الوضع في لبنان أكثر تعقيداً من إيران وسوريا حتى لو كانت النتيجة في نهاية المطاف مماثلة، أي فشل سياسة العقوبات لإقصاء حزب الله والمقاومة من السلطة ومن الدورة الاقتصادية. التعقيد يعود إلى البنية السياسية القائمة في لبنان حيث التوازنات الدقيقة بين المكوّنات السياسية تخضع لضغوط واهتزازات قد تطيح بالتركيبة برمتها فيختفي لبنان ككيان سياسي. فالانقسامات الحادة حول المقاومة هي البيئة الحاضنة لسياسة العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة، إلا أن ذلك لا يعني أن أكثرية اللبنانيين منقسمة حول المقاومة وحزب الله، فقد أفرزت الانتخابات النيابية الأخيرة، مجدداً، أكثرية تؤيّد المقاومة وأكثرية نيابية لم تكن موجودة سابقاً، علماً بأن لبنان لا يُحكم بعقلية أكثرية وأقلّية بل بتوافق عام لا يؤدّي بالضرورة إلى إجماع بل إلى اتفاق على الحد الأدنى. كان ذلك صحيحاً في السابق، وهو صحيح اليوم، وربما في الغد أيضاً إذا استمرّ النظام اللبناني على ما هو عليه.صحيح أن العقوبات لم تطاول إلاّ حزب الله والمؤسّسات التابعة له، وبعض الشخصيات اللبنانية المؤيّدة للمقاومة، ومحطّات إعلامية، وبعض المصارف بتهم ملفّقة كما تبيّن لاحقاً، لكنها لم تطاول الدولة وأجهزتها حتى الآن! فالسياسة الأميركية تزعم بأنها تهدف إلى تجفيف مصادر تمويل المقاومة ومعاقبة البيئة المؤيّدة لها، كما تُظهر المضايقات التي فرضت على هذه البيئة من تعقيدات في التحويلات المالية إلى الملاحقة القضائية في بعض الأحيان، وصولاً إلى طرد البعض من الدول التي يعملون فيها. كل ذلك اعتقاداً بأن البيئة الحاضنة للمقاومة ستنتفض عليها، لكن هذا الأمر لم يحصل والأرجح أنه لن يحصل في المستقبل القريب أو البعيد.
والولايات المتحدة ليست بحاجة إلى فرض عقوبات تشمل الجميع فهي تستهدف القوى المتحالفة مع المقاومة لتغذية الانقسامات لتفعل مفعولها. كما أن العقوبات التي أتت في مرحلة متأخرة لمسار الانهيار الاقتصادي الذي قاده النظام المصرفي في لبنان مدعوماً من طبقة سياسية استفادت من سياسة الانهيار المبرمجة منذ عام 1993، لتستفيد من ضعف موضوعي أنتجته الحالة الاقتصادية والمالية في المناعة والتحصين المعنوي والسياسي.
العقوبات لم تؤدّ إلى تراجع ملموس في الاقتصاد اللبناني المنهار قبل الشروع بها، أي أن «قيمتها المضافة» محدودة. لكن التهديد بالعقوبات منع الطبقة السياسية من اتخاذ إجراءات جذرية تصحّح المسار الاقتصادي والمالي، كما أنه شكّل حصانة لبعض النافذين في القطاع المصرفي وفي داخل الطبقة السياسية. وخطورة هذه العقوبات، تكمن في منع الطبقة السياسية عن اتباع نهج مختلف كالتوجّه إلى الشرق وتخفيف التبعية لدول الغرب سياسياً واقتصادياً ومالياً، علماً بأن هذا هو الخيار الصحيح في المرحلة الراهنة. كما أن مشاركة لبنان في إعادة بناء المنطقة ولا سيما سوريا، خارج إطار الغطاء الأميركي ستجعل لبنان يتلقّى الغضب الأميركي والغربي.
العقوبات على بعض الشخصيات اللبنانية هدفها ردع باقي السياسيين من اتخاذ إجراءات جذرية ليست فقط على الصعيد الاقتصادي، بل في الخيارات السياسية وخصوصاً لجهة الصراع مع الكيان الصهيوني. هدف الإدارة الأميركية كان ولا يزال وسيستمر في حماية الكيان قبل أي اعتبار آخر. مصلحة لبنان ليست أولوية ولا حتى محطّة انتباه عند الأميركيين. السياسيون اللبنانيون يدركون ذلك، لكن رؤيتهم للأمور وبنية عقلهم وثقافتهم، تمنعهم من تقييم التغيير في موازين القوّة الاستراتيجية التي تميل إلى مصلحة المحور المناهض. وبالتالي ينصاعون للمفاعيل المعنوية للعقوبات التي يمكن أن تُفرض عليهم وإن كانوا من خدم مصالح الولايات المتحدة طيلة حقبة الطائف.
المفارقة الأساسية بين المشهد الإيراني والسوري، وبين المشهد اللبناني، هو أن تردّي الأوضاع الاقتصادية في لبنان صنيعة السياسيين اللبنانيين، وليس نتيجة حرب ما أو عقوبات خارجية، بينما إيران محاصرة منذ انتصار ثورتها وسوريا محاصرة وتحت العقوبات منذ عام 1979. رغم ذلك صمدت الدولتان. أما في لبنان، وهو المستفيد عبر التاريخ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، من مآسي دول الجوار، فإن الازدهار الاقتصادي الزائف، زال بسبب الفساد البنيوي والمؤسّسي. النتائج التي تتوخاها الولايات المتحدة وحلفاؤها من الأوروبيين والعرب من العقوبات، حصلت عليها من دون فرضها. ففي حالة الإنهاك الاقتصادي والاجتماعي في لبنان، يكون هدف التهديد بالعقوبات، تقديم تنازلات للكيان في ما يتعلّق بترسيم الحدود البحرية على سبيل المثال، أو التطبيع وفقاً لحالة بعض الدول العربية.
هذه الضغوط تحظى بموافقة بعض الأطراف اللبنانية والمرجعيات الخاصة بها، والتي تعتقد أن الخروج من دائرة الصراع مع الكيان هو خشبة الخلاص وذلك تحت عنوان الحياد. هذا هو العقل الذي اعتقد أن واقع لبنان سيتحسّن إذا خرجت المقاومة الفلسطينية من لبنان بعدما استفادوا من الأموال التي تدفّقت على لبنان بسبب وجودها. وهو العقل نفسه الذي اعتبر الوجود السوري عائقاً رغم الاستقرار بعد الحرب الأهلية. واليوم، يعتبر هذا العقل أن المقاومة عبء على لبنان وإن قامت بتحرير الجنوب وردع الكيان الصهيوني. مع ذلك، لم تحصل الولايات المتحدة على ما تريده حتى الآن بسبب صمود المقاومة وصلابة رئيس الجمهورية وتياره وحلفاء المقاومة في لبنان.
التهديد بالعقوبات على لبنان يهدف إلى منع الخيارات التي ستؤمّن استقلاله السياسي والاقتصادي. الانكشاف البنيوي تجاه الخارج هو كعب أخيل للاقتصاد اللبناني، لذا فإن أي تلاعب بسعر صرف الليرة يؤثّر مباشرة على بقائه، وليس فقط على رفاهية اللبناني كما يعتقد البعض. فثقافة الريع تفشّت على حساب الإنتاج. لبنان قبل الحرب الأهلية كان في طريقه إلى تنويع بنيته الاقتصادية عبر نموّ وتنمية القطاعات الإنتاجية، أي القطاع الزراعي والصناعي والسياحي. حقبة الطائف نسفت هذا التوجه وركّزت على القطاع المالي والعقاري واستندت إلى الريع الذي وفّرته سندات الخزينة بفوائد مرتفعة فجعلت الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية تتراجع.
لسنا هنا في موضع تقييم السياسات العبثية التي أضرّت بإمكانية صمود لبنان وكرّست انكشافه الاقتصادي والغذائي عبر استيراد المواد الغذائية من دول كان لبنان يصدّر لها منتَجاته! فما يهمّنا مقاربة سياسة العقوبات وأثرها على الخيارات التي يجب أن تتخذها الحكومة اللبنانية المرتقبة. مواجهة العقوبات ستكون صعبة في جو الانقسام الحاد بين القوى السياسية اللبنانية. كما أن الإعلام اللبناني التابع لأجندات أميركية وخليجية يسهم في تأجيج الانقسام، وبالتالي يزيد في صعوبة تأمين جبهة داخلية متراصّة في مواجهة العقوبات. هذا الانقسام منع، حتى الساعة، تغيير الخيارات والسياسات المتبعة للتحوّل من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي وإلى استقلالية وسيادة في القرار.
ما زالت بعض النخب السياسية لا تنظر إلى العقوبات كعدوان على لبنان يطاول الجميع وليس محصوراً بفئات محدّدة تعتبرها خصومها. عدم وجود الحسّ الوطني لدى هذه الطبقة يسهّل قبولها بالعقوبات كأمر واقع. فقد تساهلت هذه النخب، عندما طاولت العقوبات بعض المصارف وبعض محطّات الإرسال وكأنها غير معنية. اليوم تطاول العقوبات بعض رموز هذه الطبقة من دون أي ضمانة بأن حلفاء الولايات المتحدة بمنأى عن العقوبات. لم تتعظ هذه النخب من أن مسايرة الولايات المتحدة هي حماية غير موجودة، بل على العكس أظهرت استسلاماً للمزيد من التبعية والتنازلات والتحقير والإذلال. ولم تتعظ بما حصل لرموز أهمّ منها مثل شاه إيران وفردينان ماركوس وأغسطو بينوشي وزين العابدين و«الكنز الاستراتيجي» حسني مبارك. فالولايات المتحدة تخلّت عمّن خدمها بـ«إخلاص تام» فماذا يمكن يا تُرى أن يحل بمن يطيع الإملاءات الأميركية؟
هذا الواقع يحمل في طيّاته بذور فشل ذلك الرهان لعدّة أسباب؛ السبب الأول هو الضعف البنيوي الأميركي في تنفيذ مخطّطات لا يستطيع تحمّل نتائجها المرحلية فما بالك عن النتائج النهائية. ما نقصده هو أن قدرة الولايات المتحدة في الاستمرار بسياسة العقوبات القصوى، محدودة، لأن المعادلات الاستراتيجية في العالم قد تغيّرت وتجلّت في العزلة المتزايدة للولايات المتحدة في المحافل الدولية ما يؤثّر على فعّالية العقوبات الأحادية. من جهة ثانية ستقود هذه العقوبات، إذا استمرّت في منع تشكيل وزارة وفي المزيد من الضغوط المالية على لبنان، إلى انهيار للمنظومة السياسية والاقتصادية التي تتماهى مع السياسات الأميركية. فالنظام المصرفي على سبيل المثال يتماهى مع السياسات الأميركية وهناك مسؤولون في بعض المصارف كانوا يزايدون على مندوبي وزارة الخزينة الأميركية في موضوع محاصرة المقاومة. هذه المصارف مهدّدة بسبب سوء إداراتها لمحفظاتها المالية في الحدّ الأدنى وفي التآمر على المودعين في الحدّ الأقصى. لذا، لا بد من إعادة هيكلة القطاع بعد الإطاحة بالمسؤولين عنه عاجلاً أم آجلاً. صحيح أن المسؤولين في هذه المصارف هرّبوا أموالهم إلى الخارج ولكنهم سيخسرون الأدوات التي من خلالها بنوا ثرواتهم والأدوات التي يمكن استخدامها لمحاصرة المقاومة. بمعنى آخر، إن الخاسر الأكبر في تطبيع العقوبات قد يكون المصارف اللبنانية، وبالتالي ركيزة الاقتصاد الريعي والداعمة للطبقة السياسية منذ بداية حقبة الطائف. فهل الولايات المتحدة مستعدّة لتلك الخسارة التي لن يكون بإمكانها التعويض عنها في لبنان؟
النظام المصرفي في لبنان مسؤول مباشر عن تدهور سعر صرف الليرة السورية كما هو مسؤول مباشر عن تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية


سلاح العقوبات سلاح ذو حدّين. من جهة يؤلم المجتمع اللبناني ويزيد الضيق الاقتصادي والمالي وما يرافقه من تراجع في الأوضاع الاجتماعية وتزايد الفوضى والفتنة والعنف، لكن من جهة أخرى تخسر الولايات المتحدة أدواتها وبالتالي مصالحها في لبنان. وبما أن الطبيعة لا تحب الفراغ، فإن قوى أخرى ستملأ الفراغ. هذه القوى ستكون في موقع مقاومة الهيمنة الأميركية في المنطقة. سياسة العقوبات تقدّم على طبق من ذهب وبكلفة منخفضة إمكانية احتواء لبنان من قبل قوى مناهضة للولايات المتحدة. كلفة تحريك الاقتصاد اللبناني قد لا تتجاوز ما يوازي عشرة مليارات دولار يمكن توفيرها من جهات عدّة تستطيع تحمّل ذلك العبء مقابل المكاسب الاقتصادية والمالية وقبل كل شيء المكاسب السياسية عبر الدخول إلى لبنان وما يمثّله من الناحية الاستراتيجية.
انهيار الوضع في لبنان سياسياً واقتصادياً له تداعيات مباشرة على سوريا. النظام المصرفي في لبنان مسؤول مباشر عن تدهور سعر صرف الليرة السورية كما هو مسؤول مباشر عن تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية. والسؤال الذي يمكن طرحه، هل يستطيع محور المقاومة وخصوصاً المقاومة في لبنان وسوريا، السماح بتدهور الوضع إلى ما يمكن أن يهدّد ديمومة الكيانين؟ ماذا يمكن للمقاومة أن تفعل في مواجهة ذلك وهي المستهدفة الأولى من العقوبات؟ كما أن سورية ليست بمنأى عما يحصل في لبنان والتداعيات الأمنية الممكنة للانهيار فهل ستقف مكتوفة الأيدي تجاه ذلك الأمر؟ صحيح أن العقوبات لا تمسّها بشكل مباشر ولكن تمس بيئتها الحاضنة وبيئة القوى المتحالفة معها. فهل انهيار الدولة كمؤسسات سيؤدّي إلى اتخاذها قرارات جذرية تتجاوز الأطر الدستورية التي احترمتها حتى الآن والتي حرصت على حمايتها؟

*كاتب وباحث اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي



■ في هذه السلسلة من المقالات بعنوان «سياسة العقوبات وجدواها» نتناول في المرحلة الأولى العقوبات على الجمهورية الإسلامية في إيران لأنها الدولة التي تجري «معاقبتها» منذ انتصار الثورة الإسلامية، ولأنها ركن أساسي للمحور المقاوم للكيان الصهيوني المحتل وللهيمنة الأميركية. وفي الجزء الثاني نتناول العقوبات على الجمهورية العربية السورية، لما تمثّله سوريا كموقع سياسي وثقافي، ليس في المشرق العربي فحسب بل في الوطن العربي أجمع. كما أن سوريا هي الدولة الثانية تاريخياً التي تتحمّل وزر الحصار السياسي والاقتصادي الشامل أو شبه الشامل منذ منتصف العقد الأول للألفية الثالثة، وبالتالي تمثّل أيضاً مدرسة في الصمود العربي. في الجزء الثالث نتناول العقوبات على لبنان التي رغم حداثتها نسبياً قد تكون تداعياتها كبيرة، ليس على لبنان فقط، بل على سوريا أيضاً، وبالتالي على كل محور المقاومة. وأخيراً نتناول العقوبات على فلسطين المحتلّة التي تنال فصائل المقاومة والسلطة الفلسطينية والمفروضة من إدارة ترامب، وذلك في محاولة بائسة لإنهاء القضية وإخضاع الشعب الفلسطيني للمشيئة الصهيونية.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا