خلال الأسبوعين الأخيرين، دخل لبنان في مجال النقاش المباشر حول التعاون مع الصين وفتح الباب أمام استثماراتها. لكن منذ أشهر يتسابق الكثير من الإعلاميين والسياسيين بالتلميح إلى أمثلة، على امتداد العالم الثالث، تتحدث عن «النوايا الصينية للسيطرة» على العالم. وتزامنت هذه السرديات الغربية، مع بداية الحديث عن البحث عن مصادر تمويل شرقية. ففجأة اكتشف اللبنانيون مبادرة «الحزام والطريق» الصينية، وتبنّى الكثير منهم الرواية الغربية التي تسعى إلى شيطنتها. غير أن ما حصل خلال الأيام الماضية، تمثّل في تحوّل الرافضين لمبدأ التعاون مع الصين، من دائرة التلميح إلى «النوايا الصينية»، نحو دائرة الاتهام الصريح، وخصوصاً بعد التصريحات الأميركية الرسمية عن جدوى التعاون اللبناني الصيني.الحقيقة هي أن الفضاءَين الإعلامي والسياسي الغربيين يقاربان المبادرة والسياسات الصينية المرافقة لها بالكثير من التشكيك، حتى حدود الشيطنة. ومجرد وضع أي عبارات مرتبطة «بالحزام والطريق» على محرّكات البحث على الانترنت سيفتح سيلاً من التقارير والمقالات والدراسات التي تذمّ المبادرة. وسنجد إسهاباً في شرح السعي الصيني للتوسع الإمبراطوري، بالأخص من خلال «فخ الديون».
فخّ الدين هو عندما تقوم دولة متطورّة بإقراض دولة نامية قروضاً تعرف أنها غير قادرة على سدادها، بهدف السيطرة على الموارد الوطنية للدولة المدينة.
في سياق الشيطنة، لا يكتفي الاختصاصيون الغربيون بمهاجمة المبادرة بل بطريقة تقديم الصينيين لها أيضاً، ولا سيما عندما تركّز الصين على الربط بين الجهود الصينية المعاصرة وطريق الحرير التاريخي. بالنسبة إلى هؤلاء، فإن استحضار طريق الحرير، وما يكتنفه من تبادل تجاري وحضاري مسالم، ما هو إلاّ عملية خداع تهدف إلى التعمية على الأهداف الصينية الحقيقيّة، وهي التوسع الاقتصادي ومن ثم الامبراطوري الصيني.

طريق الحرير وحدود البنى التحتية
الأهداف التي يصوّرها الغربيون لاستحضار طريق الحرير التاريخي ضمن مبادرة «الحزام والطريق» لا يمكن أن تكون واقعيّة. فخداع شعوب العالم الثالث بهدف استبدال الهيمنة الغربية بهيمنة صينية، لا يمكن أن يتمّ عبر استحضار طريق تجاريّ تاريخيّ كطريق الحرير. فهذا الطريق لم يكن صينياً بحتاً، بل إن كل شعوب المجال الأوراسي تحمل في تواريخها جزءاً من ذاكرة الهيمنة التجاريّة والجغرافيّة والتاريخيّة عليه. أصلاً، لا يوجد في التاريخ ما يُسمّى بطريق الحرير، فهذه التسمية هي اختراع للرحّالة الألماني فرديناند فون ريختوفن في عام 1877. هذا الطريق كان، فعلياً، عبارة عن مجموعة ضخمة من الطرقات التي تمر عبر وسط آسيا وبحر الصين الجنوبي والهند إلى فارس والجزيرة العربية إلى بلاد ما بين النهرين وسوريا والأناضول ومن ثم إلى أوروبا عبر تجارة البحر المتوسط. وهذه الطرقات خضعت عبر التاريخ والجغرافيا لسيطرة وحماية الكثير من الشعوب والامبراطوريات المختلفة والمتعاقبة، ولم تكن فقط تحت الحماية والتطوير الصينييْن.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

والتجارة عبر هذه الطرق (أو طريق الحرير لجريان التسمية في الفضاء العام) كانت سابقة لأيّ تشكّل إمبراطوريّ صينيّ. ففي كتابها «طريق الحرير في التاريخ العالمي»، تشير «شينرو لو» إلى أن الممالك الصينية، كانت قبل توحيد الصين تحت حكم سلالة «كين» الإمبراطوري، تتاجر مع التحالفات القبلية في منغوليا شمالاً، وتلك الموجودة في شنيجيانغ (شمال غرب الصين اليوم) غرباً. وعماد هذه التجارة كان تبادل السلع الرفاهية الصينية بالأحصنة التي كانت تلك القبائل تربّيها وتؤمّن أعداداً كبيرة منها. وقد تنبّه الصينيون إلى أهمية الخيّالة في التشكيلات العسكرية في سياق صراعهم مع قبائل الشمال والغرب التي كانت تغزو القرى الزراعية الصينية في الممالك الشمالية بشكل مستمر. فالصينيون لم يكونوا قادرين على تربية الأحصنة، التي تحتاج إلى مراعٍ واسعة، على عكس قبائل السهوب الآسيويّة. وما لم يكن يعلمه الصينيون، في حينه، هو أن القبائل التي كانوا يتاجرون معها كانت بدورها تتاجر بسلعهم غرباً مع قبائل أخرى على امتداد السهوب الآسيوية. وتمتدّ هذه السلسلة من التجارة بين القبائل لتصل إلى الإمبراطوريات في غرب آسيا وإلى تجارة المتوسط.
وتضيف «لو»، أن الصينيين لم يعوا بهذه التجارة ومداها إلاّ بعد رحلة الموفد الإمبراطوري «شان سيان» في القرن الثاني قبل الميلاد. فالإمبراطور «وو» (سلالة هان) أرسل سيان في مهمة دبلوماسية غرباً، لكنه تعرض للأسر في منغوليا وتنقّل مع القبيلة التي أسرته لسنوات في السهوب الآسيوية. بين الأسر والهروب والعودة، استغرقت رحلة سيان ثلاثة عشر عاماً، اطّلع خلالها على أسلوب حياة السهوب الآسيوية والعلاقات التجارية والسياسية فيها. قبل رحلة الأسر كانت السهوب الآسيوية شبه مجهولة للصينيين. وفي تقاريره، التي سلّمها للإمبراطور بعد عودته، فنّد «سيان» نوع وكميات السلع الصينية في الغرب (حتى أوزباكستان وأفغانستان اليوم). وأشار إلى أن هذه السلع كانت تصل إمّا عبر السهوب أو عبر الهند من جنوب الصين. حتى إنّه ذكر أن هذه التجارة تمتدّ إلى البحر الغربي ( البحر المتوسط كما كان يسميه الصينيون).
في هذا السياق، بدأت الصين بالتوسع شمالاً وغرباً بهدف السيطرة على الطريق التجاري الذي يمر عبر صحراء «غوبي» في الشمال والشمال الغربي بعيداً عن السهوب الخاضعة لسيطرة التحالفات القبلية. وتقول جوليا لوفل، في كتابها «الجدار العظيم»، إن توسيع الجدار شمالاً وغرباً في المرحلة الأولى من حكم سلالة «هان» لم يكن بهدف حماية المزارعين الآمنين من غزوات «البرابرة الشماليين»، بل كان الهدف الأساسي التوسع والإخضاع، وخصوصاً أن «سيان» لم يكتف بنقل ما شاهده خلال رحلته بل نصح بالسيطرة على مسار التجارة غرباً.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

في الواقع، كان هذا التوسع محكوماً بالتحدّيات الجغرافية والسكانية، كما تشير «لو». فبناء جدران وتثبيت مواقع دفاعية تحرسها قطعات عسكرية في البيئة الصحراوية الصعبة التي تحدها سلسلة جبلية جنوباً شكّلا تحدياً لوجستياً. وللتغلّب على هذا التحدي، استغل الصينيون مصبّات الينابيع التي كانت تصب من أعالي سلسلة الجبال لتشكّل واحات في الصحراء، وأقاموا فيها المستوطنات لتأمين الدعم والمدد للمواقع الدفاعية على الجدار. ومع الوقت نقل الصينيون تكنولوجيا الزراعة والري الصينية إلى هذه الواحات، ما مكنهم من توسيع المساحات الزراعية فيها. فتحوّلت الواحات إلى بلدات ومدن، قادرة على دعم الحاميات العسكرية وتقديم الخدمات والطعام والأعلاف للمسافرين على طريق الحرير. وهذا يعني أن الواحات أصبحت محطّات تجارية على طريق الحرير، أي تحوّلت إلى جزء من البنى التحتية التي سهّلت التجارة غرباً من وإلى الصين. لكن التمدّد الصيني لم يتعدّ مدينة «دونهوان» المعاصرة، وذلك أن هذه آخر الواحات التي تمكّن الصينيون من استغلالها وتطويرها، وبنوا آخر ممراتهم على الجدار (بوابة اليشب) على مسافة 80 كلم شمال غربيّ المدينة.
عمليّاً تمدّدت الصين الإمبراطوريّة في تلك الفترة إلى أقصى جغرافيا سمحت بها قدرتها على تطوير البنى التحتية للطرقات التجارية. أما التجارة على طريق الحرير، فلم تعتمد على البنى التحتية للإمبراطورية الصينية فقط، لأنه بعد «بوابة اليشب» اعتمدت التجارة على القبائل. وتلك بدورها ربطت السهوب الآسيوية بالبنى التحتية التي ورثتها الإمبراطوريات الشرقية المتعاقبة من الإمبراطورية الفارسية الإخمينية. والأخيرة كانت قد أنشأت الطريق الإمبراطوري الذي كان يربط الأطراف (من المتوسط غرباً إلى أفغانستان شرقاً) بالمركز الفارسي. وكما استمر الطريق الإمبراطوري الإخميني في خدمة الشعوب لألفيات تلت، كذلك دام ما أسسه الصينيون من بنى تحتية، على الجزء الذي سيطروا عليه من طريق الحرير، لقرون تلت حتى القرن الخامس عشر. واستمرت التجارة على طريق الحرير بغضّ النظر عن صعود وزوال الامبراطوريات والدول.

الفرصة والبروباغاندا
وبالعودة إلى البروباغندا الغربية عن طريق الحرير، تذكر ديبرا براوتيغام في ورقتها البحثية «نظرة نقدية على دبلوماسية فخ الديون الصينية»، أن مبادرة «الحزام والطريق» عبارة عن حزمة تحفيز اقتصادي عابرة للحدود ومربحة للجانبين، أي للصين وأي دولة تقبل الاستفادة منها. وتهدف المبادرة إلى تحفيز النمو الاقتصادي في الصين وكذلك الدول التي تتعامل معها على طول طرق الحرير التاريخية.
ضمن المبادرة تعهدت الصين بتمويل وبناء البنى التحتية، وإنشاء ممرات اقتصادية جديدة تمتد عبر آسيا الوسطى إلى أوروبا وجنوب شرق الهند - المحيط الهادئ. لذا يمكن أن نفترض أن الصين تحاول ترجمة تاريخ تجربتها في إدارة التجارة بينها وبين الغرب عبر أوراسيا بلغة اقتصادية معاصرة.
وتستفيض براوتيغام (وهي أستاذة الاقتصاد السياسي بجامعة جونز هوبكنز ومديرة مبادرة البحوث الصينية الأفريقية في مدرسة بول إتش نيتز للدراسات الدولية المتقدمة) في الشرح عن التحامل الغربي على الاستثمارات الصينية الخارجية في العقد الأخير. فالقادة الغربيون ومعهم الإعلام صنعوا أسطورة «دبلوماسية فخ الديون» الصينية. هذه الأسطورة التي نستهلكها اليوم في لبنان والمبنية على مقولة إن الصين استنسخت سياسة إقراض الدول النامية التي تتبعها عما اتبعته اليابان معها. ففي عام 1978 اتفقت اليابان مع الصين على إقراضها المال مقابل النفط والفحم الحجري الصينيين. بهذا ضمن اليابانيون الحصول على الموارد الطبيعيّة، بالإضافة إلى الوصول المبكّر إلى الأسواق الصينية لتلبية حاجتها المستقبلية من الآلات وقطع غيارها وخصوصاً أن الصين كانت على طريق أن تصبح دولة صناعيّة.
لا يملك لبنان ترف تفويت فرص تمويل مشاريع البنى التحتية


وضمن الدراسة تستعين براوتيغام بإحصاء نحو 4000 قرض صيني في أفريقيا ونتائج هذه القروض، لتخلص إلى أن اتهام الصين باتباع سياسة الإقراض غير المستدام بهدف الاستيلاء على موارد تلك البلدان الوطنية، غير صحيح. وتفنّد تفاصيل الاتهامات المحدّدة، مثل الاستثمارات في سريلانكا وأنغولا، لتدحضها شارحة كيف كيّف الإعلام تقاريره مع الصورة النمطية عن الاستثمارات الصينية التي يحاول الغرب أن يثبّتها. لا بل تعطي أمثلة مقابلة، مثل ما حصل مع فنزويلا، حيث لم تستطع الصين الحصول على النفط مقابل القروض (كما كان ينص الاتفاق) بسبب الحصار الأميركي وانخفاض أسعار النفط. ولم تطالب الصين بالحصول على جزء من صناعة النفط الفنزويلية كتعويض، لا بل توصّف براوتيغام ما حصل بأنه دليل على افتقار الصين إلى الأدوات الدبلوماسية لتحصيل قروضها.
وتخلص في النهاية إلى أن سردية الإقراض الصيني أكثر تعقيداً وتنموية مما يظهره الإعلام المهيمن.
أما لبنان اليوم، فلا يملك ترف التسليم لبروباغندا غربية لتفويت فرص تمويل في زمن شحّ التحويلات المالية وانهيار نموذجه الاقتصادي. والتركيز الصيني على تمويل مشاريع البنى التحتية سيفتح الآفاق أمام بناء نموذج اقتصادي لبناني منتج. نمط سيحمي الأجيال القادمة من اللبنانيين من التسول على أبواب رأس المال الغربي. فما تسرّب حتى الآن من عروض صينية لتمويل مشاريع بنى تحتية لبنانية يحلّ الكثير من المشاكل التي يعاني منها لبنان. وليس أصغر المشاكل مشكلتي الكهرباء والنقل، وتطوير هذين القطاعين سيسمح بالانطلاق بعجلة الإنتاج المعطّلة منذ عقود. ومن المهم مقاربة أي فرصة من هذا النوع بعيداً عن البروباغندا الغربية، وانطلاقاً من باب مصلحة لبنان الآنية والمستقبلية. فكما هو واضح، لن يهرع الغرب إلى مساعدتنا لأسباب متعدّدة سياسيّة واقتصادية. والواضح أيضاً أنه قد ولّى زمن المؤتمرات الغربية في باريس لتمويل الاستدانة اللبنانية. الواقع اليوم موحش، فلماذا العناد وتفويت الفرصة؟