في الأسابيع الأخيرة، بدأت تنتشر ظاهرة الوصفات الاقتصادية التي تعد اللبنانيين بمعالجة سريعة للأوضاع المتردية وإعادة القدرة الاستهلاكية إلى مستواها السابق. لا يمكن إغفال علاقة هذه الظاهرة بالانقضاء التدريجي للمدّة الزمنية التي يتوجب خلالها إطلاق مسارات المعالجة التي صارت معروفة ويمكن تمييز الأكثر علمية وواقعية بينها من التدميري الهادف إلى الحفاظ على مكتسبات فئات محدّدة. كان أفضل توقيت لإطلاق هذه المسارات في مطلع السنة الجارية تزامناً مع إقرار خطّة التعافي المالي الحكومية. يومها كانت احتمالات نجاح الإجراءات مرتفعة، إلا أنه بمرور الأيام انخفضت الاحتمالات وبات إطلاق الإجراءات في وقت متأخر غير ذي جدوى إذا كان الهدف منه توزيع الخسائر بشكل عادل والإنقاذ الشامل. مع تعثّر الإجراءات، تنبّه بعض العاملين في الشأن العام إلى أن أصل الانهيار المالي يكمن في اختلالات اقتصادية على المستويين الكليّ والجزئي، وهذا ما دفعهم إلى توزيع وصفات سريعة تستند إلى سرديّة «التفوّق» اللبناني واستغلال «رأس المال البشري» اللبناني. «رأس المال البشري» هذا، هو عبارة عن النخبة المحليّة بمعناها الأوسع، وقد أثبت معظم أفرادها المتعاطين بالشأن العام، افتقارهم إلى المعرفة التقنية أو ارتهانهم (بشكل مباشر أو غير مباشر) للمؤسّسات المالية الدولية ومن خلفها الولايات المتحدة. ينضوي تحت عباءة هذه «النخبة» عدد كبير جداً.

فائض النخبة
يقدّم بيتر تورشين نظرية عن علاقة النخب بالوضع السياسي والاقتصادي في الدولة ترتكز على تحديد عدد النخب من التعداد السكاني، ثم مقارنة كمية الموارد المتوافرة بحاجات النخب. بالنسبة إليه، هكذا تُحدّد طبيعة العلاقات المجتمعية والسياسية القائمة داخل المجتمع، وخصوصاً بين النخب وعامة الناس (العمالة المنتجة)، وانعكاسها على تموضع عامة الناس ضمن المنظومة السياسية للدولة.
نظرية تورشين هي جزء من جهد أكبر له يهدف إلى الوصول إلى معادلات رياضية حاكمة لحركة التاريخ قادرة على التنبؤ بشكل محدّد وكميّ بمجموعة من المتغيرات الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية. أما هدفه النهائي، فهو أن يجري التعامل مع التاريخ كعلم قياسي، كالفيزياء، ولكن بنتائج أقلّ فعّالية ودقّة. لذا، هو خصّص كتابه «الديناميات التاريخية» لشرح المنهجية التي اتّبعها لبناء النموذج الرياضي الذي استعمله للحصول على معادلات تساعد على التنبؤ بالدورات التاريخية. وبنى جزءاً من منهجيته على «عصبية» ابن خلدون وعلى نتائج أبحاث عالم الإنثروبولوجيا لِف غوميلِيوف، واستعمل نظرياتهما لتحديد أطر الفضاء الاجتماعي والسياسي وديناميته ضمن نموذج رياضي.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

خلفية تورشين، وهو في الأساس عالم بيئي متخصّص في علم البيئة التجمعي (أي دراسة ديناميات التجمعات للأنواع الحيّة المختلفة)، تدخل في بناء الجزء الاقتصادي من منهجيته. بحسب ما ورد في كتاب له مع سيرغي نيفيدوف بعنوان «الدورات العلمانية»، فإن المنهجية تعتمد على أفكار روبرت مالتوس ودايفد ريكاردو. الصراع، بالنسبة إلى مالتوس، قائم بين الميل الطبيعي للسكان إلى الزيادة، وبين القيود التي يفرضها توافر الغذاء. وهذا يؤدي إلى ميل أعداد السكان للتذبذب بشكل دوريّ، لكن ريكاردو وسّع نظرية مالتوس وطوّرها في نظرياته عن تناقص العوائد والريع.
يستنتج الكاتبان مجموعة تعاميم، أهمها ثلاثة؛
- التعميم الأول سمياه «المبدأ المالتوسي الجديد»: خلال فترات النمو السكاني المستدام، إذا كان ناتج الاقتصاد الزراعي لا يواكب تطوّر عدد السكان، فسيتم ملاحظة عدد من اتجاهات تطور الأسعار النسبي. يتمثّل أحد الاتجاهات في ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية والطاقة والعقارات. وفي المقابل أحد الاتجاهات الأخرى هو انخفاض الأجور الحقيقية للعمل. هذه الاتجاهات هي ببساطة نتيجة لقانون العرض والطلب. وهكذا، مع زيادة المعروض من العمالة، وإذا كان الطلب عليها محدوداً (كما هو الحال في الاقتصادات الزراعية)، فإن سعر العمالة ينخفض حتماً.
- يأتي التعميم الثاني انطلاقاً من التعميم الأول، ويهدف إلى التعامل مع ديناميات النخبة بنتيجة قانون العرض والطلب أيضاً. فالنوع الرئيسي للثروة في المجتمعات الزراعية هو الأرض. ملّاك الأراضي، أي النخبة في المجتمعات الزراعية، يستفيدون من الزيادة السكانية بطريقتين: أولاً، هم مستهلكون للعمالة، لأنّهم يحتاجون إلى الفلاحين للعمل في أراضيهم، وللخدم للقيام بالأعمال المنزلية، وللحرفيين لإنتاج مواد للاستهلاك. ثانياً، ممتلكاتهم وأراضيهم تنتج الغذاء والسلع الأخرى، مثل الوقود والمواد الخام، التي يزداد الطلب عليها مع تزايد عدد السكان. وبزيادة عدد السكان، تصبح العناصر التي تستهلكها النخب أرخص، بينما تزداد قيمة العناصر التي تنتجها. رغم ذلك، فإن العملية ديناميكية. فالظروف الاقتصادية المؤاتية للنخب تأتي مع تبعات خاصة بها؛ يزداد عدد النخب عبر التكاثر البيولوجي والحراك الاجتماعي التصاعدي، فضلاً عن اعتيادهم على مستويات أعلى من الاستهلاك. وفي النهاية، تتخطّى أعداد النخبة وشهيتها «القدرة الاستيعابية» (بناءً على قدرة العمالة التي يقدّمها عامة الناس). وتكون التبعات أن يؤدّي فائض إنتاج النخبة إلى فقر قطاعات كبيرة من النخب، ولكن ليس بمعنى فقر عامة الناس. يكون فقر النخب فقراً نسبياً وفقاً لمعايير الاستهلاك اللازمة للحفاظ على مستويات العيش النخبوية.
أطلق تورشين على هذا التعميم عنوان «مبدأ فائض إنتاج النخبة». وإحدى نتائجه: إن معدل فائض إنتاج النخبة يجب أن يتطور مع معدل النمو السكاني العام، وإلاّ سيتزامن الإنتاج الزائد للنخب مع مرحلة الركود التضخّمي.
- التعميم الثالث يستند إلى التعميم الثاني أيضاً، لكنه يختصّ بأسباب عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي مشيراً إلى ثلاثة أسباب رئيسية لظهور اتجاه التفكّك (أي فترة طويلة من عدم الاستقرار المتزايد): الزيادة السكانية، فائض إنتاج النخبة، والأزمة المالية للدولة. لكن يبقى الدور المهيمن لظهور اتجاه التفكّك هو الإنتاج الزائد للنخبة، ما يؤدي إلى المنافسة داخل النخبة والتشرذم والصراع وظهور النخب المضادة التي تحشد الجماهير الشعبية في نضالها ضد المنظومة القائمة.

الوهم اللبناني
باعتراف تورشين، لا يمكن لنموذجه الرياضي (حالياً) تحديد معادلات و«قوانين التاريخ» بالشكل الدقيق نفسه لقوانين الفيزياء أو الكيمياء أو ضمن أشكال رياضية محدّدة وثوابت عالمية موحّدة. ربما لن تتمكن البشرية من الوصول إلى ذلك، إلا أنه يمكن الاستفادة من تعميمه الثاني لتوصيف وتحليل الحالة اللبنانية، أي مبدأ فائض إنتاج النخبة.
تورشين عبّر بوضوح عن اقتناعه بأن الشكل المعاصر للإنتاج الزائد للنخب يكون عبر الترقّي الاقتصادي والتعليمي. وذلك، ببساطة، لأن الطبقات الحاكمة لم تعد وراثية، ولم يعد تطوّر أعدادها يعتمد على العامل البيولوجي بشكل أساسيّ. من هذه الزاوية، ينطبق توصيف تورشين على لبنان. فنسبة الأغنياء في لبنان ازدادت بشكل مطّرد خلال العقود الثلاثة الماضية. كذلك، دفعت الحريرية السياسية، اللبنانيين، نحو السعي إلى التعليم الجامعي الموجّه صوب قطاعات خدماتية بشكل كثيف. في النتيجة زاد أعضاء نقابات الأطباء والمهندسين والمحاسبين والمصرفيين. هذه الزيادة كفيلة للدلالة على كمّ النخب الهائل الموجود في البلاد.
إن وجود مئات الآلاف من النخب اللبنانية خارج القطاع العام هو «رأس مال» ميّت، وهذا العدد الضخم هو تعبير عن سياسات الحريرية السياسية التي أوهمت اللبنانيين بأنّ الموارد الموجودة تسمح لعدد أكبر منهم بالارتقاء عبر التعليم والتطور الاقتصادي من دون أن تكون هناك موارد حقيقية تدعم ارتقاءهم


لكن أليس ازدياد عدد الأغنياء والمتعلمين أمراً جيداً؟
الإجابة المنطقية هي نعم. لكن بحسب تورشين تبدأ المشاكل عندما يصبح المال والشهادات المرموقة مثل الألقاب الملكية في الممالك. فهؤلاء سيشكّلون نخباً اقتصادية وأيديولوجية واجتماعية. أما الوظائف والمواقع الاجتماعية والسياسية التي يطمحون إليها، فلن تزداد بوتيرة زيادة أعداد النخب نفسها. كما أن القوّة الحقيقية، ستنحصر بأيدي عدد قليل منهم. أما من لم يستطع بلوغ المواقع النخبوية فسينقلب على الذين وصلوا.
عملياً، هذا العدد الضخم من النخب، وما يقابله من عدد ضئيل نسبياً من عامة الشعب، هو وصفة للتقاتل والتناتش بين المستويات العليا في المجتمع، وليس وصفة للإنتاج. فالنخب لا تنتج حاجاتها الأساسية، بل تحتاج إلى يد عاملة منتجة تلبي مستويات استهلاكها المرتفع والمطّرد. صحيح أن ما تنتجه النخبة هو ذو قيمة عالية، بحسب تورشين، لكنّ قيمته عالية في مجتمعها وبيئتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وليس بالضرورة خارجها. أما القول بأن هذه النخب، أو ما يصطلح عليه البعض بـ «رأس المال البشري»، ستُخرج لبنان من مأزقه عبر إنتاج سلع وخدمات تُباع في أسواق خارجية بقيمة عالية، ما هو إلا وهم. الإنتاج، سواء لسلع أو خدمات ذات قيمة مرتفعة، يحتاج إلى بنى تحتية ماديّة وبشرية لا يمتلكها لبنان. فالعمالة المنتجة نسبتها ضئيلة مقارنة مع النخب، والحديث عن سوء البنى التحتية المادية لا يحتاج إلى الكثير من التفنيد.
في المحصّلة يمكن القول إنّه بالإضافة إلى الضعف التقني للكثير من النخب العاملة في القطاع العام وارتهان الكثير منها للخارج، فإن وجود مئات الآلاف من النخب اللبنانية خارج القطاع العام، هو رأس مال ميّت لا يمكن لأحد أن يتصرف به بشكله الحالي. فهذا العدد الضخم من النخب هو تعبير عن سياسات الحريرية السياسية التي أوهمت اللبنانيين بأنّ الموارد الموجودة تسمح لعدد أكبر منهم بالارتقاء عبر التعليم والتطور الاقتصادي من دون أن تكون هناك موارد حقيقية تدعم ارتقاءهم. وجزء أساسي من تبعات الانهيار الحالي هو أنّ الجزء الأكبر من اللبنانيين اعتاد على مستوى استهلاك نخبوي في السنوات الثلاثين الماضية.
فإذاً ما هو الحل؟ إن لم يخرج من يقول للنخب الحقيقة المرّة ويُقنعهم بأن موقعهم وهمي ولا موارد تدعم بقاءهم، وأنّ الحلّ يكون من خلال خطّة تؤطّر عودتهم إلى صفوف العمالة المنتجة، لن نشهد حلولاً حقيقية تعالج مكامن الخلل البنيوي في الاقتصاد اللبناني والمسار نحو الاضطرابات سيكون أسهل. حلّ كهذا يحتاج إلى سنوات طويلة لنبدأ برؤية نتائجه. وفي هذه الأثناء ربما الأجدى تطبيق خطط آنية وسريعة تقي اللبنانيين الجوع. أما وصفات الحلول الاقتصادية السريعة فما هي إلا وسيلة لدغدغة أحلام الكثير من اللبنانيين الذين لا يزالون يعيشون في الوهم الذي رُسمت معالمه قبل ثلاثة عقود.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا