في عام 2020 ضجّ المجتمع اللبناني بمصطلحات جديدة تعكس زيادة في الوعي المالي (financial literacy) الجماعي، رغم أن بعضها ينطوي على خدع يجري استغلالها بهدف طمس الحقائق وتضييع المسؤوليات. سريعاً سادت هذه المصطلحات في إطار من التكيّف مع الأزمة واستسلام لها، فبات يُتداول بالمصطلحات الجديدة بلا وعي فعلي عن المسار الذي ترسمه أو المقصود الفعلي منها. فالدولار اللبناني صار دولاراً وهمياً، وكأنّ المغتربين الذين عملوا في الخارج لم يقعوا فريسة المصارف ومصرف لبنان اللذيْن كانا ولا يزالان يديران أكبر «مخطط احتيال» (بونزي سكيم) في تاريخ لبنان. هؤلاء حوّلوا الدولارات الناتجة من قوّة عملهم وهذه الأموال لديها أصول فعلية جرى الاستيلاء عليها بغير علمهم بطبيعة النموذج ولا بآليات عمله. المصطلحات التي يتم التداول فيها حالياً تعبّر عن واقع مغاير للحقيقة وتلمح إلى أن أموالهم هي وهمية بينما الواقع، أنها الأموال الحقيقية التي دخلت إلى صلب هذا المخطط الاحتيالي. والمصطلحات التي تعبر عن الإنقاذ من الداخل (bail in) أو من الخارج (bail out) هي أصلاً تعني أن إنقاذ المؤسسات المفلسة يكون بتمويل من أموال دافعي الضرائب أو من رساميل هذه المؤسسات والمودعين. بمعنى آخر، المسألة ليست تقنية. فعلى أي سعر صرف سيحصل هؤلاء مقابل أموالهم، وعلى أي عائد وبأي عملة سيحصل هؤلاء إذا وافقوا على إنقاذ المؤسسات المفلسة بأموالهم الحقيقية؟ كيف تحوّلت هذه الأموال إلى دولارات وهمية؟ ثمة الكثير من الأسئلة التي لا يمكن الإجابة عليها في ظل نظام يسمح باستمرار القيود غير الشرعية التي تفرضها المصارف من دون أن ينظّم هذه القيود ويضع ضوابط تحمي الاقتصاد والمجتمع اللبناني من أهواء ورغبات مصرف لبنان والمصارف. لا بل إن هذه الأهواء خلقت ضرائب جديدة في السوق يتم اقتطاعها عبر أدوات مختلفة، مثل الشيك المصرفي الذي يسهم في نقل الثروة من جيوب المودعين إلى جيوب المقترضين، وهذه الأدوات تمثّل فرصة لاقتناص المزيد من الأموال عبر العمولات على «الفريش دولار». بهذا المعنى يصبح الوعي المالي الجماعي سطحياً لأنه يلغي المفاعيل الفعلية للمصطلحات ويعلّبها في عبارات شائعة للاستخدام اليومي.
ما هي أبرز هذه المصطلحات، كيف تُستعمل؟ ما الأهداف منها؟

الدولار اللبناني (الدولار الوهمي)
انتشرت عبارة «الدولار اللبناني» (لولار) أو «الدولار الوهمي». الكل يردّدها باعتبارها أموالاً بالعملة الأجنبية وهميّة، أي غير موجودة أصلاً، رغم أنها مسجّلة دفترياً في حسابات المصارف. تقنياً، هناك تعريف أوضح لهذه العبارة يشير إلى أنها أموال دفترية بالعملات الأجنبية لا تقابلها موجودات فعلية بالعملة الأجنبية (أصول خارجية، أو عملات ورقية...). لكنّ هذا التعريف لا يفسّر كل الحقيقة الكامنة وراء هذا المصطلح الذي جرى الترويج له من قبل مصرفيين ووسطاء في السوق المالية وسماسرة. فهذه الأموال تُقسم إلى قسمين: المبالغ الحقيقية بالعملة الأجنبية التي أتت إلى لبنان والناتجة من قوّة عمل المغتربين أو من استثمارات تحقّقت في الاقتصاد المحلي، والمبالغ الوهمية التي خلقها النظام المصرفي عبر الإقراض والفوائد. التمييز بين الأمرين ضروري جداً للفصل بين المسؤوليات الفعلية التي يجب أن تترتب على القسم الأول، وتلك المترتبة على القسم الثاني. فالدولار المحلّي كان عبارة عن دولار حقيقي حوّلته السلطة النقدية والنظام المصرفي إلى دولار محلّي لتغذية «مخطط الاحتيال»، لكنها في سياق هذه العملية خلقت منه أيضاً دولاراً وهمياً لم يأت عبر التحويل من الخارج.- الدولار الحقيقي: هي المبالغ التي دخلت إلى النظام المصرفي عبر تحويلات من الخارج. الجزء الأكبر منها يعود إلى لبنانيين مغتربين أرادوا الاحتفاظ بأموالهم في ما اعتبروه ملاذاً آمناً بعدما «باعتهم» المصارف اللبنانية أوهاماً عن صورتها الصلبة التي لا تهزّها أي أزمة. وقد أسهم في تعزيز هذه الصورة التداعيات المحلية الطفيفة الناتجة من الأزمة المالية العالمية في نهاية عام 2008. في حينه، أتت إلى لبنان الأموال الهاربة من الأزمة العالمية بعد انهيار معدلات الفوائد في الخارج مقارنة مع أسعار فائدة محلية مرتفعة صُمّمت أصلاً من أجل استقطاب المزيد من التحويلات وكبح احتمالات انسحاب الأموال التي أتت سابقاً. فالأموال التي أتت سابقاً تم تحويلها إلى دولارات محلية وهذا له ترجمة اقتصادية واضحة المعالم (الدولارات موّلت شراء سلع وخدمات مستوردة استُهلكت في الداخل وتحوّلت إلى موجودات محلية). وعندما يتم تحويل الدولارات الحقيقية إلى دولارات محلية، فهذا يعني أنه مقابل الدولار باتت لدينا موجودات غير قابلة للتحويل إلى الخارج. للتبسيط، إن تشييد العقارات بتمويل من الدولارات الحقيقية حوّلها إلى أصول محلية غير قابلة للتصدير وغير قابلة للبيع في الخارج. بمعنى أنه لم يعد بالإمكان الحصول على الدولارات الحقيقية مقابل بيع هذه العقارات، بل يمكن تداولها محلياً فقط. وإذا أخذنا مثالاً آخر عن استيراد الغذاء والملابس والأحذية من الخارج بدولارات حقيقية، فإن هذه السلع استُهلكت مقابل ليرات لبنانية. لم يعد بالإمكان الحصول على الدولارات منها.
في هذا الإطار، إن تدفق الأموال خلال الأزمة المالية العالمية، لم يكن ناجماً عن قرار بعنوان حماية وعزل لبنان من الأزمات الخارجية، بل على العكس زادت مخاطر الانكشاف على الخارج، لأن أسعار الفائدة المحلية المرتفعة أتاحت وصول الأموال الهاربة من الخارج بكميات كبيرة تفوق قدرة الاقتصاد على الامتصاص، ثم جرى تحويلها إلى دولارات محلية، وبالتالي فإن تسديدها عند انسحابها بات يتطلب تدفق المزيد من الدولارات من الخارج. كل دولار حقيقي يأتي إلى لبنان، ثم يتحوّل إلى دولار محلّي، لا يمكن سداده إلا بدولارات إضافية تأتي من الخارج. هذا هو التفسير الفعلي لما يسمى «بونزي سكيم» أو «مخطّط الاحتيال». الأمر يشبه ما حصل مع الكثيرين في لبنان الذين أودعوا أموالهم مع شخص يعتبرونه «ثقة» مقابل فوائد مرتفعة، لكنهم اكتشفوا في النهاية، أنه كان يدفع لهم من أموال أناس آخرين وثقوا فيه أيضاً، وكلما زاد عدد المودعين لديه، زادت حاجته إلى مودعين جدد. وإذا بدأ المودعون بالانسحاب من العملية وفقدوا ثقتهم به، فإن انهياره يصبح وشيكاً أكثر فأكثر. فكروا بالأمر على مستوى دولة وعملة محلية وعملة أجنبية تصبح النتيجة «عملية احتيال». هذه العملية شارك فيها النظام المصرفي بفعّالية كبيرة.
في عامَي 2018 و2019 تضخّمت عملية الاحتيال إلى درجة أن الحفاظ على الأموال الموجودة بات يتطلب زيادة كبيرة في أسعار الفائدة المحلية. وصلت الفائدة على ودائع الدولار في المصارف اللبنانية إلى 24% وهي معدلات خيالية لا يمكن إلا استشعار الخطر منها والتنبّه إلى الوقوع ضحية عملية احتيال واسعة. من انتبه لهذا الأمر، حوّل أمواله إلى الخارج لأنه «اقتصاد حرّ» يتيح له ذلك، غير أنه من دون أن يعلم حصل على أموال أناس آخرين. وعلى سبيل المثال، إن المصارف كانت توزّع الأرباح على مساهميها إلى الخارج، إلا أن هذه الأموال ليست دولارات حقيقية، بل هي أموال أناس آخرين. غالبية الناس تشير إلى تبخّر الودائع بالدولار على أنها عملية تلقائية في النظام تقع مسؤوليتها على الذين أنفقوا الأموال، إلا أنهم لا يعلمون معنى التبخّر المقصود فيه، وهو أن هذه الأموال لم يعد يقابلها سوى موجودات محلية. هذه الأموال كانت حقيقية، وهي لا تشبه بأي شكل من الأشكال الدولارات الوهمية.
- الدولار الوهمي: هي الدولارات التي راكمتها المصارف دفترياً في حساباتها نتيجة الإقراض المحلّي بالدولار. فالمصرف عندما يقرض الدولارات التي تملّكها من المودع لزبون استعملها في الاستهلاك المحلّي، بدأ يرتّب عليها فائدة بالدولار، أي أنه خلق منها نقداً بالعملة الأجنبية لا يملكه ولا يملك مصرف لبنان السيطرة عليه. وهذا الأمر لا ينطبق على المصارف في علاقتها مع الزبائن، بل ينطبق أيضاً على علاقتها مع مصرف لبنان الذي استحوذ على ودائع الدولار وبات يدفع عليها فوائد بالعملات الأجنبية، بالإضافة إلى عملياته في سوق القطع لحماية تثبيت سعر الصرف. فهو كان يحصل على الدولارات من المصارف، ثم يضخّها في السوق لدعم تثبيت سعر الصرف، أي أن الدولارات التي كان يضعها في حساباته الخارجية (موجودات خارجية) أصبحت تموّل عمليات محلية. كما ينطبق الأمر نفسه على توظيف الدولارات في الدين العام (سندات اليوروبوندز) فمن أين تدفع الحكومة فوائد الديون بالدولار؟ تدفعها بالطريقة نفسها، أي عبر ودائع أناس آخرين، إلا إذا كانت لديها إيرادات بالدولار من الخارج.
إذاً، ما المقصود بالخلط بين الدولارات الفعلية المحوّلة إلى دولارات محلية، وبين الدولارات الوهمية أصلاً؟ ثمة إيحاء في المصطلحات المستعملة (لولار ودولار وهمي وسواهما) بأن هذه الدولارات ليست حقاً لأصحابها، وأنه يجب شطبها من دفاتر المصارف، بينما الواقع، إن التمييز بينها يمهّد لعمل مختلف. ربما يجب شطب كل الدولارات الوهمية التي حصلت عليها المصارف أو المودعون من الفوائد. الهيركات، أو عملية الشطب والاقتطاع من الودائع يكون لها معنى في هذا السياق. بينما أصحاب الدولارات الحقيقية يجب أن يُعالج موضوعهم بشكل مختلف. حالياً، يدفع مصرف لبنان لكل المودعين الدولار على سعر المنصّة (3900 ليرة) سواء كانت دولاراتهم حقيقية، أو جرى تحويلها من ودائع بالليرة إلى دولار محلي على سعر 1500 ليرة وبموافقة مصرف لبنان! هذا التساوي ليس عادلاً، وليس هادفاً، بل هو يعني أن المودعين يوافقون على شطب نصف قيمة أموالهم وكأنهم يعلمون أنهم حققوا مبالغ أكبر من عملية الاحتيال التي كانت رائجة.
كل دولار حقيقي يأتي إلى لبنان، ثم يتحوّل إلى دولار محلّي، لا يمكن سداده إلا بدولارات إضافية تأتي من الخارج. هذا هو التفسير الفعلي لما يسمى «بونزي سكيم» أو «مخطّط الاحتيال»


وهنا ما هو أسوأ عندما تستعمل مصطلحات من نوع (لولار) أو (دولار فريش)، إذ يبدو للوهلة الأولى أن مستعملي هذه المصطلحات يلقون اللوم على المواطنين بدلاً من المصارف ومصرف لبنان، لأن المصارف أقرضتهم دولارات حقيقية أنفقوها ثم سدّدوا قروضهم بدولارات «وهمية» (سواء من فوائد ودائعهم أو بعد عبر شراء الدولارات من مصرف لبنان على سعر 1500 ليرة).
في الواقع، إن المسؤولية التي تترتّب على المصرفيين كبيرة جداً. فالمصارف وضعت دولاراتها في محافظ ائتمانية بشكل غير متماثل (asymmetric). فهي أقرضت «دولارات حقيقية» لتمويل قطاعات غير منتجة مثل (الإنشاءات والإسكان والسيارات والقروض الشخصية) دوناً عن قطاعات أخرى منتجة كان يمكن أن تصدّر منتجاتها مقابل دولارات إضافية من الخارج. ومن خلال هذا الإقراض، غذّت المصارف فقاعة معدلات قياسية من القروض المتعثّرة. كذلك هي تجاهلت قواعد تنويع الاستثمارات، وهي من القواعد الأولى التي تُدرّس في العلوم المالية، عبر إقراض مصرف لبنان الجزء الأكبر من دولارات المودعين «الحقيقية» ليصرفها، أمام أعينهم، على سياسات مالية متخلّفة (تثبيت سعر الصرف)، وهي سياسات تخلّت عنها غالبية الدول التي تتمتع بأنظمة اقتصادية سليمة منذ عقود طويلة. لكن في الوقت نفسه كان مصرف لبنان يؤمّن لهم جزءاً يسيراً من هذه الدولارات لتحويل الأرباح المجنية من نموذج العمل هذا، إلى الخارج. المصرفيون لا يتحدثون عن كل هذه الأمور بل هم مشغولون بآلية اقتناص أموال المودعين لتخليص رساميلهم من الشطب.
مصطلح «الدولار اللبناني» لا يعني بالمطلق أن الدولارات الحقيقية التي دخلت الى البلد وهمية، بل يشير إلى أنها صُرفت ومن كان مؤتمناً عليها، يجب عليه أن يعيدها.

«شيك مصرفي» - «فريش دولار»
أصبحت عبارة «شيك مصرفي» أو «شيك بانكير» رائجة جداً اليوم. في السابق كان الشيك المصرفي هو وسيلة دفع مثلها مثل النقد، لكنها كانت تُستعمل في العمليات التجارية الأكبر نسبياً، علماً بأن لبنان لطالما كان يتداول بالنقد الورقي أكثر من النقد الإلكتروني أو الدفتري. لكن بعد القيود غير الشرعية التي فرضتها المصارف على عمليات السحب والتحويل، بات هناك سوق خاصة لما يُسمى «شيكاً مصرفياً». وبما أن «الدولار اللبناني» الموجود فقط على شاشات المصارف، أي لا يمكن سحبه نقداً من المصارف، انحصرت وسائل استعماله بالشيكات المصرفية التي سرعان ما تحوّلت إلى عملة شبه مستقلة لها سعرها مقابل الدولار الورقي ومقابل الليرة الورقية أيضاً. دولار الشيك المصرفي (الذي يسمى بالدولار اللبناني) يساوي 33% من قيمة الدولار الحقيقي. فعلى سبيل المثال، إن شيكاً مصرفياً بقيمة 100 ألف دولار (دولار لبناني لا يمكن تحويله إلى الخارج) يباع في السوق اليوم، بقيمة 33 ألف دولار ورقي (حقيقي). لكن الأمر يثير السؤال الآتي: إذا كان الدولار اللبناني غير موجود حقيقةً، فلماذا يبقى لهذه الشيكات المصرفية قيمة في السوق؟
هذه الشيكات يمكن التصرف بها، إما من خلال سحبها على سعر صرف المنصة التي خلقها مصرف لبنان (وهو 3900 ليرة للدولار ضمن حد أقصى شهري بقيمة 5000 دولار) أو من خلال تسديد قروض مدينين للمصارف يريدون أن يتخلصوا من أعباء ديونهم. في الحالتين تُعتبر المصارف الرابح الأكبر. ففي الحالة الأولى تكون المصارف قد اقتطعت 66% من حسابات الدولار المسحوب في مطلوباتها، وهي بهذه الطريقة تخفف العبء عن نفسها، أما في الحالة الثانية فتتخلّص المصارف من قروض ترتفع احتمالات تعثّرها بمرور الوقت.
أيضاً، وُلد من رحم مصطلح الدولار اللبناني، مصطلح حسابات «فريش دولار» «External account»، الذي يُستعمل للتمييز بين الدولارات الموجودة سابقاً لدى المصارف ومصرف لبنان والتي أصبحت محلية بكاملها ابتداءً من آذار الماضي (لا يمكن سحبها إلا بالليرة على سعر المنصّة أو السعر المثبت القديم 1507 ليرات مقابل الدولار)، وبين الدولارات الحقيقية التي دخلت القطاع المصرفي بعد آذار. هذه الدولارات «تتمتع» بامتياز وحق سحبها على شكل دولارات ورقية حقيقية وتحويلها إلى الخارج. لكنّ المصارف، وبسبب حاجتها الماسة إلى تكوين مؤونات حرّة في موجوداتها الخارجية بالعملات الأجنبية، بدأت تعمل على الاستحواذ على هذه الأموال من خلال منتجات جديدة تتيح تحويل الدولارات الحقيقية إلى دولارات محلية بشكل مضاعف ثلاث مرات وربما أكثر، وهي تفرض على الأموال الآتية إلى «حسابات الفريش» عمولات باهظة من أجل اقتناص نسبة مئوية منها تحت مسميات عديدة أبرزها مصاريف التحويل.
«كابيتال كونترول»
خلال هذه السنة جرى التداول بمصطلح «كابيتال كونترول» كثيراً باعتباره قيوداً على عمليات السحب والتحويل من دون أي اعتبار لتكون هذه الأداة هادفة إلى تجاوز الأزمة. الكابيتال كونترول يعني بشكله البسيط، وضع قيود على تدفقات رأس المال، لكن المسألة الجوهرية متصلة بالغايات التي يوضع من أجلها. خلال النقاشات المتصلة بالأزمة وبخطة التعافي الحكومية، كان هناك اقتراح بإصدار قانون ينظّم هذه القيود، لكنّ الأمر اختفى من التداول بشكل مريب. شكلاً، يتم فرض القيود حتى لا يتم تهريب الأموال إلى الخارج وذلك مباشرة عند انفجار الأزمة(الدول تغلق المصارف وتمنع التحويل يوم انفجار الأزمة ولا تعيد فتح أبواب المصارف والعمليات إلا بعد إصدار مثل هذا القانون). لكن في لبنان استمرّ عمل المصارف بشكل استنسابي ومن دون أي قيود شرعية تحت أعين مصرف لبنان والحكومة ومجلس النواب.
الكابيتال كونترول، يُستخدم عادة للدلالة على عدد من التدابير التي تُتخذ بهدف الحدّ والتحكّم بتدفق العملات الصعبة إلى الخارج. قد تأتي هذه التدابير على شكل ضرائب أو رسوم على السحب والتحويل، أو بأي أشكال تحدّد حجم تدفق العملات إلى الخارج. وفي إطار هذا الهدف، فإن لبنان الذي يعتمد على الاستيراد المفرط للحصول على حاجاته، فإن الكابيتال كونترول هو موازٍ للقيود على الاستيراد (امبورت كونترول). هذه القيود قد تكون على شكل ضرائب ورسوم جمركية إضافية على سلع محدّدة، أو تحديد لوائح بما هو مسموح استيراده وما هو ممنوع، وكذلك بما يسمح تصديره أو يمنع... كل ذلك بهدف الحدّ من تدفقات السلع والنقد الأجنبي إلى الخارج، لذا لا يمكن فصل القيود على رأس المال عن القيود على استيراد السلع وتصديرها. فالحاجة إلى بعض أنواع السلع التي تُنتج محلياً، يجب أن تكون مرتبطة بمنع استيرادها من الخارج وإتاحة وصولها إلى المستهلك، والحاجة إلى منع استيراد السلع التي تُصنّف من الكماليات أو السلع التي لا يحتاج إليها البلد في أوقات الأزمات.
مثل هذا الإجراء يُعدّ بديهياً في بلد يعاني عجزاً مزمناً في ميزان المدفوعات وشحّاً في تدفقات العملة الأجنبية. صحيح أن فاتورة الاستيراد انخفضت تلقائياً بسبب انخفاض قيمة العملة الوطنية ما أدّى إلى انخفاض الطلب على البضائع المستوردة، لكنّ هذا الأمر حدث عشوائياً من دون أي تنظيم رسمي وهو يؤدي إلى اللامساواة في استعمال الدولارات. فعلى سبيل المثال، من يملك حسابات كبيرة في المصارف يستطيع التصرف بها بالليرة (حتى لو أُجبر على سحبها على سعر المنصة 3900 ليرة مقابل الدولار) لتمويل شراء بضاعة مستوردة باهظة السعر وليست سلعاً أساسية وضرورية للأسر، ما يزيد الضغط على سعر صرف الليرة.
الـ«بيل إن» - الـ«بيل أوت»
مصطلحا الـ«بيل إن» والـ«بيل أوت» أصبحا رائجين في لبنان بعد صدور خطّة التعافي المالي الحكومية. الـ«بيل أوت» هو إجراء يهدف الى إنقاذ مؤسّسة من خطر الإفلاس عبر ضخّ أموال فيها من قبل جهة خارجية. جرت العادة على اعتبار أن الـ«بيل أوت» تقوم به الحكومات لتضخّ أموالاً رسمية في قلب المؤسسات المفلسة ويتم ذلك عبر قنوات مختلفة وآليات عمل قد لا تكون تقليدية بالضرورة. وفي حالة المصارف اللبنانية، فإن خطّة التعافي الحكومية التي وضعتها «لازار» بتنسيق مباشر مع صندوق النقد الدولي، رأت أن إنقاذ المؤسسات المفلسة منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008 ولغاية اليوم لا يتم عبر استعمال أموال دافعي الضرائب، بل يتم عبر الإنقاذ من الداخل، أي الـ«بيل إن». الإنقاذ من الداخل يعني شطب الخسائر عبر شطب الودائع. هنا بالتحديد يكمن الأمر في السياسات النقدية التي يتبعها مصرف لبنان والتي تهدف إلى تقليص علاقته مع المصارف من خلال شطب أكبر قدر ممكن من الودائع مقابل طباعة النقود (إصدار النقد). فالمصارف لديها موازنة مجمعة متشابكة مع مصرف لبنان، والاثنان لديهما موازنة متشابكة مع الدولة اللبنانية (الدين العام). المصارف وظّفت نحو 12 مليار دولار في سندات الخزينة بالعملات الأجنبية وأكثر من 20 ألف مليار ليرة بسندات الخزينة بالليرة، ومصرف لبنان يحمل 5 مليارات دولار من سندات اليوروبوندز بالإضافة إلى أكثر من 50 ألف مليار ليرة من سندات الخزينة بالليرة، ومصرف لبنان لديه ودائع من المصارف بقيمة تصل إلى 156 ألف مليار ليرة، بينما المصارف عليها للزبائن ودائع بقيمة 210 آلاف مليار ليرة غالبيتها بالدولار. الإنقاذ من الداخل، يعني استعمال رساميل المصارف لإطفاء الخسائر، ثم استعمال الودائع. لكن إذا لجأنا إلى مفهوم الدولار الوهمي والدولار الحقيقي، قد تكون هناك طريقة يوافق عليها المودعون للمشاركة في عملية الإنقاذ بالتوازي مع ما يتعرضون له اليوم من ضريبة توازي 50% على سحب ودائعهم على سعر المنصّة.
إن خطّة التعافي الحكومية التي وضعتها «لازار» بتنسيق مباشر مع صندوق النقد الدولي، رأت أن إنقاذ المؤسسات المفلسة يتم عبر الإنقاذ من الداخل، أي الـ«بيل إن»

لكنّ «حزب المصرف» يروّج لمسألة أخرى تنطوي على منح المصارف عقارات مقابل الديون الهالكة مع الدولة يتم احتسابها دفترياً في أصول المصارف لتعويض الخسائر، على أن تسدد المصارف ودائع الزبائن بالليرة ضمن كابيتال كونترول غير شرعي ويمتدّ على فترة زمنية طويلة وبهيركات عالٍ جداً وبالليرة اللبنانية. هذا يعني مزيداً من طباعة النقد ومزيداً من تدهور سعر الصرف. سيناريو حزب المصرف ليس خبيثاً فقط، بل هو فاقد للرؤية والبصيرة تجاه المستقبل، إذ يريد إبقاء المصارف «زومبي» وتحويل الاقتصاد إلى مجتمع فقير يتسوّل الدولارات للحصول على الغذاء مقابل بقائه.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا