة» أو «وقت معلّق» استمر لنحو 9 سنوات شهدت فيها السيولة استقراراً حول معدل 22%، فكيف حصل ذلك؟
يقول نحاس: هنا نتبيّن مفاعيل الصدف والتحيّن والتمرّس. حصلت معجزتان:
* أتى الإنقاذ في المرة الأولى عبر انعقاد مؤتمر «باريس 2» في تشرين الثاني 2002، وكان الدافع إلى انعقاده تلاقي فرنسا والسعودية وسوريا، كل لأسبابه، على التخوّف من إعلان الولايات المتحدة تصميمها على اجتياح العراق وقلب نظامه، فاعتبرت أن الوقت غير مناسب أبداً لحصول انهيار مالي في لبنان - لكل منها مواقع ومصالح - قد يولّد بحكم ما ينجم عنه من ارتدادات سياسية وأمنية، مصدر إرباك إضافي. بنتيجة المؤتمر دخلت 4.5 مليارات دولار، وعظّم وقعه طابعه المفاجئ وغياب أي شروط، ما ولّد لدى اللبنانيين الاقتناع أو الوهم بأن العالم لن يترك لبنان يقع أبداً. لكن مفاعيل المؤتمر راحت تتلاشى، ثم أتت المواجهة السياسية الكبرى، فالاغتيالات في عام 2005، والحرب التي شنّتها إسرائيل في عام 2006. رغم ذلك كلّه، استمرّت فترة الاستراحة، لا بل تعزّزت نسبة السيولة إلى مستوى 32% في نهاية 2010.
* المعجزة الثانية التي سمحت بذلك، كانت ارتفاع أسعار النفط من 40 دولاراً للبرميل في خريف 2002 إلى 105 دولارات في ربيع 2014. ولّد هذا الارتفاع طفرة في الدول النفطية انعكست تعاظماً في دفق الأموال إلى لبنان، من المغتربين ومن أثرياء الدول الخليجية، عزّزته الأزمة المالية العالمية وما نتج عنها من خسائر في البورصات الغربية، لكن اندلاع الحرب في سوريا في عام 2012 راح يقضم هذا الدفع تدريجياً.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

كان لتحيّن الفرص الخارجية دوره الأكيد، لكنّ التمرّس كان له دوره أيضاً، يقول نحاس. ويشير إلى أن معالم التمرّس في تغيّر علاقة مصرف لبنان بالمصارف من جهة، وبالحكومات من جهة ثانية، مستدلاً على ذلك من خلال تتبّع أربعة مؤشرات: الموجودات الخارجية الصافية، تغطية الكتلة النقدية بالسيولة الخارجية، نسبة الليرة في ودائع المقيمين، حصّة المصارف من الموجودات الخارجية الصافية.
معاينة هذه المؤشرات تكشف عن ثلاث طبقات من العوامل التي تبيّن اختلاف المراحل وتسلسلها:
1- منطق النظام وما يفرضه من سياق عام، أي استهلاك التحويلات لتمويل العجز الخارجي بينما تبقى غالبيتها مسجّلة كودائع.
2- علاقة السياسة النقدية، أي مصرف لبنان، بالسياسة المالية، أي السلطة السياسية، وقد تحوّلت هذه الأخيرة من جنون مالي نفعي وسياسي بدأ في عام 1992 (أيام الرشوة) إلى تقشّف انتقائي وجاهل (أيام التهديد) بعد عام 1997.
3- المفاعيل المتداخلة للتطورات الخارجية وللشطارة والتمرّس اللذين استثمرا هذه التطورات لتشويه الأنظمة الشكلية والأعراف المهنية والمؤشرات السوقية، كل ذلك عدّل مفاهيم المخاطر بين الناس وقبض على سلوكهم، ما أتاح للنظام الاستدامة بتعظيم خسائره.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا