محور المقاومة محاصر سياسياً واقتصادياً ومالياً من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وعدد من دول الخليج. المستهدفون هم: لبنان والمقاومة، الجمهورية العربية السورية، الجمهورية الإسلامية في إيران، فصائل المقاومة في فلسطين، وإلى حدّ ما السلطة الفلسطينية. أشكال العقوبات تختلف لكنّها تهدف إلى إجبار المستهدَف على تغيير سلوكه بالحدّ الأدنى أو رحيله في الحدّ الأقصى. العقوبات قد تطاول أشخاصاً أو قطاعات أو معاملات أو تجارة بشكل جزئي أو شامل، كما يمكن أن تأخذ شكل الحصار البرّي والجوّي والبحري؛ قطاع غزّة محاصر جغرافياً من دولة الكيان المحتل، ومن مصر أيضاً، وإن تباينت درجات الحصار عليه، بينما تخضع السلطة لقرارات تعسفّية من قبل الإدارة الأميركية.الولايات المتحدة أعلنت الحرب على إيران بشكل واضح عندما قرّرت إدارة ترامب اتباع سياسة «خنق الاقتصاد» الإيراني. هذا القرار يأتي في سياق تاريخي من العداء للجمهورية الإسلامية في إيران بعد انتصار الثورة الإسلامية على شاه إيران - الحليف الودود وشرطي منطقة الخليج لصالح الولايات المتحدة. طبعاً، هذا لم يمنع الولايات المتحدة من التخلّي عنه بعد خلعه، اعتقاداً منها بإمكان استيعاب الثورة أو احتوائها. حساباتها كانت خاطئة، فردّت بالعقوبات وإغراق إيران في حرب عبثية مع العراق.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

خنق الاقتصاد الإيراني كما تعلنه إدارة ترامب، هو بمثابة حرب إبادة بطيئة تعويضاً عن حرب تقليدية مدمّرة لجميع الأطراف، وخصوصاً بعد إخفاقات أميركا وحلفائها في أفغانستان والعراق واليمن وسوريا. بطبيعة الحال لا تستطيع الجمهورية الإسلامية الوقوف مكتّفة الأيدي من دون تغيير قواعد الاشتباك بشكل يحيّد سلبيات الحصار حيث الميدان العسكري يقلب الطاولة على الحصار والعقوبات. كما أن العزلة المتزايدة للولايات المتحدة تفتح آفاقاً جديدة لتجاوز العقوبات بأشكال مختلفة. ومحاولات بايدن المعلنة بالعودة إلى اتفاق النووي الذي أبرم في 2015 ليست إلاّ دليلاً على اضطرار الولايات المتحدة إلى الخروج من العزلة، وبالتالي الحدّ من سياسة العقوبات. لسنا في إطار بحث ما يمكن أن تُقدم عليه إدارة بايدن، لكن ليس لديها إلاّ طريق التراجع إن أرادت حدّاً أدنى من الاستقرار. فالاستمرار في سياسة الضغوط القصوى لن تؤدي إلاّ إلى المزيد من فقدان الاستقرار بما يضّر حلفاء الولايات المتحدة وفي مقدمهم الكيان الصهيوني المحتل.
ما هي الظروف الموضوعية التي قد تمكّن الجمهورية الإسلامية من تجاوز سياسة العقوبات؟ الإجابة تكمن في الوقوف على حيثيات الحصار وتداعياته. فالتركيز انصبّ على منع إيران من تصدير النفط الذي تبلغ وارداته نحو 80% من واردات الدولة بالحدّ الأدنى، أو على إغلاق السوق النفطية العالمية بوجهها لخنقها. هكذا أصبح الانكشاف تجاه النفط مصدر ضغط على الحكومة الإيرانية. لذا، فإن هدف العقوبات هو تجفيف وجهات التصدير لإيران عبر تهديد كل من يتعامل معها، ما أدّى إلى انخفاض صادرات النفط الإيرانية من نحو مليوني برميل يومياً إلى 400 ألف برميل يومياً. كذلك هناك هدف ثان يتعلق بمنع الاستثمار الخارجي في إيران في قطاع النفط ومشتقاته ومنع إمكانية التعامل المالي مع الخارج.
أما تداعيات العقوبات على إيران فهي تتعلّق بمشاريع الاستثمارات الجديدة التي لن تتوقف في رأينا، بل قد تتباطأ حتى ينجلي الموقف السياسي. بعض الشركات الأوروبية أعلن التزامه بالعقوبات وبادر إلى وقف أنشطته. في المقابل هناك مساع للاستمرار في التعامل مع الجمهورية الإسلامية عبر شركات لا علاقة تجارية أو مالية لها بالولايات المتحدة، ما يشكّل تحايلاً على الإجراءات الأميركية. ولا بدّ من الإشارة إلى الاتفاقات العملاقة التي عقدتها الجمهورية الإسلامية في إيران هذه السنة مع الصين في إطار استراتيجية الطريق الواحد والحزام الواحد التي تتبعها الصين. بلغت قيمة العقود 400 مليار دولار لتطوير البنى التحتية للنفط والنقل وعدد من القطاعات الاستراتيجية. هذا دليل كاف وواف على أن التزام الدول بالعقوبات هشّ، ولن يوقف أو يمنع مشاريع التنمية. فالاستثمارات ستنفق على فترة 25 سنة، فيما جاءت هذه الاتفاقيات بمثابة ردّ على القرار الأميركي بخنق الاقتصاد الإيراني، ما يدلّ على أن إيران في قلب الاستراتيجية الصينية والمحور الذي تشكّله مع روسيا. أما على المدى القصير، فالتركيز هو على الصدمة النفسية التي يشكّلها تدهور الريال الإيراني وتراهن عليها الإدارة الأميركية ومن يتبع سياساتها. أما على صعيد النفط، فالموضوع أكثر صعوبة بالنسبة إلى الإدارة الأميركية.
إذا دقّقنا في الموضوع النفطي الذي يمثّل نقطة ارتكاز في منظومة العقوبات الأميركية، يتبيّن أن المستورد الأكبر للنفط الإيراني هو الصين التي تشكّل نحو 30% من إجمالي الصادرات الإيرانية. الصين رفضت الالتزام بالقرارات الأميركية. يضاف إلى ذلك التحوّل السياسي في باكستان الذي يجعلها سوقاً طبيعية للنفط الإيراني. الموقف الباكستاني السلبي المستجدّ من السياسات الأميركية قد لا يكون ظرفياً بل تحوّلاً استراتيجياً يُضعف في آخر المطاف فعّالية الضغوط على إيران. وفي شمال غرب إيران هناك أيضاً تركيا التي لا تنتج النفط بل تمثّل وارداتها من إيران نحو 10% من مجمل صادرات إيران النفطية. تركيا رفضت أيضاً الالتزام بالقرارات الأميركية في ظل مناخ متوتّر بينهما، ما يجعل تركيا متنفّساً آخر للصادرات النفطية الإيرانية. أما الهند، وهي دولة مؤسّسة في مجموعة «بريكس»، فهي تستورد ما يوازي 19% من إجمالي الصادرات الإيرانية، فإذا كانت سياسة البريكس مواجهة القرارات الأميركية، فإن الهند ستجد صعوبة في الخروج عن هذا التوجّه، حتى لو كان مثّل الدور الباكستاني المرتقب والمتقارب مع إيران مصدر تنافس إضافي مع جاراتها الغربية. ويجب الإقرار بأن سياسة حكومة مودي في الهند متماهية مع حكومة الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، وهي قد تخرج عن الإجماع الروسي الصيني. لكن حتى الساعة لم تعلن الحكومة الهندية موقفاً واضحاً من العقوبات ومدى التزامها بها.

61 مليار دولار

هو حجم الدين العام الإجمالي المكفول في إيران أي 14.2% من الإنتاج الداخلي، يأتي في المرتبة 175 في العالم مقارنة مع لبنان الذي يقع في المرتبة الثالثة بنسبة دين إلى الناتج تبلغ 142% واليونان 180% واليابان 223%


يبقى موقف الاتحاد الأوروبي الملتبس حتى الساعة. ليست كل الدول الأعضاء على استعداد لمواجهة الولايات المتحدة، رغم أن هناك دولاً وازنة طفح الكيل عندها من سياسات الولايات المتحدة مثل ألمانيا. حتى الساعة ليس هناك جديد على هذا الصعيد، لكن نعتقد أن العلاقة مع إيران هي حاجة أوروبية أكثر مما هي حاجة إيرانية، من دون إنكار أهمية الاستثمارات الأوروبية في الاقتصاد الإيراني. فأوروبا بحاجة إلى أن تكون حاضرة في دولة لها موارد تقدّر بأكثر من 21 تريليون دولار وفقاً لعدة تقارير، إضافة إلى احتياجاتها في الطاقة النفطية والغازية.
هذه المقاربة السريعة للبُعد النفطي والتجاري الإيراني تجعل فعّالية العقوبات محدودة في هذا المجال. هي مؤلمة إلا أنها غير قاتلة. هنا لا بد من الإشارة إلى أن بنية الاقتصاد الإيراني تنطوي على تنوّع متزايد. فالقطاع الزراعي يمثّل نحو 10% من الناتج الداخلي، وقطاع الصناعة نحو 36%، وقطاع الخدمات 55% من الناتج المحلي الإجمالي المقدّر بنحو 435 مليار دولار.
الجمهورية الإسلامية في إيران استغلت الحصار الاقتصادي ونظام العقوبات لتطوير بنيتها الاقتصادية وتقليص تبعيتها لتقلّبات أسعار النفط وإمكانات تسويقه. لذا، اعتمدت التخطيط المركزي لفترة 20 سنة موزّعة على خطط تنفّذ منها حالياً الخطّة السداسية لفترة 2016-2022. ترتكز هذه الخطة على ثلاثة محاور: تطوير بنية اقتصادية تستطيع الصمود، تقدّم في العلوم والتكنولوجيا، وإطلاق ثقافة التميّز في الأداء. تتوقع الخطة نمواً بمعدّل 8% سنوياً، فيما الأولويات تكمن في تطوير المؤسّسات الاقتصادية التي يملكها القطاع العام، والقطاع المالي والمصرفي، وترشيد استعمال الواردات النفطية.
في المقابل، إن الانتكاسة التي أصابت الاقتصاد الإيراني تعود أولاً إلى جائحة كورونا، بحسب الإحصاءات المتوافرة. هناك تقرير للبنك الدولي يشير إلى انكماش في الناتج الداخلي بنسبة 6.8% في عام 2020، كما أن القطاع النفطي تراجع بنسبة 38.7%. لكن في المقابل، ارتفع الناتج الداخلي الخارج عن القطاع النفطي بنسبة 1.1% وذلك يعود إلى النشاط الزراعي والصناعات التحويلية. ومن سخرية الأمور، أن انخفاض سعر الصرف جعل الصادرات الإيرانية أكثر تنافسية ممّا كانت عليه سابقاً، إلا أن الإقفال القسري لكثير من المؤسسات كان مسبّباً لزيادة البطالة بنحو 1.3 مليون نسمة.
العقوبات المفروضة على الصادرات الإيرانية وجائحة «كورونا» أدّيا إلى تراجع في فائض الميزان التجاري. ونجم ذلك عن تراجع الصادرات بنسبة 26.9% مقابل تراجع في الاستيراد بنسبة 38.1%.
الإعلام الغربي أو العربي لا يتطرق إلى هذه الأرقام، بل هناك تركيز على الانهيار المصطنع لسعر الصرف للريال الإيراني تجاه الدولار بحسب تقارير «بلومبرغ»، و«سي أن بي سي»، و«فورين بوليسي» على سبيل المثال. والتركيز يبرز نسب قياسية من الانخفاض للإيحاء بحالة الإفلاس المرتقب والانهيار الشامل الذي تنتظره الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. هذه التقارير مبرمجة ومنسّقة تحمل الكثير من الرغبات والقليل من الموضوعية، ما يجعلها غير ذات جدوى، بل ميزاناً فقط للمزاج الغربي.
هنا أيضاً محاولة للتضليل. فسعر صرف العملة الوطنية يعكس أساساً انكشاف الاقتصاد الوطني تجاه الخارج عبر ميزان تجاري سلبي، أو ميزان جاري سلبي في ميزان المدفوعات، أو عن دين خارجي مستحق، وجميعها تصبّ في طلب متزايد للدولار. لكن الأرقام التي تبرزها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية تشير إلى أن الميزان التجاري الخارجي الإيراني إيجابي، أي إن الصادرات تفوق الاستيراد بنحو 20 مليار دولار. كذلك تفيد الأرقام بأن ميزان الحساب الجاري في ميزان المدفوعات، والذي يعبّر عن الدخل الخارجي الصافي لإيران، هو أيضاً إيجابي بنحو 32.6 مليار دولار في عام 2017 وبزيادة عن عام 2016 مقدارها 4 مليارات دولار. هذا يعني أن النقد الأجنبي يتدفق إلى إيران، وهو ليس عبارة عن قروض أو ديون. ليس هناك أرقام عائدة لعامي 2018 و2019، ولم يعلن تقرير وكالة الاستخبارات المركزية أرقام ميزان المدفوعات العام، بل لوحظ أن قيمة الاحتياط في النقد الخارجي مستقرّة على 133 مليار دولار.
هذه الأرقام تظهر أن المؤشرات الاقتصادية الإيرانية لا تبرّر أي هبوط لسعر الصرف، لأن الطلب على الدولار للاحتياجات الاقتصادية محدود. هذا يعني أن تدهور قيمة العملة الإيرانية سببه المضاربة الرامية إلى ضرب الاستقرار الداخلي والتأثير على نفوس الإيرانيين لدفعهم إلى الهروب من العملة الوطنية. غير أن حسابات الحقل لم تكن مطابقة لحسابات البيدر. بمعنى آخر، إن القيمة الشرائية للعملة الوطنية، أي الريال الإيراني، ما زالت تحافظ على مستواها في الداخل الإيراني رغم تضخّم الأسعار الداخلية، أما الأثر الناتج عن الهبوط الخارجي فهو محدود، بل قد يتحوّل إلى حافز للصادرات الإيرانية. أما بعض الإجراءات، كالحظر على استيراد بعض السلع (موقع ميدل إيست أونلاين أشار إلى 1300 سلعة)، فقد أدّى إلى إضراب في البازار في طهران احتجاجاً على ذلك. لسنا في إطار الدخول في تقييم الإجراءات التي اتخذتها أو قد تتخذها السلطات في إيران والتي قد تثير بعض نقاط الاستفهام، لكن ما يهمّنا التركيز عليه هو أن الهجوم على الريال ينطوي على أسباب سياسية فقط.
وما يعزّز هذا التقدير، أن حجم الدين العام الإجمالي المكفول في إيران لا يتجاوز 61 مليار دولار، أي 14.2% من الإنتاج الداخلي، أي في المرتبة 175 في العالم مقارنة مع لبنان الذي يقع في المرتبة الثالثة بنسبة دين إلى الناتج تبلغ 142% واليونان بنسبة 180% واليابان بنسبة 223%! الشق الخارجي للدين العام الإيراني لا يتجاوز 11 مليار دولار، أي 3% من الناتج الداخلي، ويأتي في المرتبة 112 في العالم. أي ليس هناك أي مبرّر لاعتبار الاقتصاد الإيراني في الحضيض أو حتى في حالة ضيق تستدعي مراجعات هيكلية! وإذا أضفنا عدم وجود ثقافة الإسراف التي تؤكّدها إحصاءات وكالة الاستخبارات المركزية، فإن مستوى المدّخرات الوطنية الاجمالية في إيران لعام 2017 يبلغ 41.5% من الناتج الإجمالي، وهو في المرتبة السابعة في العالم بعد سورينام (50%)، قطر (48.8%)، الصين (45%)، وهي زيادة عن عام 2016 بخمس نقاط. هذا مؤشّر إلى أن ثقافة الإنفاق الاستهلاكي الذي يستنزف الاقتصادات، ملجومة في إيران بما يخفّف الطلب على الدولار.
إذا أخذنا بالاعتبار أن نحو 60% من الاقتصاد الوطني هو بيد القطاع العام، فذلك يعني أن القدرة على السيطرة المباشرة على مجريات الأمور على الصعيد الداخلي كبيرة، خلافاً لما هو عليه في تركيا. فهذه الأخيرة لديها اقتصاد تحت سيطرة القطاع الخاص ومنكشف إلى حدّ كبير تجاه الخارج. الحكومات التركية المتتالية، منذ بداية الألفية، اتّبعت سياسة الاقتراض الخارجي واللجوء إلى الاستثمار الخارجي لتفعيل التنمية الداخلية. في هذه الحال يكون لتدهور سعر صرف الليرة التركية أذى أكثر من الأذى اللاحق بإيران، رغم أنه يمثّل حافزاً للتصدير التركي وللسياحة الوافدة. الوضع مختلف في إيران لجهة الانكشاف تجاه الخارج ومحدودية فعّالية المضاربة، إذا تمّ تجفيف مصادر الريال الإيراني خارج إطار النظام المؤسّسي المالي الإيراني.
أصلاً، يعود انخفاض الريال إلى المضاربة وبأهداف سياسية واضحة. فعلى فترة عدّة سنوات تمّ تكديس الريال الإيراني لدى «شركاء» تجاريين مع إيران لمثل هذا اليوم. وهذا السيناريو هو نفسه الذي استُعمل في الهجوم على الليرة السورية ولنفس الأغراض، علماً بأن المحاولة لم تنجح في تحقيق أهدافها ولا نعتقد أنها ستنجح اليوم، رغم الزعيق الإعلامي المبرمج. فالمسألة أولاً وأخيراً مسألة سياسية بامتياز. وكذلك الأمر بالنسبة إلى لبنان؛ فانخفاض سعر صرف الليرة اللبنانية يعود أولاً للتآمر وثانياً للمضاربة وثالثاً لجائحة كورونا التي ضربت ما تبقّى من القدرة الإنتاجية.

هذه السنة عقدت الجمهورية الإسلامية في إيران اتّفاقات عملاقة مع الصين في إطار استراتيجية الطريق الواحد والحزام الواحد بقيمة 400 مليار دولار لتطوير البنى التحتيّة للنفط والنقل وعدد من القطاعات الاستراتيجية، وهذا دليل كافٍ ووافٍ على أن التزام الدول بالعقوبات هشّ ولن يوقف أو يمنع مشاريع التنمية


المتغيّر في المعادلة هو التغيير في الإدارة الأميركية وجائحة «كورونا». فالرئيس المنتخب جوزيف بايدن أبدى رغبته في العودة إلى الاتفاق النووي الذي خرج عنه دونالد ترامب. المستشارون المرتقبون للرئيس المنتخب هم من أسهموا في صوغ الاتفاق في ولاية الرئيس أوباما. لكن ليس واضحاً بعد موقف بايدن من العقوبات، لأنه يريد اتفاقاً آخر حول الصواريخ البالستية ودور إيران في المنطقة ليستكمل رفع العقوبات. وقد يربط العودة إلى الاتفاق بعودة الجمهورية الإسلامية إلى بنود التخصيب الواردة في الاتفاق، بعدما خرجت عنه إثر نكوث الولايات المتحدة به. الوضع الحالي ما زال غير واضح، والأشهر المقبلة كفيلة بإزاحة الغموض.
رفع العقوبات الأحادية أمر مستبعد في المدى المنظور، لكن قد تغضّ النظر الولايات المتحدة عن «المخالفين» طالما كان الأمل في التفاوض مع الجمهورية الإسلامية في إيران موجوداً.
أما جائحة كورونا فهي كانت أكثر فتكاً من العقوبات المفروضة. فالتراجع في الأرقام الكلّية يعود إلى الإغلاق لمرافق الاقتصاد. تستفيض التقارير الدولية حول «التراجع» في الاقتصاد الإيراني لتوحي بـ«فعّالية» العقوبات، بينما الحقيقة مخالفة لذلك. التراجع الاقتصادي في الجمهورية الإسلامية في إيران يعود لجائحة كورونا أولاً وأخيراً. لولا الجائحة لكان الاقتصاد الوطني في حالة نمو نسبي رغم العقوبات، بسبب التخطيط وتنويع مصادر الإنتاج بعيداً عن التبعية للقطاع النفطي.

*كاتب وباحث اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي

في هذه السلسلة من المقالات بعنوان «سياسة العقوبات وجدواها» نتناول في المرحلة الأولى العقوبات على الجمهورية الإسلامية في إيران لأنها الدولة التي تجري «معاقبتها» منذ انتصار الثورة الإسلامية، ولأنها ركن أساسي للمحور المقاوم للكيان الصهيوني المحتل وللهيمنة الأميركية. وفي الجزء الثاني نتناول العقوبات على الجمهورية العربية السورية، لما تمثّله سوريا كموقع سياسي وثقافي، ليس في المشرق العربي فحسب بل في الوطن العربي أجمع. كما أن سوريا هي الدولة الثانية تاريخياً التي تتحمّل وزر الحصار السياسي والاقتصادي الشامل أو شبه الشامل منذ منتصف العقد الأول للألفية الثالثة، وبالتالي تمثّل أيضاً مدرسة في الصمود العربي. في الجزء الثالث نتناول العقوبات على لبنان التي رغم حداثتها نسبياً قد تكون تداعياتها كبيرة، ليس على لبنان فقط، بل على سوريا أيضاً، وبالتالي على كل محور المقاومة. وأخيراً نتناول العقوبات على فلسطين المحتلّة التي تنال فصائل المقاومة والسلطة الفلسطينية والمفروضة من إدارة ترامب، وذلك في محاولة بائسة لإنهاء القضية وإخضاع الشعب الفلسطيني للمشيئة الصهيونية.



تأثيرها محدود
العقوبات الأميركية كانت ضمن اهتمامات التقارير السنوية للمؤتمر القومي العربي باعتبارها شكلاً من أشكال المواجهة التي يفرضها التحالف الأميركي الصهيوني ومعه بعض الأنظمة العربية، على محور المقاومة. والملاحظات التي جاءت في تلك التقارير ما زالت صحيحة حتى الساعة:
- العقوبات سلاح دمار شامل لا يختلف عن السلاح الحربي، واستعماله يمثّل جريمة حرب موصوفة بامتياز. فهي تستهدف الشعوب كما تستهدف الحكومات و/أو الشخصيات في الدول المٌعاقبة. لكن بما أن ما يُسمّى «المجتمع الدولي» هو فقط المحور الأميركي - الأوروبي، يبقى تنفيذ قرارات مجلس الأمن للأمم المتحدة والالتزام ببنود ميثاق الأمم المتحدة حبراً على ورق، طالما لا يخدم مصالح الولايات المتحدة والكيان الصهيوني.
- العقوبات لا تنجح إلّا إذا كانت صادرة عن جميع دول العالم، بينما العقوبات الصادرة عن دولة (أي الولايات المتحدة) أو مجموعة دول متماهية مع الولايات المتحدة، كدول الاتحاد الأوروبي، فتأثيرها محدود وفاشلة، بمعنى أنها لا تحقق الأهداف التي وضعت من أجلها. صحيح أنها مؤذية للشعوب المستهدفة بنسب متفاوتة، لكنها لم تستطع تغيير سلوك الدول المستهدفة أو تغيير نظام حكمها. فهناك دول محاصرة منذ نجاح ثوراتها، مثل كوبا وفنزويلا، وهناك دول كبرى خضعت لاختبار العقوبات فتجاوزتها بل استغلّتها وحوّلتها إلى فرص كالاتحاد الروسي. العقوبات المفروضة بشكل أحادي لا تفلح في تحقيق ما لا تستطيع تحقيقه الحرب الساخنة. روسيا، مثلاً، استغلّت العقوبات لتطوير بنيتها الاقتصادية في اتجاه الاكتفاء الذاتي وعدم التبعية للخارج وأصبحت بشكل كبير في منأى عن الضرر الناتج عن العقوبات. أما العقوبات التي نجحت فهي عندما كان الإجماع حولها قائماً، كما في حالة جنوب أفريقيا، وقبلها روديسيا التي أصبحت زيمبابوي.
- العقوبات الأحادية لا تحظى بإجماع دولي، لا بل هناك مقاومة متزايدة داخل تلك الدول، كما نرى في دول الاتحاد الأوروبي التي تعتبر العقوبات على روسيا مضرّة بمصالحها الاقتصادية. كما أن الدول التي تفرض العقوبات بشكل أحادي، تعاني من توتّرات داخلية قد تجبرها عاجلاً أو آجلاً على مراجعة مواقفها الأحادية.
- هذه العقوبات تستهدف الشعوب لحثّها على التمرّد على السلطات أو للضغط عليها لتغيير سلوكها تماهياً مع أهداف صاحب العقوبات. لكن التجربة التاريخية أكّدت أن هذه العقوبات تأتي بمفعول معاكس لرغبات الدول المٌعاقِبة (بكسر القاف). فهي لم تفشل فقط في تغيير السلوك، بل استنهضت أيضاً الروح الوطنية والريبة من الخارج. هكذا حصل في كوبا وروسيا وفنزويلا والجمهورية الإسلامية في إيران وسوريا. أما في لبنان، فالموضوع ما زال قيد البحث بسبب الاستقطاب الداخلي وانقسام اللبنانيين بين مؤيّد للمقاومة ومعارض لها. هذا الانقسام يعود إلى البنية السياسية والقيادات التي تولّت الحكم والانكشاف الاقتصادي تجاه الخارج الذي جعل لبنان أكثر تأثّرا بالعقوبات.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا