مقاربة القوى السياسية الحاكمة للمشهد الاقتصادي والاجتماعي في لبنان، هي في أحسن الأحوال مجتزأة، وفي أسوأ الأحوال خاطئة. هي تركّز على الواقع المالي وتختزل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية به. صحيح أن الوضع المالي سيئ، سواء بتراكم الدين، أو شحّ السيولة الوطنية والخارجية، إلّا أن مقاربة القوى الحاكمة لا تعالج الأسباب التي أدّت إلى هذه الحالة. أما المبادرة الفرنسية التي يتكلّم عنها المسؤولون، فهي لا تعالج إلّا بعض مظاهر المشكلة وليس جوهرها. هي مبادرة ليست للإصلاح بل للعودة إلى ما قبل الأزمة التي انفجرت في 17 تشرين الأول 2019 والتي بلغت ذروتها مع تفجير مرفأ بيروت بتداعياته الاقتصادية والمالية والاجتماعية.الاقتصاد ليس علماً قائماً بحدّ ذاته بل هو يقين السياسة بلغة الأرقام. لذا، إذا كانت السياسة فنّ الممكن، فإن الاقتصاد هو أيضاً فنّ الممكن. فالاقتصاد بُني على خلفيات سياسية شكّلت متن خياراته الاستراتيجية منذ حقبة الاستقلال، وأدّت إلى اعتماد سياسات تنفيذية. ففي تلك الفترة نتجت الخيارات من تقدير لموازين القوّة السائدة، لكن المبادرة الفرنسية ووصفات صندوق النقد والبنك الدوليين، لا تأخذ في الاعتبار أن هناك تغيّرات جذرية طرأت عليها. فالمقصود بموازين القوّة هو مجمل العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية محلّياً وإقليمياً وعربياً التي أسهمت في تراجع النفوذ الغربي عموماً، بسبب فشل النموذج الغربي النيوليبرالي أو وصوله إلى طريق مسدود.

أرتور زكاريان ــ أرمينيا

المجتمعات الغربية مأزومة سياسياً واقتصادياً. فهي لجأت إلى حروب بالوكالة لتعويض التراجع الملحوظ في قدرتها العسكرية على فرض السيطرة وعجزها عن خوض الحروب المباشرة. لكن، حتى الحروب بالوكالة فشلت في تغيير النزعات الاستقلالية والرافضة للهيمنة الخارجية. ففي سوريا فشلت الحرب الكونية، وفشل العدوان على اليمن، وبالتحرير وإحباط أهداف عدوان تموز فشل العدوان الصهيوني على لبنان.
كذلك، فإن الثورة التكنولوجية جعلت عملية التعبئة السياسية أوسع وأسرع وأقل كلفة. الثورات المضادة استعملت وسائل التواصل لتعبئة القواعد الشعبية عبر تضليلها بأنها تقوم بثورة شعبية ضد نظام فاسد، لكن سرعان ما ظهرت الأجندات المخفية إلى العلن، فأُجهضت المحاولات. ما بات واضحاً، أن الإملاءات الخارجية، ولا سيما العائدة للحلف الصهيوأميركي لم تعد ناجعة. كما أن مستوى الوعي في بنية المشروع المقاوم وبيئته الحاضنة كان سدّاً منيعاً لتمرير الإملاءات. إلّا أنه في المقابل، لم يستطِع المشروع المقاوم، حتى الساعة، أن يتحوّل إلى مشروع تغييري اقتصادي واجتماعي لأسباب عدّة منها خطر الفتنة الطائفية المذهبية التي ما زالت ورقة ضاغطة في يد المحور العدواني. استعملت هذه الورقة في حوادث كان هدفها إشعال الاقتتال، لكنها لم تنجح بسبب الوعي والذاكرة الرافضة للفتنة، لكن خطرها ما زال قائماً وإن كان يتلاشى رويداً رويداً.
في هذا السياق، من الواضح، أن مجتمع المانحين، بما يشمل من مبادرة فرنسية وصندوق النقد والبنك الدوليين وسائر المؤسسات المالية الدولية، يحاول تعويم النظام الاقتصادي السياسي القائم في لبنان بالخلفية السياسية التي كانت سائدة وأدّت إلى النتائج الكارثية. من سخرية القدر أن المأزق اللبناني هو أيضاً مأزق لمجتمع «المانحين» الذي لا يستطيع الخروج عن التفكير العبثي الذي يتحكّم به. لذا، لن تفضي المبادرة الفرنسية بما تعتمده من وصفات المؤسسات الدولية، إلّا إلى تعويم نظام اقتصادي سياسي لم يعُد قابلاً للحياة ومحكوماً بالفشل الحتمي. كلّ ما يمكن أن تحقّقه هذه المبادرة بوصفاتها الدولية، هو تعجيل السقوط النهائي للنظام السياسي في لبنان عبر تدمير ما تبقّى من البنية الاجتماعية. الكلفة الاجتماعية ستكون باهظة. ربما لا بدّ من دفع هذه الضريبة المكلفة للتخلّص من أوهام الفكر النيوليبرالي والتبعية للغرب ومن النظام الفاسد القائم في لبنان.
الإصلاح المطلوب ليس موجوداً في ما يُسمّى بـ«ورقة الإصلاح». فالمهمّة الموكلة للحكومة المقبلة هي تعويم النظام المصرفي اللبناني الفاسد قبل أي شيء آخر. وبالنسبة لها، فإن جوهر «الإصلاح» هو «خصخصة» مرافق الدولة والممتلكات الاستراتيجية. لذا، فإن المطلوب مقاربة مختلفة انطلاقاً من أن الحلّ المطروح فرنسياً ودولياً ليس قدراً في ظلّ توافر البدائل. مشكلة هذه المقاربة تكمن في ميزان القوّة في المشهد السياسي. فالضغوط الطائفية والمذهبية لا تسمح بمقاربة جدّية للإصلاح لأنه لا يتناسب مع أجندات أمراء الطوائف والمذاهب المتحالفين مع أمراء المال والمصارف. بمعنى آخر، لا إصلاح اقتصادي من دون إصلاح سياسي. أما الإصلاح السياسي، فهو ليس أولوية عند القوى النافذة لاعتبارات ترتبط باستراتيجيتها الوطنية والعربية والإقليمية والدولية.
عملياً، الخيار العبثي المفروض على القوى الوطنية، هو الاختيار بين التفجير الاجتماعي، والتفجير الطائفي المذهبي الأكثر ضرراً. خياران أحلاهما مرّ. من هنا تأتي أولوية الإصلاح السياسي، ولهذه الأسباب يصبح الإصلاح الاقتصادي مؤجّل لحين التغيير في المشهد الإقليمي والعربي والدولي. ليس بالضرورة أن يكون المدى الزمني للتغيير بعيداً. يمكن تقديره بين سنة واحدة وخمس سنوات. في ذلك الوقت فقط، يمكن التفكير الجدّي بالإصلاح، أي عندما تكون الولايات المتحدة في حالة صعبة تفرض عليها الانصراف عن التدخّل في شؤون الدول لتعالج وضعها الداخلي المتدهور. بكلام آخر، إن الفراغ الدولي الناشئ عن الانكفاء الأميركي القسري سيملأه المحور الصاعد: الروسي - الصيني ومعه محور المقاومة إقليمياً وعربياً. هذا التحوّل سينعكس مباشرة على الكيان الصهيوني الذي سيعاني من حالة داخلية صعبة جداً. أما الدول العربية والإقليمية المتحالفة مع الولايات المتحدة (هي نفسها تحالفت أيضاً مع الكيان الصهيوني أخيراً) ستُجبَر على مراجعة حساباتها. هذا يعني أن القوى السياسية في لبنان المرتبطة بالموقف الأميركي والعربي ستكون مضطرة إلى مراجعة حساباتها بالحدّ الأدنى، هذا إذا لم تختف عن المشهد.
في مثل هذا الوضع فقط، يمكن الحديث عن إصلاح اقتصادي ومالي جدّي في لبنان. يتطلب الأمر مراجعة في الخيارات وفي السياسات وفي البنية السياسية؛
الخيار البنيوي هو التحوّل من اقتصاد ريعي إلى إنتاجي والتوجّه شرقاً في التعامل والمشاركة والتشبيك الاقتصادي عربياً وإقليمياً ودولياً. التشبيك العربي يهدف إلى تكوين كتلة عربية تستطيع التشبيك الندّي مع كل من الجمهورية الإسلامية في إيران وتركيا من جهة، ومع أثيوبيا وجنوب أفريقيا من جهة أخرى. أما دولياً، فمستقبل لبنان كمستقبل الكتلة العربية، هو في الطريق الواحد والحزام الواحد في الكتلة الأوراسية الصاعدة. والتحوّل من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي يقطع علاقة موزّع الريع بالقاعدة من جهة ويفرض قسراً ثقافة المساءلة والمحاسبة. عندئذ يمكن التكلّم عن إصلاح في البنية السياسية. هكذا يصبح الانتهاء من ثقافة الريع شرطاً ضرورياً للإصلاح السياسي وللخروج من ثقافة الزبائنية المرتبطة بالنظام الطائفي. عند ذلك الحين يمكن التكلّم عن المواطنة بدلاً من الرعوية داخل الطوائف والمذاهب.
أما السياسات المطلوبة، هي لدعم القطاعات الإنتاجية وإعادة هيكلة النظام المصرفي ليخدم هذه القطاعات. السياسات تتطلّب تخطيطاً مدروساً على المدى القصير والمتوسط والطويل. هذا يعني إعادة الاعتبار إلى وزارة التخطيط وإلى القطاع العام بعد ترشيده وترشيقه. أما الخطوات المطلوبة في التحوّل إلى اقتصاد إنتاجي فهي التي تهدف إلى تخفيف دور الريع في النمو الاقتصادي، أي إعادة النظر في أسس التنافس الاقتصادي عبر إلغاء الوكالات الحصرية والاحتكارات التي تحظى بالحمايات السياسية من قطاع الدواء إلى المحروقات إلى استيراد المواد الأساسية وسواها من القطاعات الاحتكارية. وهناك مصدر ثانٍ للريع: سندات الخزينة والفوائد المرتفعة المرتبطة بها. في هذا المجال، تكمن ضرورة إعادة هيكلة الدين العام لتخفيف كلفة خدمته على الموازنة العامة، أي إعادة النظر في آجال السندات وتحويلها إلى آجال طويلة المدى وخفض الفائدة وخفض رأس المال الأساسي للدين. والهدف الرئيسي لإعادة هيكلة الدين العام هو تحرير الموازنة العامة من خدمة الدين التي تستحوذ على غالبية وارادت الدولة. يمكن إنفاق الواردات المحرّرة لتقديم الخدمات الاجتماعية وترميم البنية التحتية وإعادة تأهيلها وتطويرها. العبء الأكبر لإعادة الهيكلة يتحمّلها النظام المصرفي (مصرف لبنان، جمعية المصارف) الذي كان شريكاً موضوعياً وذاتياً في الكارثة المالية والنقدية التي يعيشها لبنان.
إذاً، إعادة هيكلة الدين العام تعني أيضاً إعادة هيكلة النظام المصرفي لجهة عدد المصارف وحجمها وملكيتها أيضاً، فضلاً عن إعادة النظر في بينة النظام الداخلي لمصرف لبنان. بالحد الأقصى، يجب تقليص عدد المصارف إلى عدد لا يتجاوز عدد أصابع اليد قياساً إلى حجم الاقتصاد اللبناني. ليس واضحاً وجود هذا العدد الكبير من المصارف، خصوصاً أن النظام المصرفي لم يسهم إلّا بشكل هامشي في تنمية وتمويل القطاعات الإنتاجية بل اكتفى بتحويل الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد ريعي يرتكز إلى سندات الخزينة والمضاربات العقارية غير المنسجمة مع النموّ والحاجات السكّنية للبلاد. أما الطموح بجعل لبنان مركزاً مالياً في المنطقة، فذلك الأمر يحتاج إلى بنية تحتية في الطاقة والتواصل غير موجودة حتى الآن. كلفة الطاقة والتواصل في لبنان من أعلى الأكلاف في العالم إضافة إلى ضعف الخدمات والتواصل عبر الشبكة العنبكوتية، ففي ظل ذلك ليس مفهوماً كيف سيتحوّل لبنان إلى مركز مالي وتجاري للمنطقة، وحتى إيجاد هذه البنية التحتية، لا داعي لأن يكون عدد المصارف على ما هو عليه الآن.
من الواضح أن مجتمع المانحين بما يشمل من مبادرة فرنسية وصندوق النقد والبنك الدوليين وسائر المؤسسات المالية الدولية، يحاول تعويم النظام الاقتصادي السياسي القائم في لبنان بالخلفية السياسية التي كانت سائدة وأدّت إلى النتائج الكارثية الني نشهدها ومن سخرية القدر أن المأزق اللبناني هو أيضاً مأزق لمجتمع «المانحين» الذي لا يستطيع الخروج عن التفكير العبثي الذي يتحكّم به


وبالنسبة إلى حجم المصارف وملكيتها، هناك مصارف مملوكة بأكثرية أسهمها من الدولة اللبنانية وهي مختصّة بتمويل القطاع الصناعي والزراعي والسياحي والإنشائي، وهي ضرورية لدفع عجلة التحوّل إلى اقتصاد إنتاجي وتعاوني. يمكن الإشارة في هذا المجال، إلى تجربة الصين ونموذجها الاقتصادي لدرس دول المصارف المختصة في التمويل والتنمية. أكبر مصارف في العالم اليوم هي المصارف الصينية المملوكة من الدولة وهي أسهمت في تمويل النموّ الصناعي والزراعي والبنى التحتية. والقطاع الخاص عامة ليس معنياً بتمويل مشاريع متوسطة وطويلة المدى لأنه طامع في تحقيق الأرباح والأرباح السريعة وإن كانت ذات طابع ريعي. وبالنسبة إلى حجم المصارف، إن تجميعها يسهم في خلق مؤسّسات أقوى وأمتن من الوحدات الحالية والتي ستمكّنها من المشاركة في مشاريع إنتاجية متوسطة وطويلة المدى.
أما السياسة النقدية التي يجب أن يتبنّاها مصرف لبنان فهي لخدمة التوجّهات والتخطيط المركزي للاقتصاد الوطني. دور القطاع الخاص هو المشاركة في عملية النمو والتنمية إنما ضمن الأهداف والمعايير المخطّط لها. والسياسة النقدية يجب أن تتمحور نحو تشجيع مختلف القطاعات الإنتاجية. ويمكن توظيفها من أجل تمويل القطاع التعاوني لتخفيف عبء الاحتكارات على المستهلك المحدود الدخل. أمّا على صعيد الشحّ في النقد الخارجي (الدولار بشكل أساسي)، فهناك سلسلة إجراءات يمكن اتخاذها بهدف خفض الطلب على الدولار بدءاً بمنع التداول وطنياً بالنقد الخارجي إلّا لحاجات الاستيراد ودفع مستحقّات في الخارج للطلاّب مثلاً. كما أن إعادة النظر في حجم ونوع الاستيراد مطلوبة بهدف خفض الاستيراد في الكماليات بنسبة 40% والاستيراد العام بنسبة 20%.
يضاف إلى هذه الإجراءات، البحث عن صفقات تجارية مع دول تصدّر سلعاً بأسعار مخفّضة كالدواء من دول كالصين أو الجمهورية الإسلامية في إيران أو الهند أو ماليزيا على سبيل المثال إضافة إلى عقد صفقات تجارية تموّل بالليرة اللبنانية قدر الإمكان. هذا بعض الإجراءات المتاحة. الحلول التقنية موجودة لكنها تفتقر إلى شجاعة اتخاذ القرار وتنفيذه. هي معركة سياسية بامتياز، ومعركة ثقافية لكسب الوعي واللاوعي حول ضرورة التفكير المختلف عن السائد.
أما الدور الأساسي الذي يجب منحه للقطاع العام، فهو مرتبطٌ بإعادة النظر في الكفاءة والنزاهة فيه، أي أن يكون دور القضاء مفصليّاً في تأمين الثقة بالقطاع العام والخاص، وهذا يتطلّب إعادة النظر في القضاء وإصلاح النظام السياسي. لذلك نقول إن الاقتصاد هو السياسة لكن بلغة مختلفة. لا يمكن الفصل بينهما. فالسياسة فنّ الممكن وكذلك الاقتصاد.

* كاتب وباحث اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا