في 27 أيار 2020 صدر عن حاكم مصرف لبنان القرار الوسيط رقم 13228 والقاضي بتمويل استيراد بعض المواد الغذائية الأساسية والمواد الأولية التي تدخل في الصناعات الغذائية، تلبية لحاجة مستوردي ومصنّعي المواد الغذائية المحددة في لائحة تصدرها وزارة الاقتصاد والتجارة من خلال المصارف التجارية في لبنان على سعر صرف مدعوم من قبل مصرف لبنان حسب المادة 7 مكرّر من القرار الأساسي رقم 7548 تاريخ 30/3/2000؛ يعدّ هذا القرار خاطئاً، بل جريمة بحق احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية للأسباب الآتية:بالنسبة إلى السلع والمواد الغذائية المستهلكة على الأراضي الوطنية:
- ليست هناك دراسة مستفيضة عن حاجة السوق المحلية من السلع والمواد الأساسية ولا عن أحجامها وقيمها.
- ليس هناك فرق شاسع بين سعر الصرف المنوي اعتماده لتلك التعاملات وسعر الصرف في السوق الموازية.
- تسهم في اقتطاع جزء مهم وضروري من الاحتياط النقدي بالعملات الصعبة لمصرف لبنان.
- تساوي بين جميع المستهلكين المقيمين والمواطنين على الأراضي اللبنانية.
- تساوي بين جميع الفئات الاجتماعية من خلال هذا الدعم: الأثرياء، متوسطي الحال والفقراء.
بالنسبة إلى المواد الأولية التي تدخل في الصناعات الغذائية:
- ما قيمة تلك المواد؟ كيف يجري التمييز بين السلع والمنتجات للاستهلاك الداخلي والسلع والمنتجات للتصدير؟
- كيف نعلم أي السلع والمنتجات التي يتم شراؤها من السوق الداخلية ومن التجار مباشرة إلى الخارج؟
لذا، الأجدر القيام بالآتي:
* تفعيل دور وزارة الاقتصاد في الرقابة على أسعار السلع والمنتجات التي تسوّق داخل الأراضي اللبنانية.
* دعم الأجهزة الرقابية والقضائية بآلية تنيط بها اتخاذ إجراءات احترازية مباشرة وسريعة لمعاقبة المخالفين.
* غير صحيح ما يروّج عن أن انخفاض سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار الأميركي يجب أن تلحقه زيادة موازية في أسعار السلع والمواد الغذائية للأسباب الآتية:
- تعمل غالبية المصانع لتصريف جزء من منتجاتها في السوق الداخلية، إلا أن الجزء الأكبر يتم تسويقه خارج الأراضي اللبنانية، ويتم بيعه بالعملات الصعبة وأهمها الدولار أو اليورو تبعاً لعملة البلد المرسلة إليه.
- بالنسبة إلى السلع المصنّعة في لبنان والمصدّرة إلى الخارج: كلفة الأجور والعمالة انخفضت بفعل انخفاض سعر الصرف، ولم تبق على حالها، كذلك الحال بالنسبة إلى كلفة الوقود، النقل الداخلي، الطاقة المستهلكة، الإيجارات، الفوائد المصرفية على القروض بالعملة الوطنية، الفوائد المصرفية على القروض بالعملات الصعبة ما زالت تُدفع على سعر الصرف الثابت، التأمين من شركات محلية ما زالت ثابتة، الإعلانات، وغيرها من الأكلاف الثابتة وجزء من الأكلاف المتغيرة وتبلغ مجتمعة أكثر من ثلثي كلفة أي سلعة مصنعة، ما يعني أن حجم التصدير لأي معمل يجب أن يغطّي كلفة المواد والسلع التي تسوّق داخلياً وذلك في ظل رقابة وزارة الاقتصاد والتجارة إذا قامت بعملها بالشكل المطلوب، وبالتالي لا يجب أن يحصل أي تغيير في الأسعار.
إن حجم التصدير لأيّ معمل يجب أن يغطّي كلفة المواد والسلع التي تسوّق داخلياً وذلك في ظل رقابة وزارة الاقتصاد والتجارة


- معدل الربحية للمصانع خلال الأشهر السابقة وبفعل اللارقابة الحكومية وغياب أخلاقيات العمل تضاعف ولم يزدد بوتيرة عادلة. فالأرباح ازدادت بفعل ارتفاع الأسعار بينما كان يجب أن تبقى على مستوياتها السابقة انسجاماً مع مداخيل الموظفين في المصانع ومع الظروف المعيشية في البلد وللمساهمة في زيادة الإنتاج تلبية لحاجات المستهلكين المتزايدة، ومن أجل زيادة التصدير الناجم عن ارتفاع القدرة التنافسية للسلع المنتجة محلياً بعد انخفاض سعر الصرف، كانت كمية الأرباح ستتضاعف حكماً بنفس معدلات الربحية السابقة نتيجة نموّ المبيعات.
- ما أهمية خفض سعر صرف العملة الوطنية ما دام لن يؤدي إلى خفض العجز في الميزان التجاري، ودفع المنتجين المحليين إلى زيادة إنتاجهم، وخلق فرص عمل للمواطنين؟ أليس الهدف دفع المقيمين نحو شراء السلع المنتجة محلياً بدلاً من السلع المستوردة؟
- بالنسبة إلى السلع المصنّعة في لبنان والمسوّقة محلياً: بما أن الأكلاف الثابتة وجزءاً من الأكلاف المتغيّرة تغطي أكثر من ثلثي كلفة صناعة أي سلعة، فإن رفع الأسعار لا يجب أن يكون سوى بنسبة غلاء سعر المواد الأولية وليس على السلعة ككل، حتى لو كان جزء من المواد الأولية التي تدخل في الصناعة مستورداً وبالعملة الصعبة. يمكن تقديم مثالين عن هذه المسألة:
1- بالنسبة إلى السلع المحلية: عند سعر صرف 1500 ليرة مقابل الدولار الأميركي، مصنع ألبان وأجبان يشتري الحليب من البقاع أو من سوريا، بقي على كلفته، لم يتغير بالنسبة إلى كلفته سوى كلفة مواد التغليف والتعبئة والتي تشكل بحدّها الأقصى 20% من كلفته، وأقل من 15% من سعره في السوق. فإذا كانت كلفة السلعة 3000 ليرة، وتباع للتجار بـ3300 ليرة مثلاً، وتباع في السوق بـ3600 ليرة لغاية 4000 ليرة لبنانية للمستهلك النهائي؛ فعند انخفاض سعر الصرف على 4500 أي الحد الأقصى التي وصلت إليه الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي في سوق الصرف، ازدادت كلفة مواد التغليف المشتراة من السوق الداخلية - ولكن بنسبة ارتفاع لا تتجاوز 50% نظراً إلى أن المؤسسة تلك محليّة أيضاً ولديها أكلاف ثابتة ومتغيرة ما زالت على ما هي عليه - ولكن لنعتبر أن تلك المواد مشتراة من السوق الخارجية مباشرة، فأصبحت كلفتها 1800 بعدما كانت 600 وبالتالي فسعر بيعها للتجار يجب أن يصبح 3000-600+1800= 4200 ليرة، وتباع للتجار بـ4500 ليرة، على أن تباع للمستهلك بما لا يتجاوز الـ 5000 ليرة، وبالتالي فإن الزيادة على المستهلك بمعدل 20% هي معدل الغلاء في كلفة المواد الأولية أو مواد التغليف، لا أكثر، وخصوصاً أن غالبية الصناعات اللبنانية هي صناعات خفيفة غير معقّدة.
2- بالنسبة إلى السلع المستوردة: سعر سلعة مباعة في السوق 1000 ليرة عندما كان سعر الصرف 1500 ليرة إلا أن هذا لا يعني أن كلفتها 0.67 دولار، وبالتالي عند انخفاض سعر الصرف إلى 4500 ليرة مقابل الدولار سيرتفع سعرها إلى 3000 ليرة، لأن كلفة استيرادها (سعر السلعة في بلد المنشأ + كلفة الشحن الخارجي) تساوي أقل من نصف سعرها. وبالتالي فإن كلفة استيرادها بالعملة الصعبة لا تتجاوز 0.33 دولار إلا أن هناك أكلافاً ثابتة ومتغيّرة محليّة لم تتغير، لذا فإن السعر النهائي للمستهلك يجب ألا يتجاوز الـ 2000 ليرة، أي 100% من السعر السابق وليس 300% تبعاً لارتفاع سعر صرف الدولار.
ما دامت الدولة ترغب باتخاذ إجراءات لدعم السلع الوطنية، أليس الأجدر أن يكون لجميع السلع المصنّعة على الأراضي اللبنانية، لا المستوردة (حيث يجدر بالمقيم تحويل سلّته الغذائية بما يخدم البلد) وذلك ليس من خلال اقتطاعات من احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، بل من خلال التالي:
- عند استيراد المصانع اللبنانية للمواد الأولية من الخارج، والتي تدخل في صناعاتها، يمكن تقديم إعفاءات جمركية أو خفض معدلات الرسوم عليها، وبالتالي تُجبر المعامل على تقديم فواتيرها الأصلية إلى الجمارك، لتحصل على الإعفاءات وليس فواتير وهمية، وبالتالي تكون النتيجة في صالح الدولة والصناعة في آن.
- يمكن لوزارة الصناعة، واتحادات الغرف الصناعية والتجارية في لبنان، تقديم إعفاءات على التسجيل وتجديد الاشتراكات للمعامل التي لا ترفع أسعارها في السوق بما لا يتجاوز حدوداً معينة.
- يمكن لوزارة الصناعة اعتماد جوائز للجودة وللأسعار تستفيد منها المعامل بإعلانات مجانية عبر شبكة تلفزيون لبنان والإذاعة اللبنانية.
- يمكن للدولة، وفي إطار مساندة الأسر الأكثر تضرراً من الأزمات المتلاحقة في لبنان: إصدار بطاقة تموينية لهم (لا أموال جاهزة كما كانت الحال عليه سابقاً) تتيح لهم شراء السلع الأساسية بأسعار مدعومة من الأسواق المحلية وبالتالي تسهم في آنٍ واحد في تطوير الأسواق المحلية وتخلق دعماً للأسر، وتكون كلفتها منخفضة على الدولة.
الأفضل دائماً، وفي ظل الظروف التي يعيشها الوطن، التفكير بطرق من أجل الحفاظ على احتياطات البلاد من العملات الصعبة ومن اليسير الذي ما زال يرسله المغتربون إلى ذويهم، لا محاولة دفنه نتيجة قرارات خاطئة، غير مدروسة وتشكل خطيئة في حق البلاد.

*باحث ومستشار اقتصادي