أثارت مبادرة الحزام والطريق الصينية اهتماماً صينياً أكاديمياً واقتصادياً وسياسياً. يمكن تفسير الاهتمام المبكر من الباحثين بأنّ الصينيين ربطوا مبادرتهم بطريق الحرير التاريخيّة. أمّا الانجذاب الأكاديمي السريع لدراسة المبادرة، فقد انبثق من عاملين: الازدهار الذي انعكس على مجتمعات طريق الحرير القديم، وعلاقة ضمور طريق الحرير بصعود الرأسمالية الغربية.
الإحياء المؤقت والموت الحتمي
يمكن تقسيم فترات قمّة الازدهار التجاري على طريق الحرير القديم إلى ثلاث، علماً بأن قمة الازدهار حين أصبحت التجارة على الممرات البرية والبحرية لطريق الحرير عابرة للقارات. المرحلة الأولى منها جاءت في ظلّ حكم سلالة «هان» للإمبراطورية الصينية ووجود الإمبراطورية الرومانية على المنفذ الغربي لطريق الحرير. أمّا المرحلة الثانية فكانت خلال فترة حكم سلالة «تانغ» للإمبراطورية الصينية التي تزامنت مع فترة أوج قوة الخلافة العباسية. والمرحلة الثالثة كانت مرحلة «السلم المغولي»، أي مرحلة التمدّد الأوسع للإمبراطورية المغولية. وهذه الأخيرة كانت الأكثر ازدهاراً، وهي التي تهمّنا اليوم.
كان التوسّع المغولي قد ألحق دماراً هائلاً بالبنى التحتية والمدن على امتداد ممرات طريق الحرير البرية في بدايات القرن الثالث عشر. لكن في منتصف القرن عادت التجارة على «الطريق» لتزدهر وتتوسع إلى مستوى غير مسبوق، كما يقول ستيفان باريسيتز في كتابه «وسط آسيا وطريق الحرير». فقد تمكّن المغول بواسطة سيطرتهم الأمنية والسياسية، من تأمين الممرات التجارية. ومن خلال توظيفهم لنظام البريد الإمبراطوري الخاص بهم («يام») في التجارة، تمكّنوا من تسريع تنقّل القوافل التجارية على طريق الحرير. فأصبح بإمكان القافلة التجارية السفر من شرق أوكرانيا إلى الحدود الكورية في مدة تتراوح بين ستة أشهر وتسعة فقط تبعاً لنوع التسهيلات المغولية للقافلة. أدّى ذلك إلى انخفاض أكلاف سفر القوافل على طريق الحرير ما انعكس انخفاضاً لأسعار السلع المتّجهة من الشرق نحو الأسواق الأوروبيّة.

أركاديو اسكيفيل ــ كوستاريكا

هذه الفترة الزمنية بالتحديد، حملت بذور ضمور طريق الحرير واندثاره، كيف ذلك؟ الدمار الناتج من الاجتياحات المغولية قضى على مدن ومجتمعات وبنى تحتية تطوّرت على مدى قرون. وبالإضافة إلى التدمير الواسع، فقدت الصين ووسط آسيا وفارس وبلاد ما بين النهرين نحو ربع الكتلة السكانية عبر القتل الجماعي أو التهجير أو الاستعباد والترحيل إلى منغوليا وشمال الصين (كان الترحيل والاستعباد يطالان الحرفيين والصناعيين). كذلك أمعن المغول في تدمير الزراعة في تلك المناطق من أجل تحويل أراضيها الخصبة إلى مراعٍ لقطعان الخيول والماشية. ولولا تنبيهات المستشارين الصينيين لأوقطاي خان حول أهمية التجارة والزراعة والاستحصال على الضرائب منهما، لما توقّف المغول عن تدمير المساحات الزراعية، ولما أعادوا بناء المدن الرئيسية على طريق الحرير (لم تعُد تلك المدن إلى سابق عهدها من العمران والازدهار أبداً).
تبعات الدمار وضعت التجارة العابرة للقارات على طريق الحرير على مسار تعذّر عكسه. تعافي طريق الحرير وازدهاره العظيم من منتصف القرن الثالث عشر إلى منتصف القرن الرابع عشر لم يكن مستداماً. والنمو السكاني لم يكن بالمقدار الكافي لتعويض النقص السكاني الذي حلّ بالمناطق الحضرية. وفاقم هذا الأمر، ظهور الطاعون في التجمعات السكانية على ممرات طريق الحرير بعد أقل من قرن من الاجتياح المغولي. فقد نقلت الجيوش المغولية الموجودة في بورما، الطاعون إلى الصين ومنها إلى وسط آسيا عبر طريق الحرير، ومن هناك إلى أوروبا. وأحد شواهد الازدهار الكبير لطريق الحرير في حينه هو سرعة وصول الطاعون إلى غرب أوروبا، وذلك في أقل من عشر سنوات. وبسبب الطاعون، مجدّداً خسرت التجمّعات البشرية الحضرية على طريق الحرير أكثر من ربع الكتلة السكانية. هذا التناقص السكاني المتكرّر أفرغ مدن ومحطّات طريق الحرير من المزارعين والحرفيين القادرين على إعادة إعمار ما دمّره المغول خلال اجتياحهم، والقادرين أيضاً على دعم المدن والقوافل بالزراعة والطعام والأعلاف الرخيصة. فكانت النتيجة: عملية إعادة إعمار منقوصة، وازدهار تجاري يعتمد على الأمن والنقل السريع.
ومع تدهور الوضع السياسي في الإمبراطورية المغولية، وتساقط خاناتها الشرقية والوسطى في منتصف القرن الرابع عشر، انعدم الأمن على الممرات الشمالية لطريق الحرير (بالأخص وسط آسيا وفارس)، وأصبح تعطّل التجارة من خلالها أمراً اعتيادياً. وبحلول القرن السابع عشر كانت الممرات الشمالية قد اندثرت. ولكن الممرات الجنوبية لطريق الحرير، بالأخص البحرية منها عبر المحيط الهندي إلى الجزيرة العربية وجنوب فارس لم تنقطع. لا بل طوّر ورسّخ التجار المسلمون، خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر، شبكات تجارة من جنوب شرق آسيا إلى الهند والبحر الأحمر، لنقل سلع الصين وجنوب شرق آسيا (وأهمها التوابل) إلى المنفذ الغربي لطريق الحرير، بحسب هيرمان فان در ويي في بحثه «التغييرات الهيكلية في التجارة للمسافات الطويلة الأوروبية». *

احتكار التوابل وإشعال فتيل الاستكشاف الأطلسي
كانت مدينتا جنوى والبندقية، قد بسطتا نفوذهما على التجارة على المنفذ الغربي لطريق الحرير (تجارة شرق المتوسط) خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر. يقول فان در ويي، إن مركز سيطرة المدينتين التجاريتين الأساسي كان أسواق بيزنطيا. فكان المغول قد منحوا المدينتين حقوق السيطرة على مجموعة من المستعمرات في شمال البحر الأسود في شبه جزيرة القرم. وبسبب تفوّق المدينتين البحري وموقعهما الجغرافي المواتي، انتشرت شبكات تجار المدينتين من شرق المتوسط إلى بيزنطيا إلى جنوب ألمانيا وشمال فرنسا. وساهم هذا الاحتكار التجاري للمنفذ الغربي لطريق الحرير في خلق تراكم رأسمالي في المدينتين، ما دفع إلى تطوير القطاع المالي فيهما. ولكن مع انتصاف القرن الثالث عشر نجحت البندقية في السيطرة بشكل منفرد تقريباً على تجارة شرق المتوسط.
ومع تحوّل تجارة طريق الحرير إلى الممرات الجنوبية عبر البحر الأحمر وجنوب فارس إلى بلاد الشام ومصر، احتكرت البندقية تجارة طريق الحرير (بالأخص التوابل) مع أوروبا، نظراً لما كان للبندقية من شبكات واسعة من التجار في مدن سوريا ومصر الأساسية. وبحلول القرن الخامس عشر أصبحت البندقية دولة تجارية وبحرية كبرى، تسيطر على خطوط التجارة التي تربط شرق المتوسط بجنوب ألمانيا. وكذلك توسعت تجارة المدينة إلى الشواطئ الغربية للقارة، إلى أسواق انتويرب ولندن عبر الالتفاف إلى شمال الأطلسي.
وتشير مارلا ران فيليبس في بحثها «نمو وتكوين التجارة في الإمبراطوريات الأيبيرية، 1450-1750»*، إلى أن هذا الانتشار قلّص نفوذ مدينة جنوى التي حاولت تعويض خسائرها بواسطة اختراق الأسواق الإسبانية، غير أنها لم تتمكّن من الولوج إلى هذه الأسواق. عندها توجه الجنويون إلى البرتغال لتمويل رحلاتها الاستكشافية. والبرتغال كانت قد بدأت بالفعل منذ بدايات القرن الرابع عشر تستكشف الشواطئ الغربية لأفريقيا، حيث وصلت إلى مصادر ذهب غرب القارة. لكن الأهم من الوصول إلى الذهب هو اكتشاف مصادر غرب أفريقية للتوابل. وأهمية هذا الاكتشاف كانت تنبع من احتكار البندقية لتجارة التوابل الأوروبيّة.
وبنهاية القرن الخامس عشر كانت تجارة التوابل عبر شرق المتوسط (الممرات الجنوبية لطريق الحرير) تواجه مشاكل جمّة بسبب عدة عوامل مرتبطة بالتوسّع العثماني. أوّلها سقوط القسطنطينية ما أفقد البندقية مركزها التجاري الأهم في شرق المتوسط. وثانياً، حدّت الإمبراطورية العثمانية من نفوذ البندقية في شرق المتوسط من خلال حرب عام 1499. بالإضافة إلى ذلك أدّى سقوط مصر بيد العثمانيين عام 1517 إلى فقدان البندقية مصدراً مهمّاً للتوابل. فالسلاطين المماليك كانوا يحتكرون تجارة التوابل عبر أراضي الدولة، وأقصوا التجار من لعب دور أساسي ما أثّر على تجارة التوابل في مصر عند سقوط المماليك.
هناك تحوّل رأسمالي غربي سببه الموت البطيء للممرات الشمالية من طريق الحرير وسيطرة الأوروبيين على ممراته الجنوبية، واليوم هناك مشروع بديل لطرق التجارة العالمية الخاضعة للسيطرة البحرية الأميركية (سيطرة الإمبراطورية) يفتح أفق تحدّي الأسس التي بُنيت عليها هيمنة الرأسمالية الغربية


في مقابل كل هذه العوامل التي تضافرت على تدمير دور البندقية، كان البرتغاليون قد اكتشفوا الطريق حول رأس الرجاء الصالح ووصلوا إلى مدينة كاليكِت الهندية عام 1498، بفضل التمويل الجنوي للبعثات الاستكشافية البرتغالية. مع حلول عام 1527 خسرت البندقية نصيبها من تجارة التوابل الأوروبية، ما دفع المدينة إلى محاولة شراء احتكار ملك البرتغال لتجارة التوابل في أنتويرب (والمدينة كانت السوق الأساسي لبيع التوابل في أوروبا في حينه). وكان البرتغاليون قد استغلّوا طرق الملاحة التي كان قد افتتحها المسلمون للتجارة من المحيط الهندي إلى الأطلسي إلى أوروبا.
وفي الوقت نفسه كان الإسبان، في سعيهم لمنافسة جيرانهم البرتغاليين في الاستكشاف الأطلسي، يكتشفون مناجم الفضة ومخزون الذهب في العالم الجديد. وبحلول منتصف القرن السادس عشر كانت الفضة الإسبانية القادمة من أميركا الجنوبية محرّكاً للتجارة الأوروبية عبر المحيط الهندي. ويسرد باتريك أوبراين في مساهمته في موسوعة «تاريخ كامبريدج للرأسمالية» بعنوان «تشكّل الدول والانتقال إلى الاقتصاد الحديث»، أن الإسبان والبرتغاليين كانوا يشترون المواد الغذائية الاستوائية والبورسالين والمنسوجات والأواني المعدنية وينقلونها إلى أوروبا. وهناك يبيعونها ليحصّلوا قيمة مضافة أكبر بكثير. وقد استعانوا بشبكات التجارة في المحيطَين الهندي والهادئ إلى الجزيرة العربية والبحر الأحمر (التي كان قد أرساها ورسّخها التجار المسلمون سابقاً) وسيطروا عليها بشكل تدريجي عبر القوة.

المسار الرأسمالي
مع مرور الوقت، تنبّهت قوى أوروبية أخرى (الهولنديون والإنجليز والفرنسيون) لضرورة كسر احتكار الإسبان والبرتغاليين للتجارة العابرة للقارات عبر المحيط الأطلسي، فبدأوا بدورهم بالدخول على شبكات التجارة وبالاستكشاف. ولكن الفرق بين هذه الدول الثلاث، وبين إسبانيا، بحسب أوبراين، هو أن الأخيرة فهمت الازدهار على أنّه الموازنة بين الواردات والصادرات من سبائك الفضة والذهب، بينما تعاملت القوى الأوروبية الأخرى مع الأمر انطلاقاً من أن القيمة المضافة (وتالياً الازدهار) تأتي من خدمات الشحن والتمويل والتأمين والسمسرة المرافقة للتجارة والتي تدفعها إلى الاستقرار. وفهم التجار في تلك الدول أن القيمة المضافة من الخدمات تتجاوز، بفارق كبير الأرباح الناتجة من مجرد شراء السلع من دول المنشأ بكلفة منخفضة وبيعها بأسعار مرتفعة في الغرب.
انطلاقاً من القرن السادس عشر طوّرت دول أوروبا الغربية (بالأخص هولندا وإنكلترا) القواعد المالية والمؤسسات الرسمية بغرض جباية الضرائب وتنظيم الإقراض وشراء العملة الصعبة (السبائك)، كما يشرح أوبراين. واستعملت هذه القواعد كأسس لأنظمة نقدية أكثر استقراراً ومرونة وللوساطة المالية. في المقابل مثلاً، استمرت البرتغال وإسبانيا بالاعتماد على جنوى وفلورنسا لهذه الأغراض. وأدرك معظم رجال الدولة في الدول التي حذت حذو إنكلترا وهولندا أهمية توحيد الأسواق المحلية واندماجها، واتباع سياسات تزيد الحوافز لتعزيز الصادرات. وأن هذا بدوره يزيد من فرص العمل ويزيد من عوائد العمالة المحلية ويراكم رأس المال. وفهموا أيضاً أهمية تحفيز السلوك الدؤوب بين الأُسر لشراء واستهلاك الكماليات، وتعزيز تجهيز وإنهاء المواد الخام الأجنبية وزيادة قواعد استبدال الواردات.
باختصار، قامت الدول الوطنية في أوروبا الغربية بتشجيع وحماية مصالح اقتصاداتها عبر تأسيس وصيانة مجموعة من المؤسسات الرأسمالية لدعم تطور الاقتصادات الوطنية المتنافسة. وفي حال تعذّر التطور والمحافظة على التنافس من خلال هذه الآليات لم تكن الدول تتردّد في اللجوء إلى الافتراس والاستعمار. هذا المسار دفع نحو التحولات التي أدّت إلى اقتصادات السوق الصناعية الحضرية.
هذا التحول الرأسمالي لم يكن ليحصل لولا الموت البطيء لطريق الحرير، أو بالأحرى للممرات الشمالية منه، وسيطرة الأوروبيين بالقوة على ممراته الجنوبية وتوأمة سيطرتهم عليها بدفق المعادن الثمينة من العالم الجديد. وبالإضافة إلى ذلك، فقد حرمت هذه العملية شعوب الدول والكيانات السياسية على طريق الحرير من القيمة المضافة الناتجة عن التجارة العابرة للقارات.. أما اليوم فوجود مشروع يؤمّن البديل لطرق التجارة العالمية الخاضعة للسيطرة البحرية الأميركية (سيطرة الإمبراطورية) يفتح أفق تحدّي الأسس التي بُنيت عليها هيمنة الرأسمالية الغربية.

* البحث ضمن مساهمة في كتاب «صعود الإمبراطوريات التجارية».