يستحوذ «الأمن الغذائي» على انتباه كبير في هذه الأيام. الدعوة إلى خوض هذه المعركة توازي المعركة ضدّ العدو الإسرائيلي. بمجرّد السعي لتحقيق استراتيجية كهذه لمواجهة الجوع في مرحلة حرجة جداً من عمر لبنان، يغطّي حاجة أساسية للبيئة الحاضنة للمقاومة ويحفّز صمودها. فالأمن الغذائي يُعدّ شرطاً أساسياً للاستمرار عندما تتعرّض البلاد لحصار جائر أو لاجتياح. من المعترف فيه عبر التاريخ أن الشعوب لا يمكن أن تصمد، ولا يمكن لجيوشها أن تدافع عن الأوطان، إذا لم تكن البيئة الحاضنة لها مستندة إلى مخزون غذائي كافٍ يحميها من جائحة الجوع. ولنا في صمود إيران في مواجهة الحصار أبلغ دليل، لكن الدعوة إلى خوض معركة الأمن الغذائي تثير السؤال الآتي: هل يحمل النداء الذي أطلقه السيد نصرالله في خطابه الأخير، نصراً على جبهة الغذاء؟
فشل عربي
عربياً، لبنان ليس البلد الوحيد الذي يواجه حالة العجز الغذائي هذه. غالبية البلدان العربية والعريقة في إنتاج الغذاء والتي كانت تصدّر الفائض منه إلى الخارج، هي الآن رهينة الخارج في تأمين غذائها.
أرض بلاد ما بين النهرين كانت تنتج ما يكفي لإطعام ثلاثين مليوناً في عصر هارون الرشيد. لكن أراضيها وسهول المسيب الكبير تتحوّل اليوم إلى أراض جرداء قاحلة بسبب ارتفاع نسبة الملوحة في تربتها. وقطعان الماشية التي كانت تملأ المراعي بين دجلة والفرات ذهبت إلى غير رجعة. كانت غابات النخيل (نحو ثلاثين مليون نخلة) تحتلّ سهول البصرة لكن عددها انخفض اليوم إلى نحو الثلث.
ومصر التي كانت تنتج القمح في عصر الفراعنة تستورد حالياً 80% من حاجاتها للرغيف. والجزائر التي تمتلك سهولاً شاسعة بين عنابة ووهران تزيد مساحتها على مساحة فرنسا، صارت تستورد الجزء الأكبر من قمحها من المستعمر القديم. ولبنان الذي كان قمح بقاعه يملأ أهراءات روما بات اليوم على حافة الجوع.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

أما السودان الذي اختاره العرب ذات يوم مزرعة كبيرة تمدّهم بالقمح واللحم والحليب فقد بات اليوم غير قادر على تأمين الغذاء لسكانه.
كل العرب من تطوان في أقصى المغرب إلى المنامة شرقاً عاجزون عن تأمين الطعام لشعوبهم. ومعظمهم أخفقوا في تحقيق الأمن الغذائي، والاكتفاء الذاتي في أوطانهم. كما أخفقوا في مواجهة عدوهم. وقد يأتي يوم يتوسل بعض المطبّعين منهم، أن تمدّهم إسرائيل بشاة من غنم العواسي أو بعنزة شامية، أو أن تحنّ عليهم بحفنة قمح تنتجها سهول بيسان ومرج ابن عامر أو النقب الذي ترويه مياه نهر الأردن التي سطت عليها منذ ستين عاماً.

إلى الحقول بلا سلاح
من موقعي مهندساً زراعياً أمضى نصف قرن من حياته العملية مشرفاً على مشاريع ري، وباحثاً وخبيراً محلّفاً ومشاركاً في عملية الإنتاج، لا بدّ من المصارحة بالواقع. فهذه الدعوة دونها معوقات رغم تلبيتها من كثر سيتّجهون إلى الحقول من دون أسلحة. السلاح الوحيد المتوفر هو اليد العاملة، وهذا وحده لا ينتج قمحاً ما لم ترافقه عناصر الإنتاج الأخرى. فالأرض التي دمّرها الإهمال وقضى على خصوبتها، لا تنتج غذاء ما لم تتوفر لها عناصر أخرى مكمّلة.
أكتفي بتعداد بعض المعوقات:
- غياب الفلاحين وسائر العاملين في الزراعة البعليّة، وهما عنصران أساسيان من عناصر الإنتاج الزراعي. فمن أصل 21 ألف حيازة زراعية ناشطة أحصيت في دراسة أُعدّت لمشروع الجنوب الذي تروي مياهه أرض خمسة أقضية من أصل سبعة، انخفض عددها الآن إلى خمسة آلاف مزرعة غالبيتها تعمل في زراعة التبغ المدعومة والتي لا تدخل عملياً في سلّة الغذاء. في الدوير على سبيل المثال، كان عدد الحيازات في أواسط السبعينيات من القرن الماضي نحو 450 حيازة تزرع كل شيء إلى جانب التبغ، وكان عدد الفلاحين والعاملين في الزراعة يفوق الألفين من بينهم رجل دين كان بيدره يعدّ الثاني بين البيادر في موسم دراسة الغلّة، فضلاً عن أنه كان نحّالاً مميزاً لديه منحل يفوق عدد قفاره الخمسين. أما اليوم فقد انخفض عدد الحيازات الزراعية إلى أربع فقط، اثنتان تُمارَس فيهما زراعة التبغ وهي تتابع زراعة القمح بهدف تحويله إلى برغل يباع للعائلات التي نزحت إلى بيروت.
كذلك كان في هذه البلدة قطعان أبقار يفوق عدد رؤوسها الألفين، ومن بين مربي الأبقار رجل الدين الذي كان يقتني بقرتين للحصول على حليبهما. كما كان في القرية أربعة قطعان ماعز، وقطيع غنم يغطي حليبها حاجات القرية بينما يباع الفائض منه إلى الخارج.
- تدهور بنية التربة وضعف خصوبتها بعدما أتت عليها شتلة التبغ التي احتلتها بالتزامن مع احتلال إسرائيل لأرض فاسطين ودام احتلالها عدّة عقود من الزمن. وما أسهم في تدهور خصوبة التربة عدم اتباع دورة زراعية قائمة على تعاقب الزراعات – ROTATION DES CULTURED - بينما كانت تتبع سابقاً الدورة الثنائية – ROTATION BIENNAL.
- أسهم استعمال الجرّار الزراعي في فلاحة الارض، في اعتماد الفلاحة العميقة بسكّة الجرار التي تغوص إلى أعماق تصل إلى 40 سنتيمتراً، ما يسهم في تسهيل تسرّب المياه من سطح الأرض القريبة من جذور النبات إلى جوفها. سابقاً كانت الفلاحة تعتمد على سكّة الفدّان التي لا يتجاوز عمق أثلامها ما بين 10 و15 سنتيمتراً بشكل يسمح لخزان المياه الجوفي أن يبقى بمتناول الجذور.
- خلل في التوازن الطبيعي القائم على ثنائية «حيوان – نبات»، فإذا غاب أحدهما تسبّب غيابه بتراجع الآخر. فالحيوان بما يضيفه إلى التربة من روث، ومروره المتتالي على المرعى، وأسلوب قضمه للعشب كل ذلك عامل أساسي مؤثّر في خصوبة التربة ونمو الغطاء النباتي عليها.
- غياب شبه كامل للحشرات المجنّحة من نحل وفراشات وذباب وهي مسؤولة عن 82% من عمليات التلقيح. فلا ينتظر الفلاحون أن يُعقد الزهر في كلّ المزروعات من بقوليات وقرنيات وأشجّار مثمرة إذا غابت هذه الحيوانات المجنّحة عن حقولهم للقيام بعملية التلقيح – POLLENISATION – بل يشتكي اليوم معظم مزارعي الكوسى والبندورة واللوزيات من أن محاصيلهم لا تزهر بكثافة ولا تنتج منها ثمار موازية لكمية الزهر.

زراعة بلا ريّ
تعتمد الزراعة الحديثة المنتجة للغذاء بشكل أساسي على الري. فالزراعة البعليّة لم تكن يوماً كافية لتحقيق الاكتفاء الذاتي، لذلك إسهاماً منها في زيادة ورفع إنتاجية الأرض لجأت غالبية الدول إلى بناء السدود على الأنهر لجمع المياه واستخدامها في ري الأراضي لتحصل على حاجاتها من الغذاء. الري بحدّ ذاته يرفع إنتاجية الأرض من خمسة إلى ستة أضعاف ما تعطيه الأرض البعلية.
ففي المغرب مثلاً وصل عدد السدود فيها إلى 600 سدّ، ويطرح الملك خطّة بناء سدّ إضافي كل عام. كما بَنَت مصر سدّها العالي منذ أكثر من نصف قرن، وبحيرته تتسع لأكثر من 125 مليار متر مكعب تكفي لري أراضي وادي النيل كلها. وبفضل مياه السدّ تنتج مصر كل حاجاتها من الأرز والذرة والبطاطا وقصب السكر وما يكفي من القطن الذي يصدّر إلى الخارج ليكفي حاجات مصر من القمح، ولو كان لديها مساحات إضافية لكان بإمكانها إنتاجه محلياً.
كذلك بَنَت سوريا سدّها الـ61 بعد الـ100، و كان آخرها سدّ باسل الاسد الذي أقامته أخيراً على نهر العاصي وأنشأت عليه 13 سداً. ويروي نهر الفرات وحده مساحة تقارب ثلثي مساحة لبنان. وهي حققت بذلك اكتفاءها الذاتي الذي يحميها من الحصار الذي مورس عليها أخيراً.
أما في لبنان فيقتصر عدد السدود على سدّ القرعون وعدد آخر من السدود الصغيرة التي لا تزيد على أصابع اليد الواحدة.
ما يهمنا في هذا العرض، هو وصول مياه الليطاني إلى أرض الجنوب التي انتظرته 69 عاماً ونيفاً إلى أن باشرت مصلحة الليطاني بتنفيذ المرحلة الأولى منه وهو يحتوي على تنفيذ الناقل 800 متر الذي يمرّ بتلّ النحاس، وصولاً إلى برعشيت ناقلاً كمية من المياه تُقدر بنحو 120 مليون متر مكعب لري الأراضي الواقعة جنوب الليطاني.
ويبقى تنفيذ المرحلة الثانية من المشروع التي تتضمن تنفيذ الشبكات وأقنية التوزيع. وإذا ساءت الأحوال الأمنيّة وتأخّر تنفيذ هذه المرحلة سنين طويلة، ستستمرّ مياه الليطاني في مجراها الطبيعي لتصب في البحر تحت جسر القاسمية، وهذا ما يوفر لإسرائيل الذرائع لإقدامها على خطوة السطو الثانية على مياه الليطاني الآتية إلى حدودها عبر القناة 800 كما سبق ونفّذت بناء النفق الأرضي في أواسط الثمانينيات لسحب المياه بالجاذبية عبر النفق الذي يربط بين نقطة أسفل جسر الخردلي على المنسوب (240 متراً) إلى نقطة قريبة من جسر بنات يعقوب في سهل الحولة على المنسوب 160 متراً. هذا النفق يتيح لها الحصول على كمية من مياه النهر يُقدّر حجمها بنحو 150 مليون متر مكعب، ويضاف إلى هذه الكمية ما يمكن أن تحصل عليه من المياه المنقولة عبر القناة 800 والذي يقدّر بنحو 120 مليون متر مكعب.
الإهمال دمّر الأرض وقضى على خصوبة تربتها، ولا يمكن أن تنتج غذاء من دون أن تتوافر عناصر أخرى مكمّلة للسلاح الوحيد المتوافر اليوم وهو اليد العاملة


إن تنفيذ الجزء الأخير من عملية السطو الأولى يتطلّب فقط بناء جدار (BATARDEAU) في عرض النهر تحت جسر الخردلي، كما تحتاج عملية السطو على القناة 800 متر إلى فتح المأخذ عبر مدخل نفق يحمر. لكن عين المقاومة الساهرة على الحدود منعتها من تحقيق خطة بناء الجدار في عرض النهر وستمنعها من السطو على مياه القناة في موقع تلّ النحاس، إلا أنه في كلتا الحالتين ستتابع مياه الليطاني جريانها نحو البحر.
عملياً، لا جدوى ملموسة نسبياً من زراعة الأرض البعلية، إذ لا مردود لها ما لم تصل إليها مياه الري. إن وصول مياه الليطاني إلى مآخذ المزارعين في البقاع الغربي والجنوب يحتاج إلى وقت طويل.
- غياب الإرشاد الزراعي وتوقف الزيارات الميدانية للمرشدين الزراعيين الذين كانوا يقدّمون النصائح للمزارعين ولمربي قطعان الماشية وتعريفهم إلى الأساليب الحديثة المستعملة في تخصيب الأرض، واستعمال المبيدات والوسائل الأخرى المؤدية إلى رفع وزيادة الإنتاج الزراعي من محاصيل الحبوب أو رفع إنتاجية الإناث في قطعان الماشية من الحليب والزبدة واللحم. كما حصل توقف شبه كامل لأعمال البحث العلمي في محطات التجارب المؤدّية إلى إنتاج بذور أفضل أو ذكور مؤصّلة لتعميم النتائج على المزارعين ومربي الماشية.
- غياب التسليف الزراعي بعد توقف بنك التسليف الزراعي عن العمل منذ ما يزيد على ثلاثين عاماً.
- تحوّل الأرض إلى ملاذ آمن تلجأ إليه رؤوس الأموال المحقّقة في الاقتصاد الريعي لجني أرباح عالية من عمليات تبادلها كسلعة في السوق العقارية بدلاً من استخدامها لإنتاج الغذاء.
إن شروط نجاح الدعوة تفترض وجود كل هذه العناصر. فاليد العاملة والرغبة الشديدة في العودة إلى الأرض هما عنصران مهمّان في العملية الإنتاجية، لكن الفوز في معركة سدّ فجوة الغذاء ومحاربة الجوع يحتاج إلى أسلحة أخرى غير متوافرة في قطاع الزراعة الآن.

* مهندس زراعي