في ظل السقوط الحرّ الذي يعيشه اللبنانيون، يصبح ملحّاً السؤال حول تخفيف حدّة تبعات هذا السقوط عن الطبقات الفقيرة والمتوسطة. فهل يكون الأمر محصوراً بالمؤشّرات الاقتصادية التقليدية، أم أن هنالك مؤشرات أخرى لم يجر التطرق إليها بجدية رغم أنها تمنح الدولة أدوات فاعلة وكفوءة؟ يقيس الاقتصاديون، منذ ثمانينيات القرن العشرين، تطوّر الاقتصاد بالاستناد إلى قواعد سميث وكينز التي سيطرت على القرنين التاسع عشر والعشرين، إلا أنه مع سيطرة النيوليبرالية والعولمة برزت الإشارة، في أدبيات البحث الاقتصادي، إلى دور المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم كمؤشّر لمناخ الأعمال وصحته وكفاءة الاقتصاد وقوّة التنمية الاقتصادية. وجرى التركيز على تحويل هذه الجهود إلى وصفة للبلدان النامية. هذا هو النوع من المؤشرات الذي يفترض خوض النقاش فيه.
في سياق تفكيك القطاع العام
إذاً، لماذا عزّزت النيوليبرالية التوجّه النظري نحو دراسة دور المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم؟
ظاهرياً، تكمن الإجابة في اتجاه النيوليبرالية نحو ترشيق ظروف العمل ورفع كفاءته. بحسب لودوفيكا سافلوفشي ونيكوليتا روبو، في دراسة بعنوان «دور المؤسّسات الصغيرة والمتوسطة في الاقتصاد الحديث»، فإنه في ظل ظروف البيئة الاقتصادية الدائمة التغيّر، تتمتّع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بالمرونة، ولديها قدرة كبيرة على التكيّف بسبب الأبعاد الإدارية المتقاربة التي تسمح بعملية اتخاذ قرار سريعة. يسمح لها هذا الأمر بأن تنسجم بسهولة مع متطلّبات المستهلكين، لتكون أقرب إلى التفاعل مع اتجاهات السوق، فضلاً عن أنها تنجز الأعمال بأكلاف أقلّ من المؤسّسات الكبرى بسبب انخفاض النفقات التقليدية وزيادة إنتاجية العمل في ظل ظروف التواجد الدائم لصاحب الأعمال في الشركة.
ورغم أن هذا التشخيص قريب إلى الواقع، إلاّ أن السبب الرئيسي لتركيز النيوليبرالية على المؤسّسات الصغيرة والمتوسطة الحجم، يعود إلى التأطير النظري للتعامل مع سقوط الاتحاد السوفياتي ومعه الكتلة الشرقية. فقد شكّل التنظير لأهمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم، مدماكاً أساسياً لتفكيك مؤسّسات القطاع العام في الأنظمة الشيوعية السابقة في أوروبا الوسطى والشرقية. هذه النقطة بالتحديد شدّد عليها ميلفورد بِيْتمان في ورقة بعنوان «النيوليبرالية وتنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة». فأشار إلى أن سياسة الانتقال من الاقتصاد الشيوعي إلى الرأسمالي في دول الكتلة الشرقية، كانت بمثابة «التجربة النموذجية» لخطاب النيوليبرالية الذي حلّ بدلاً من الكينزي على اعتبار أنه البديل الوحيد الممكن والمنطقي «للنظام الاقتصادي الشيوعي ذي التخطيط المركزي وغير الفعّال للغاية». رسم هذا الخطاب عملية تفتيت وحدات الإنتاج الكبيرة التابعة للدولة في هذه الأنظمة وآليات تحويلها إلى مؤسّسات صغيرة ومتوسطة الحجم. بمعنى آخر استُخدمت أهميّة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم في سياق تفكيك مؤسّسات القطاع العام المنتجة وخصخصتها.
في اعتقاد بِيْتمان، إن هذا الانتقال تزامن مع منع أي دور نشط للدولة وللتدخلات السياسية في صياغة سياسات توجيه للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. فقد فرضت المؤسّسات الدولية التي حدّدت سياسة الانتقال النيوليبرالية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بشكل أساسي)، طريقاً أوحدَ ورفضت النقاش في وجود «طريق ثالث» بين الشيوعية والرأسمالية. وهي بذلك، قضت على كل درجات وأشكال تدخّل الدولة المركزي والمحلّي على خلفية علاقات السوق الاقتصادية. لذا، فإن ما حصل فعلاً في عملية التحوّل في الكتلة الشرقية السابقة، هو أن جزءاً كبيراً من التطوّر في قطاع المؤسّسات الصغيرة والمتوسطة كان ضحلاً ومخادعاً. فغالبية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الجديدة كانت نتيجة تفكّك مؤسّسات حكومية أكبر غير فعّالة. وبالتالي، لم تضف هذه المؤسسات أي قيمة إلى الاقتصادات المحلية، بل استبدلت، في أحسن الأحوال، القيمة المضافة في الاقتصاد للمؤسسات التي فُكّكت، بينما العديد من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة لم تكن سوى تعبير عن تحوّلات من القطاع غير الرسمي (الذي أصبح في العديد من اقتصادات وسط وشرق أوروبا سمة رئيسية في الثمانينيات) إلى قطاع خاص رسمي.
وفي مقابل استغلال النيوليبراليين للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم في خطابهم، توجد أسس حقيقية لأهميتها في الاقتصادات الرأسمالية. لكن ليس كما هم نظّروا. يعرّف البنك الدولي المؤسسات الصغيرة والمتوسطة انطلاقاً من حجم أعمالها الذي لا يتجاوز 250 أجيراً. وبحسب بِيْتمان فإن تدخل الدولة قد لعب دوراً محورياً في نجاح دور المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم لعدد من البلدان كاليابان وإيطاليا وألمانيا الغربية (بعد عام 1945) واقتصادات «نمور آسيا» منذ الخمسينيات (خصوصاً تايوان) والصين منذ عام 1980.فأهمية قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة تظهر من خلال مساهماتها في العمالة والناتج المحلي. وتشير إحصاءات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إلى أن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة تسهم في أكثر من 55% من الناتج المحلي الإجمالي وأكثر من 65% من إجمالي العمالة في البلدان ذات الدخل المرتفع. وكذلك تمثّل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والمؤسسات غير الرسمية أكثر من 60% من الناتج المحلي الإجمالي وأكثر من 70% من إجمالي العمالة في البلدان المنخفضة الدخل، بينما تسهم بأكثر من 95٪ من إجمالي العمالة ونحو 70% من إجمالي الناتج المحلي في البلدان المتوسطة الدخل. أما إحصاءات البنك الدولي، فتشير إلى أن قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم يسهم في خلق 58% من القيمة المضافة في الاقتصادات المحليّة.
في الواقع، تمثّل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة عامل توازن على مستوى الاقتصاد الجزئي والكلّي. ففي ظل مساهمتها الكبيرة في العمالة والناتج المحلي الإجمالي، تشكّل مقياساً أساسياً لوجود الطبقة الوسطى في المجتمع، فضلاً عن أنها عامل أساسي في موازنة الاحتكارات والحدّ من احتكار القلة، ما يسهم في الحدّ من سيطرة المؤسسات الكبرى على السوق. لذا يكتسب تدخّل الدولة في نموّ هذا القطاع وتأطيره دوراً محورياً في صناعة السياسات الاقتصادية الكلية، لا بل يمكن توصيفه بأنه يقع في صلب الاقتصاد السياسي الحديث.
إذا تُرك قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة من دون دعم وتدخل من الدولة، كما يُنظّر النيوليبراليون، سيتقلّص حجمه. أوضح الأمثلة على هذا الاتجاه، تقلّص حجم القطاع في الولايات المتحدة منذ منتصف التسعينيات. شكّل هذا التطوّر إحدى أهم نقاط النقاش الاقتصادي هناك منذ عقد ونيف بسبب تقلّص الحصّة السوقية للقطاع بنسبة الخمس تقريباً بين عامَي 1997 و2012. ففي المقابل، ازداد تركّز الحصّة السوقية في يد حفنة صغيرة من المؤسسات الكبرى، كما ورد في تقرير لستايسي ميتشل بعنوان «قوة الاحتكار وتراجع الأعمال الصغيرة«. ذريعة النيوليبراليين لتبرير هذا الاتجاه هي نفسها الحجّة المقدمة إبان تفكّك الاتحاد السوفياتي: البحث عن عوامل الفعاليّة الأعلى وتوفير الأكلاف والمرونة في بيئة الأعمال. ولكن اليوم المؤسسات الكبرى هي التي تؤمّن لهم هذه العوامل. لذا، عندما يتحدّثون عن دعم قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة يقصدون، عادة، دعم مؤسّسات الريادة التكنولوجية.
لمن كان يذهب الدعم في لبنان؟
هذا ما حصل في لبنان فعلاً. ففي العقدين الماضيين تمّ التركيز على رسم سياسات لقطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم من باب حصره بريادة التكنولوجيا. من خلال هذا المنظور، جاءت رؤية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم متطابقة مع سياسات الدولة اللبنانية تجاه الاقتصاد الكليّ بعد عام 1992. فقد جرى التركيز على نفخ حجم قطاع الخدمات (ولا سيما المالية) على حساب باقي القطاعات. ورغم استمرار المؤسّسات الصغيرة والمتوسطة الحجم بالعمل (سواء بشكل نظامي أو غير نظامي) إلاّ أنّها فقدت حصّتها السوقية تدريجاً، حتى في قطاع الخدمات غير المالية (كالبيع بالتجزئة والمؤسسات السياحية الصغيرة). وتبيّن لهذه المؤسسات أنها باتت مضطرة للاستعانة بعمالة أرخص والقبول بحصص أصغر من سلاسل القيمة في السوق للاستمرار.
في المقابل لم تلتفت الدولة إلى وضع هذه المؤسسات والمصاعب التي تواجهها في القطاعات التي تعمل ضمنها، ولم نر أي سياسة واضحة لدعمها. صحيح أن مصرف لبنان أطلق مجموعة من المبادرات لدعم الريادة في التكنولوجيا كالتعميم رقم 331 الذي خصّص 300 مليون دولار على شكل ضمانات قروض لقطاع ريادة التكنولوجيا (هل هنالك من سأل ماذا حلّ بالأموال وأين هو عائد الاستثمارات؟)، أو لدعم إنشاء مشاريع صغيرة ومتوسطة الحجم على شكل مشروع «كفالات» الذي يتضمن شروط إقراض تحرف أهدافه عن الغاية الاقتصادية، ومن دون أن توضح معايير منح القروض وحقيقة قدرة المقترضين على السداد في ظل الفوائد المرتفعة والشروط الصعبة. عملياً، تُركت المؤسسات الصغيرة والمتوسطة لتتدبّر أمورها بنفسها من دون أي دعم حقيقي يأخذ في الاعتبار تأثير القطاع على بنية الطبقات الاقتصادية والاجتماعية في لبنان وعلى الاقتصاد الكلي والجزئي.
تمثّل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة عامل توازن على مستوى الاقتصاد الجزئي والكلّي. ففي ظل مساهمتها الكبيرة في العمالة والناتج المحلي الإجمالي، تشكّل مقياساً أساسياً لوجود الطبقة الوسطى في المجتمع، فضلاً عن أنها عامل أساسي في موازنة الاحتكارات والحدّ من احتكار القلة، ما يسهم في الحدّ من سيطرة المؤسسات الكبرى على السوق


اليوم بعد سنة كاملة على انطلاق الاحتجاجات وانكشاف هشاشة المنظومة الاقتصادية اللبنانية والانهيار الذي رافقه، لم نرَ أي جهود حقيقية لنقاش أهمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم في عملية تصحيح بعض الاختلالات التي حلّت بالبنية الاقتصادية-الاجتماعية في لبنان، وكيفية استخدام هذا القطاع كأداة للتخفيف من التبعات الكارثية للانهيار على اللبنانيين. وهذا أَضعف الإيمان، إذ لا بدّ من أن تُضمّن الأطراف، التي طرحت خططاً في الفضاء العام اليوم، فصولاً في خططها لفتح النقاش حول السياسات التي يجب أن تُتّبع لتنشيط قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة واستعمالها كأداة أساسية في الاقتصاد السياسي، بالأخص إذا أرادت أن تؤخذ على محمل الجدّ.
في ظلّ كل هذا الإهمال، برز الأسبوع قبل الماضي خبر إطلاق حزب الله عبر مؤسّستَي «جهاد البناء» و«القرض الحسن» مشروعاً لمنح قروض ميسّرة للأفراد والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم ضمن قطاعَي الصناعة والزراعة. يوازي حجم المشروع الـ20 مليون دولار تُدفع بالليرة اللبنانية (أي ما يفوق الـ160 مليار ليرة لبنانية)، وهذا مبلغ أكبر من موازنة وزارات الزراعة والصناعة والاقتصاد مجتمعة، ويساوي 20% مما قدّمه مشروع «كفالات» منذ انطلاقه إلى اليوم. فإذا أردنا الخروج من فقّاعة النقاشات التقنية، والدخول في الحديث عن الاقتصاد السياسي سنجد أن أحد أكثر الأطراف التي اتُّهمت بالجهل الاقتصادي والمالي (هل هذا حقيقي فعلاً؟) بدأ بتنفيذ أجندة اقتصاد سياسي من المكان الأكثر تأثيراً في البنية الاقتصادية - الاجتماعية، بينما الدولة لامبالية والأطراف الباقية غارقة في ترف النقاش المالي (لا الاقتصادي) حول كيفية الوصول إلى تحرير الودائع، الكبيرة قبل الصغيرة.
حتى وإن كان حجم المشروع إلى الآن يوحي بأنّه موجّه إلى بيئة الحزب، فإن ذلك يفرض سؤالاً كبيراً على باقي اللبنانيين: كيف ستتعامل القوى السياسية والشعبية مع هذه المبادرة؟ هل سترى القوى اللبنانية الأخرى ضرورة لإطلاق مشاريعها الخاصة بها بهدف الحدّ من تبعات هذا المشروع السياسية ومنع تمدّده إلى داخل بيئاتها؟ أم أنّها ستبقى غارقة في محاولات اجتراح حلول لإعادة إطلاق قطاع المصارف وتحرير الودائع، بينما تكتفي بتمرير المساعدات إلى بيئاتها اللصيقة؟ أم أن القوى السياسية المتنوّعة ستتنبه إلى ضرورة الحدّ من معاناة الطبقات الاقتصادية والاجتماعية الأضعف وستطلق حواراً وتتفق على مشروع اقتصادي موحّد يُنفّذ عبر الدولة ويكون لبنة أساسية في نموذج اقتصادي جديد منتج وصحي؟ السيناريو الأرجح هو أن بقية القوى لن ترى ضرورة لإطلاق مشاريع خاصة بها ترفع بعض المعاناة عن كاهل اللبنانيين، وذلك أن معظمها يلمّح منذ الآن إلى أن الحلّ الأمثل لمعاناة مئات الآلاف، هو الهجرة للتخلّص من العوز واستبدال أبنائهم بتحويلات مالية بالدولار ستصبّ مباشرة في مشروع إحياء المصارف. ففي هذا الوقت، وفيما يبحث آلاف اللبنانيين عن طرق للهجرة، ستشهد الأشهر المقبلة ولادة المزيد من الجمعيات التي تستفيد من تمويل دولي لتوزّع بطاقات مساعدات على معظم اللبنانيين.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا