يجد العالم، منذ عقود، صعوبة في تخطّي أزماته بشتى بأشكالها؛ السياسية كصعود اليمين وخصوصاً في النصف الغربي من العالم، والاقتصادية مثل تواتر الانهيارات المالية والاقتصادية والنقدية في أنحاء عدة وصعوبة لجمها، والاجتماعية من خلال زيادة معدلات الجريمة واللامساواة والفقر وتقويض دولة الرفاه وانخفاض منسوب التضامن الاجتماعي، ناهيك بأزماته العسكرية المتفاقمة على وقع تصدّع قدرة النظام العالمي على ضبط الأمن والاستقرار. ولهذه الصعوبات أسباب متشعّبة، لكن ما لا يُتوقف عنده، هو الصلة بين تدهور أوضاع العالم وأزمة العلم والمعرفة، بفروعهما وتصنيفاتهما وثقافتهما المختلفة، والتنافس المرير داخلهما وفي ما بينهما. وقد بيّن انتشار وباء كورونا (كوفيد – 19) المستجد نقص الجهوزية في مواجهة الكوارث والأحداث المفاجئة. ويخيّل للمراقب أن المختبرات ومراكز الأبحاث كأنها تبدأ من الصفر، وبرز إلى العيان انعدام التوازن بين الأبحاث النظرية والأساسية المسؤولة عن تقدم العلوم، وبين الأبحاث التطبيقية والتكنولوجية لمصلحة هذه الأخيرة، وبالخصوص منها المسؤولة عن الابتكارات في السلع الاستهلاكية أو الموجهة للترفيه.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

كانت مساهمات علماء الاجتماع والفلسفة ضعيفة أيضاً قياساً إلى قوّة التحوّلات مع تراجع قدرتهم على استكشاف آفاق المستقبل في حقبة الحداثة وما بعدها. أمّا الاقتصاديون فانصرفوا إلى إحصاء الخسائر ورسم التوقعات التقنية، من دون أن أن يُلقوا بالاً لتفسير الانحرافات النظرية التي أخلّت بتنبؤاتهم وأضعفت قدرتهم على الرصد الاستباقي للمخاطر والتفسير الحصيف للعوامل المحركة للفوضى والمسببة للكوارث. وفي المسار نفسه كرّس علماء السياسة أعمالهم لتحليل علاقات القوة وصراعاتها داخل الدول وفي ما بينها، ضمن منهجيات متقنة، لكن أجنداتهم كانت محكومة من طرف خفيّ لبرامج مراكز التفكير التي حظيت بتمويل سخي، فيما أُقصيت الفلسفة السياسية إلى المقاعد الخلفية، على أهمية وظيفتها في إيجاد توافقات تتجاوز الشؤون السياسية المباشرة في قضايا يدور حولها نزاع عميق. وفي غضون ذلك، وتحت أبصار علماء الاجتماع والسياسة والاقتصاد، تخلّى العالم في العقود الثلاثة الأخيرة عن إنجازه السياسي الأبرز الذي جسّده الانتقال من نظام يُعلي من شأن سيادة الدولة الحارسة ويرعى الحريات الاقتصادية إلى نظام بسماركي يقدّم أوسع رفاهية وأمان لمواطنيه.
ننطلق في هذا النص من فرضية مفادُها أن مسيرة العلوم باتت متقلّبة أكثر من السابق، بتأثير من عوامل ذاتية وموضوعية. مرّت تلك المسيرة بمرحلتَين متداخلتين؛ كان كبار العلماء والنظريات الكبرى يلقون ظلالاً من الهيمنة على مسارات البحث في المرحلة الأولى، وهم بذلك استجابوا للنقص المعرفي وللحاجات العميقة للمجتمع. وفي المرحلة الثانية، صارت الهياكل المؤسّساتية هي صاحبة السلطة في رسم مسارات النمو العلمي ووضع أجندات البحث وأولوياته. في الحالة الأولى كانت النماذج المرجعية الكبرى ورموزها، الطرف الأقوى في تحديد موضوعات البحث العلمي، وفي الثانية غدا التمويل والسلطات ومتطلّبات التسويق قاطرة التقدم العلمي، وأصحاب الأيدي العليا في تحديد أي من مسارات العلم لها الأفضلية على غيرها.
ويمكن تلمّس ذلك بأسئلة بسيطة: لماذا تتطوّر الصناعات الجديدة التي تنتج سلع الترفيه أسرع من الصناعات التقليدية التي تمسّ ضروريات حياتنا؟ كيف تُحرّك المؤسّسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية «الطلب» على التقنيات والبحوث المتّصلة بها؟ ما العلاقة بين حاجات السلطة ونموّ الفروع العلمية ذات الصلة بها؟ كم تُسهم الحروب والإنفاق العسكري في تطوير التطبيقات العلميّة؟ تحضرنا هنا أمثلة عدة، من بينها تطور الشبكة العنكبوتية على خلفية الإنفاق العسكري الأميركي، وتطوّر علوم الفضاء ربطاً بالتجسّس، واستخدامات تكنولوجيا الاتصالات في حروب الجيل الخامس، والنانو تكنولوجي في إنتاج أسلحة متناهية الدقّة والصغر، ولا يُغفل هنا أن الأبحاث العلمية في مجالات استهلاكية محدّدة، تفرض لأغراض تجارية التلاعب بالمنظورات الاجتماعية للناس، كصناعة التجميل التي تروّج لفلسفة حداثوية للجمال قوامها ما تحدده عوالم السوق والميديا والموضة لا ما تختاره العين العادية.

مثالان من علم الاقتصاد
لا يتخلّى العلماء عن النماذج القائمة والمسؤولة عن الأزمة، بل يتمسّكون بها، حتى لو كان المطلوب فقط تحديد نطاق صحّتها ووضع حدود لصوابها وليس نقضها من أساسها. هذه عقبة في وجه التغيير متكرّرة الحدوث في تاريخ العلم (تريفيل؛ 147؛ 2010). مع ذلك لا تصمد مثل هذه العقبات إلى الأبد، في وجه تطور العلوم الطبيعية. ففي نهاية المطاف تفضي الصعوبات التفسيرية التي تنتاب نموذجاً علميّاً ما إلى ولادة النظريات الجديدة. لقد هيّأت أزمة علم الفيزياء مثلاً في أواخر القرن التاسع عشر الطريق لظهور النظرية النسبية، ولم يكن من مناصّ أمام المجتمع العلمي إلا الاعتراف بذلك بعد وصوله إلى طريق مسدود في مواجهة حقائق أباحها الكون لمراقبيه. لكن ذلك لا يجري دائماً بسلاسة، ففي الحالات التي يظهر فيها عدم التطابق بين النظرية والطبيعة يميل العلماء في أغلب الحالات إلى الانتظار، وخصوصاً إذا كانت الانحرافات بسيطة. ومن شأن هذا الأمر أن يؤخّر لمدّة من الزمن الخطوة التالية على طريق التقدم العلمي.
أمّا في مجال علم الاقتصاد فلم تُقدّم شروح وافية لبعض ظواهره مثل التقلّبات والدورات الاقتصادية رغم مرور قرنين ونصف تقريباً على نشوء هذا العلم بثوبه الحديث. ويُعزى ذلك إلى جمود وانحرافات منهجيّة وفكريّة، وإلى نقص في الجرأة بسبب سطوة المرجعيات المهيمنة وضخامة المصالح التي تعبّر عنها. وتقتضي الشجاعة وضع مسلّماته وفروضه الكلاسيكية الأساسية على طاولة المراجعة والتنقيح والدحض، ولا سيما الفروض المتحكمة بعالم البحث ومنها على سبيل التكرار والتأكيد: الرشد والعقلانية وسيادة المستهلك والتوقعات الرشيدة وكفاءة المعلومات المستقاة من السوق، والتوازن عند أعلى نقطة.
ظلّت هذه المسلّمات حاضرة في صلب مقرراتنا الدراسية وأبحاثنا الأساسية والتطبيقية، مع أنّ الوقائع الاقتصادية أسقطتها أو قلّلت من شأنها. وإلّا لماذا كان سلوك المتعاملين في الأسواق المالية على هذا النحو من عدم العقلانية وقلّة التبصر وانعدام الحيلة، ما كبّد الاقتصاد خسائر هائلة، فاقت أحياناً ما تسبّبه حروب كبرى وكوارث طبيعية عظيمة. وهل يُعقل أيضاً بعد مرور أربعة قرون على قيام نماذج التمويل الحاليّة للاقتصاد، أن لا نضعها على محكّ المراجعة، أو نعثر على نماذج بديلة لها، لنبقى واقعين بين مطرقة انهيار البورصات وانفجار الفقاعات المالية والعقارية.

الاشتراكية المثالية
وفي الآتي مثالان عن ملامح ثورتَين معرفيّتَين أُجهضتا في حينهما بسبب قوّة الفكر المدرسي السائد والكاريزما التي يتحلّى بها القائمون على النماذج العلميّة المرجعية.
أستقي المثال الأول من الاشتراكية المثالية التي ظهرت أوائل القرن التاسع عشر، والتي عدّها بعضهم تمهيداً للماركسية، علماً بأنّ هذه الأخيرة تتحمل قسطاً من المسؤولية عن طردها من المسرح مدّة طويلة من الزمن. ومن رواد هذه المدرسة المثالية المذكورة، جان شارل سيسموندي وهنري دو سان سيمون وغيرهما ممن عارضوا المبادئ التقليدية للاقتصاد، ورأوا أن موضوعه المركزي هو الإنسان لا الأصول والثروات المادية.
وجّه أتباع هذه المقاربة نقداً للملكية الخاصة بوصفها قطب الرحى في عمليات الإنتاج والتوزيع من دون أن يرفضوها رفضاً باتاً. فتكاملت أفكارهم مع آراء «التعاونيين» ممن وجدوا أن التعاون والمشاركة لا المنافسة كفيلان بإعطاء حلول للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية. وذهب روبرت أوين الذي يوصف بأنه أبو الحركة التعاونية، إلى أقصى الحدود في دعوته إلى خلق مجتمع جديد، ينطوي على علاقات اقتصادية جديدة وبيئة اجتماعية ذات ملامح مختلفة. وتضمنت أفكار أنصار هذه المدرسة الاشتراكية المبكرة نزعات رومانسية، مثل الدعوة إلى إلغاء الربح عند أوين، والتعاون الشامل في الإنتاج والتوزيع والعودة إلى الأرض والعمل المشوق فيها عند شارل فورييه ونظام الأجر المتساوي عند لوي بلان.
ورغم أن اليوتوبيا الاشتراكية هذه حظيت باحترام العديد من الماركسيين وتمتّعت بجاذبيّة عمليّة، فإنها لم تقوَ على الصمود أو على الأقل لم تحظَ بالتقدير المناسب. يمكن أن نعزو ذلك إلى قوّة التيارات الأخرى التي تزامنت معها أو أعقبتها، وإلى الهيمنة الفكرية التي مارسها مفكّرون وعلماء اقتصاديون من ذوي التأثير التاريخي الكبير. ولعلّ العقبة الحاسمة أمام تطور الاشتراكية المثالية كانت ظهور كارل ماركس على المسرح في وقت لاحق وقريب منها، وهو الذي صاغ مع فردريك انجلز مذهباً اقتصاديّاً يستقي جذوره الفلسفية من المنهج الجدلي والمادية التاريخية، وعُرف بالاشتراكية العلمية تمييزاً لها عن سابقتها الطوباوية.
ساهمت مدرسة التحليل الحدّي أيضاً في رسم المصير القاتم للاشتراكية المثالية التي برزت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وفي حين كانت نقطة ارتكاز الماركسية هي ربط الاقتصاد بفلسفة التاريخ، فإنّ مركز قوّة التحليل الحدي تجسّد في إضفاء طابع موضوعي (رياضي) على المفاهيم الاقتصادية (من خلال اكتشاف فكرة المنفعة الحديّة بوصفها أساساً للقيمة)، على عكس الطابع الذاتي الأخلاقي الذي قامت عليه المقاربة المثالية.
وبذلك أُجهضت الاشتراكية المثالية على أيدي تيارين متناقضين؛ الماركسية الجدليّة من ناحية، والرأسمالية الكلاسيكية ذات النزعة الكميّة من ناحية ثانية. لقد حافظت النزعة الرياضية على قوتها طوال قرن ونصف وما زالت رغم الوهن الذي يعتريها خلال الأزمات الكبرى، بل كانت طوق النجاة للمدرسة التقليدية في تجديد قالبها النيوليبرالي الذي مكّنها من الاستمرار. وما زالت النزعة الرياضية، تتحكّم بمواضيع البحث الاقتصادي وأفضلياته، دافعة إلى الصدارة العناوين التي تُعنى بسلوك الوحدات الاقتصادية الصغرى (الاقتصاد الجزئي)، وإلى الصفوف الخلفية تلك المعنية بسلوك الوحدات الكبرى (الاقتصاد الكلي)، ونجحت على نحو مؤذٍ في العقود الأخيرة، بوضع أبحاث التنمية في بوتقة خاصّة معزولة.
لكنّ ظهور جون مينارد كينز في مطلع القرن العشرين بنظريته عن الطلب الكلّي الفعال وأهمية الإنفاق العام في مواجهة الأزمات، كان علامة فارقة ومؤثرة ووقتاً مستقطعاً في مسار الرأسمالية الكلاسيكية. استمدّ كينز حضوره القوي من الفشل المدويّ للأفكار التقليدية في تجنّب أزمة الثلاثينيات وفي تجاوزها، ومن متطلبات إعادة الإعمار الشاملة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
في مجال علم الاقتصاد لم تُقدّم شروح وافية لبعض ظواهره مثل التقلّبات والدورات الاقتصادية رغم مرور قرنين ونصف تقريباً على نشوء هذا العلم بثوبه الحديث ويُعزى ذلك إلى جمود وانحرافات منهجيّة وفكرية ونقص في الجرأة بسبب سطوة المرجعيات المهيمنة وضخامة المصالح التي تعبّر عنها


استغرق الأمر أكثر من قرن من الزمن قبل أن تتراخى قليلاً قبضة الرؤية الجزئية عن الاقتصاد، فعادت العلاقة بينه وبين علم الاجتماع إلى البروز مجدّداً، على أيدي علماء وباحثين، ومن هؤلاء: جورج أكرلوف الذي اعتنى ببحث أثر التفاعلات الاجتماعية والمعايير الشخصية على السلوك الاقتصادي. وجيمس رونالد ستانفيلك الذي تغذّى من روافد فكريّة متعدّدة، مثل أعمال فبلين وكارل بولانيي وجون كينيث غالبريث وبول سويزي وتوماس كون وبول باران.
تضمّنت أفكار أكرلوف آراء تعود إلى مرحلة ما قبل الثورة الحديّة والرياضية في الاقتصاد، ومنها: اتجاه الفائض الاقتصادي إلى التزايد والتركّز في الاقتصاد الكلاسيكي الحرّ، والتدمير الخلاق في الرأسمالية التي تفرض على الناس تغيير بيئاتهم والاجتماعية لمصلحة الإنتاج، وبروز الطلب الاجتماعي على سياسات غرضها حماية الأمم من الاتجاهات التدميرية للرأسمالية (العيسوي؛ 209؛ 2019).
لقد كانت الشرور الناتجة من سوء توزيع الدخل والثروة، وتهافت المبادئ التي قامت عليها النزعة الاستهلاكية، هي المعادل الموضوعي لسطوة النماذج العلمية المرجعيّة، ما أعطى فرصة جديدة لانبعاث الأفكار الاقتصادية التي بقيت طيّ الكتمان مدة طويلة من الزمن، فاستعادت المقاربات الأخلاقية والاجتماعية حقّها في الوجود على منصّة الفكر الاقتصادي.

«اقتصادنا»
ونستمدّ مثالنا الثاني عن العقبات التي تحول من دون نمو أطروحات اقتصادية جديدة، من نطاق معرفي ليس ببعيد. هنا سنتطرق إلى الثورة المنهجية التي أحدثها العلامة الشهيد السيد محمد باقر الصدر في كتابه الرائد «اقتصادنا». والثورة هنا مزدوجة في الفكرين الاقتصادي والديني. لقد استعان الشهيد الصدر بأدوات تحليل واجتهاد متنوعة في بناء نظرية اقتصادية متناسقة، لكنه اعتمد القطع المنهجي بين المجال الفقهي ومجال بناء النظرية، ما جنّب هذه الأخيرة مغبّة الخضوع للمعايير الصارمة التي تُعتمد في استنباط الأحكام. فالنظرية بطبيعتها ظنيّة ومتغيّرة ومرنة عند التطبيق وخاضعة للتبدل مع تطوّر العلوم الأخرى. والغرض الأساسي من وجود نظرية إسلامية هو التعمّق بفهم مدلولات الدين ومنطوياته في سياقات نسبية لا تتعلق بالتكاليف والأحكام، فتسعى إلى فهم وظيفة الدين في الحياة البشرية، وتحليل دور الفرد والمجتمع داخل المنظومة الدينية. وفي مقابل ذلك يبحث الاجتهاد الفقهي عن حقيقة شرعية ثابتة في مسائل متفرقة تمسّ السلوك اليومي للناس.
إن القطع المنهجي الذي اعتمده الشهيد الصدر ما بين حقلَي الفقه والنظرية كان مجرد بداية، لو استكملت لأوصلت ربما إلى تطوير قواعد الاجتهاد الفقهي نفسه، وهذا لم يحصل. إن تطويراً من هذا النوع لا بدّ أن يرتوي من معين ثورة منهجية تقوم على أمرين: أولهما فتح الأبواب الموصدة بين علوم الإسلام: الفقه والأخلاق والكلام والعقيدة... وتوسيع معنى الاجتهاد ليشملها جميعاً. وثانيهما النظر إلى الدين على أنه أوسع من النص، تبعاً لما يؤدّيه العرف والفطرة والسيرة التاريخية للأنبياء والرسل والأئمة من أدوار مهمة فيه، ولأن العقل ذو حضور قوي في مجال الاجتهاد، فهو من أدلّة الاستنباط المعتبرة، ومن محدّدات الاتجاه العام للتشريع.
نتحدث عن الإسلام لا بوصفه ديناً سماوياً فحسب، بل لأنّ النظريات المأخوذة منه تعطي مساحة واسعة للعدالة وقيمها من زاويتين أخلاقية وعلميّة. لقد تلاقت العقلانية التاريخية مع الليبرالية الكلاسيكية في ربط القيم العليا بما فيها العدالة إما بالحتمية التاريخية أو الاجتماعية، أو ببحث الإنسان عن المتعة واللذّة. لكن العلاقة بين الأخلاق والمبادئ الاقتصادية تأخذ طابعاً عميقاً ومعقداً أكثر في الإسلام. الأخلاق ذات مصدر إلهي متسامٍ، وبذلك هي أعلى من التعاقد الاجتماعي وأكثر رسوخاً مما هي عليه في المذهب الطبيعي، وغير منقادة كذلك للعقلانية التاريخية والجدلية والأداتية التي بشرت بها الحداثة. وبقول آخر، إن العدالة في الإسلام هي ذات مصدر أخلاقي نابع من إرادة الإنسان وأكثر ثباتاً من قوانين السوق وقوانين التاريخ في آن معاً، لكنها تأخذ بعين الاعتبار الحقائق العلمية الفطرية والنفسية والسلوكية والاجتماعية في اعترافها بالملكية الفردية، وإيمانها كذلك بالتوزيع العادل الذي لا يعطّل النمو، لكنها تعطي الأولوية للعدالة في توزيع الثروات المادية والطبيعية والبشريّة على العدالة في توزيع مخرجاته والدخل الناتج منه.
هذه الثورة العلمية، التي قدّمت إضافة إلى الفكر الديني بنقله إلى حقل النظرية، وإلى الفكر الاقتصادي بجعل الأخلاق الدينية بعداً من أبعاده، لم يقيّض لها الاستمرار بفعل قوّة النماذج المسيطرة، في الجانبين الديني والوضعي. لقد قاومت معاهد العلوم الدينية محاولات التطوير المنهجي عند الشهيد الصدر، فبقيت متمسّكة بمقتضيات الاجتهاد التقليدي الفردي القائم على التدقيق في النصوص، من دون الغوص في عالم النظريّة الواسع، وفيما ارتضت المجمّعات العلمية الوضعيّة إعطاء فسحة لبعض التطبيقات الاقتصادية المرتبطة بالدين (مثل المصارف اللاربوية ومحاسبة الزكاة)، فإنها أهملت عن عمد الإضافات النظرية المستمدّة من الفكر الديني ولم تعترف بها، بزعم أنّ مصادر المعرفة فيه مختلفة تماماً عن مصادرها في العلوم الوضعيّة، وبدعوى أن الأخلاق الدينية تلهم دوافع الخير عند الناس في المساحات الواقعة خارج السوق.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا