اعتادت شركات تصنيع الأدوية حول العالم السخاء في الإنفاق على حملات التسويق والترويج. وفقاً لتقديرات متداولة في السوق الأميركية، وهي مقرّ أكثر من نصف أهم عشر شركات صناعة أدوية عالمياً، كلّ دولار واحد يُنفق على الاستثمارات الأساسية للأبحاث والتطوير يُقابله 19 دولاراً على جهود تلميع الاسم. هي جهود ضرورية لهذه الشركات العملاقة التي تسيطر على سوق كونية تفوق ألف مليار دولار، ولعلها من أكثر الصناعات الجاذبة لنظريات المؤامرة، من التيارات المناهضة للقاحات وصولاً إلى الأحزاب الشعبوية، والنضالات الاجتماعية من الليبراليين واليساريين على حدّ سواء؛ الجميع يجد ضالّة في صناعة الدواء. هذا الوضع مؤسف لأن الدواء الذي من شأنه أن يداوي المرضى ويوحّد العالم ضدّ الأوبئة، موجود في دوامة مسمّمة من الأرباح والعلاقات السياسية المتجذّرة بالمصالح التجارية. ومع سيطرة فيروس كورونا الجديد على العالم تجد هذه الصناعة ممراً جديداً إلى الأرباح، وهو الدعم الحكومي للتوصل سريعاً إلى تطوير لقاح لنشل العالم من الوباء والاقتصاد من دوامة التدهور. أما الإنسان، الذي يُموّل الأبحاث، فسيُصبح مستهلكاً للمنتج الذي يُمكن أن يُبصر النور بنهاية العام، ومعه تُبصر صناعة الدواء فجراً جديداً من الأرباح وارتفاع أسعار الأسهم.
من يتمتع بالسرعة الخارقة لتطوير اللقاح؟
تجسّس صناعي، ومفاوضات معقّدة بين حكومات وشركات تُعدّ قيمة قومية لدول أخرى، وصولاً إلى إطلاق عمليات خاصة بعناوين حركية وتعبئة كاملة للوصول إلى اللقاح أو العلاج بأسرع وقت، وقبل الآخرين. كلّ شيء متاح في عالم صناعة الدواء وتحديداً في زمن كوفيد-19 الذي أدخل البشرية في نفق لم تشهد الأجيال الأخيرة مثيلاً له.
شركات صناعة الدواء مرتابة بطبيعتها ومعتادة على أجواء السرية، غير أنها غريبة عن التقلبات السريعة والكبيرة في أسعار أسهمها، ولكن الآمال الكونية المعلقة على نجاحها بالتوصل إلى لقاح لكوفيد-19 يرفع أسهمها بشكل سريع وفجائي؛ مدعومةً برزم الإنفاق الحكومي السخية بين الولايات المتّحدة والصين مروراً بأوروبا، تجد تلك الشركات نفسها في قمة العالم الرأسمالي تتحضّر لموجة جديدة من الأرباح.

المصدر: IDEA Pharma ومجلة Fortune، نيسان 2020

منذ آذار الماضي، أنفقت الولايات المتّحدة أكثر من 1.2 مليار دولار في سباق البحث عن لقاح، وهي تستثمر أيضاً في سلاسل الإنتاج التي من شأنها أن تُعجّل وتيرة فبركة الجرعات بهدف تأمين مئات الملايين منها بحلول نهاية العام الجاري؛ والمبادرة الأهم على هذا الصعيد التزام بقيمة مليار دولار مع شركة Johnson & Johnson للتمكّن من إنتاج مليار جرعة من اللقاح.
ويرفع البيت الأبيض الرهان إلى مستوى آخر، عبر تنظيم عملية خاصة، تحت عنوان «السرعة الخارقة»، لتسريع وتيرة تطوير وإنتاج اللقاح عبر جمع شركات تصنيع الدواء ووكالات حكومية وحتّى المؤسسة العسكرية لمحاولة اختصار الوقت بما يقارب ثمانية أشهر كاملة للتوصل إلى لقاح؛ إنه وضع غير مسبوق لناحية السرعة في تطوير اللقاح والهدف السياسي منه لم يعد خافياً على أحد مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية.
إلى شمال البيت الأبيض، تعهّدت أوتوا بإنفاق أكثر من مليار دولار لدعم الجهود في الأبحاث والتجارب الطبية لمواجهة الفيروس. «من الواضح أن الحلّ الأفضل سيكون إيجاد لقاح قريباً، ولكن هناك طرق عديدة للمضي قدماً، وسنتّخذ أفضل الخيارات الممكنة»، جزم رئيس الحكومة جاستين ترودو أخيراً.
على الضفة الأخرى من العولمة، تجهد الصين، حيث انطلق الوباء منذ خريف العام الماضي، لتطوير اللقاح وقطف الثمار الدبلوماسية منه. وبحسب المعلومات الضئيلة المتوفرة، تؤمّن الحكومة الدعم لثلاث شركات ومعاهد بحثية، أبرزها «كانسينو لعلوم الأحياء»، للتوصل إلى لقاح فعّال بنهاية العام.
أما في المملكة المتّحدة، كان الدعم أكثر تواضعاً بكثير غير أن النتيجة قد تكون الأسرع وذات الفاعلية الأعلى. فقد قدّمت الحكومة البريطانية 20 مليون جنيه استرليني فقط لمعهد Jenner لأبحاث اللقاحات التابع لكلية الطب في جامعة أوسكفورد، دعماً لجهوده في هذا المجال، وبناءً على النتائج التي حقّقها تمّ توقيع صفقة مع شركة AstraZeneca، ضمن اتفاق مع لندن، لبناء قدرات تطوير اللقاح، الذي يفترض أن تجهز نتائج مرحلته الأولى مطلع الشهر المقبل على أن يُصبح جاهزاً في نهاية العام؛ والأولوية في إنتاج وتوزيع المنتج ستكون للمملكة المتحدة.
«يجمع هذا التعاون بين الخبرة العالمية لجامعة أوكسفورد وبين قدرات الشركة في مجال التطوير والتصنيع والتوزيع» علّق مدير الشركة، باسكال سوريو، أخيراً في حديث صحافي. «نصبو إلى القدرة على إنتاج وتأمين 100 مليون جرعة بنهاية العام وأن نتوسّع من تلك النقطة».
أما أستاذ الطب المعين ملكياً في الجامعة المرموقة، السير جون بيل، فقد وصف الشراكة بأنها «قوة رائدة في الصراع لمواجهة الأوبئة». وشدّد على أهمية أن يكون العالم مستعدّاً وقادراً على تصنيع اللقاح على مستوى عالٍ ليتم تأمينه للشعوب في البلدان النامية حيث الحاجة إليه كبيرة وطارئة.
تُظهر جميع هذه المعطيات أن صناعة الأدوية تكتسب أولوية قومية في زمن كوفيد-19 وتتأثر حتماً بإعادة توليف حلقات الإنتاج التي يفرضها الفيروس. وفقاً لبول هادسون، المدير التنفيذي لشركة «سانوفي» الفرنسية، فإنّ عدم وجود وكالة أوروبية مشابهة للمؤسسة الأميركية للأبحاث والتطوير الطبية الحيوية المتقدمة، وهي التي تقود الجهود الأميركية على هذا الصعيد، يجعل قدرة الاتحاد الأوروبي على تطوير وإنتاج اللقاحات محدودة. «يؤدي هذا الوضع إلى المنافسة على الموارد المحدودة. وباستطاعتنا أن نكون أفضل من هذا بكثير».
ولكن كيف تتموضع تلك الشركات في زمن الوباء الذي يمرّ به العالم؟ وكيف ينعكس ذلك على البشرية؟

نفاق حول الملكية الفكرية
يُمكن تلمّس نوع من التحوّل في صناعة الدواء بعد عقود طويلة من سيطرة الشركات والحكومات القوية في هذا العالم عبر فرض الأسعار المرتفعة على الأدوية قبل انتهاء صلاحية ميزتها التجارية المتمثّلة بالملكية الفكرية، وذلك بحجة أنه لن تكون هناك حوافز للبحث والتطوير إذا لم تكن الأرباح التي تتوقعها الشركات دسمة.
اليوم تضغط الحكومات على الشركات للتخلّي عن جوانب معينة من السريّة التي تحكم صناعتها بهدف التعاون لإيجاد الحل للوباء القائم. أبرز الأمثلة أخيراً كان الكباش بين الحكومة الهولندية وبين Roche، الذي اضطرت بنهايته الشركة السويسرية إلى أن تكشف سرّ معادلة تصنيع أحد مكونات فحص فيروس كورونا الخاص بها، وذلك لكي تتمكن شركات أخرى من إنتاج وحدات الفحص على نطاق واسع.

تصميم: رامي عليّان

مراجعةٌ أولية تُظهر نفاقاً واضحاً لدى الدول الغنية في التعاطي مع موضوع الملكية الفكرية، وفقاً لرأي الخبراء: عندما يتعلّق الأمر بشعوب البلدان الأخرى، الضعيفة إجمالاً، تُصبح الملكية الفكرية التي تحكم الدواء واقعاً مقدساً، أما عندما يمسّ الأمر شعوب الحكومات القوية تسهل الاستثناء وتتحول الملكية الفكرية التي تحكم صناعة الدواء إلى استثناء.
وفي ظلّ تحصّن شركات الأدوية الضخمة وراء قلاعها حمايةً لأسرارها وتحضيراً لمراحل مقبلة من الأرباح، يدعوها الخبراء إلى فكّ الحجر عن بياناتها الغنية الخاصة بتركيبات العلاجات ولكن ليس لكشف أسراراها للشركات الأخرى بل لكي تتمكن حواسيب الذكاء الاصطناعي من البحث المعمّق فيها لمحاولة إيجاد التوليفات الملائمة للعلاجات واللقاحات والفحوصات.

تعزيز الاحتكار بعد انتهاء الوباء
التدقيق يكشف أن التحوّل الذي تشهده صناعة الأدوية حالياً، هو شكليٌّ فقط، ويُعدّ استثماراً بسيطاً تحضيراً للأرضية لتحقيق المكاسب المضاعفة. فالمنافسة التي يشهدها العالم حالياً لتطوير اللقاحات والعلاجات للوباء لن تدوم طويلاً على ما يبدو، إذ تفيد التقديرات بأن مرحلة ما بعد الوباء ستشهد موجة من عمليات الدمج والاستحواذ في عالم صناعة الأدوية.
وبحسب تقييم البنك الملكي الكندي، ستعمد شركات صناعة الأدوية الكبيرة إلى استخدام المخزون الكبير المراكم من الدعم الحكومي والأرباح الجديدة لسد احتياجاتها التصنيعية عبر تقديم عروض الاستحواذ العدائية لشركات منافسة. ومن أبرز الأسماء المطروحة في هذا المجال Merck، وPfizer، وAbbVie، وJohnson & Johnson؛ والشركتان الأوليان ستولّدان وحدهما 100 مليار دولار من العوائد خلال السنوات الخمس المقبلة.
عندما يتعلّق الأمر بشعوب البلدان الأخرى الضعيفة إجمالاً تُصبح الملكية الفكرية التي تحكم الدواء واقعاً مقدساً، أما عندما يمسّ الأمر شعوب الحكومات القوية فتتحول الملكية الفكرية إلى استثناء


إذا تحقّق هذا الوضع في السوق، فذلك يعني أن الوباء الذي دفع الحكومات، ومعها شعوبها، إلى دعم شركات الدواء للتوصل إلى لقاح، يدفع أيضاً إلى مزيد من التركّز والاحتكار عبر السماح لصناعة الدواء من تعزيز سيطرتها على السوق.
يبقى أن المشترك الوحيد حتّى اليوم بين الشركات والمبادرات التي تتمتع بمقوّمات فعليّة لتطوير لقاح حقيقي لكوفيد-19 هو التزامها بتسعير الجرعة عند سعر الكلفة خلال التسويق في مرحلة الوباء على أن يتم تحقيق الأرباح التجارية وتحديد الإتاوات في المرحلة الثانية أي عندما يتم احتواء الوباء ويُصبح متوطناً في المجتمعات.
هنا يبقى السؤال قائماً: عند أي مستوى سيتم تحديد سعر الكلفة؟ وما هي المعايير لذلك في ظلّ انخراط أطراف كثيرة في عملية التطوير؟
بين الأموال الحكومية وجهود مراكز الأبحاث وآلة الإنتاج الضخمة التي تتمتع بها شركات إنتاج الدواء، تُصبح معادلة السعر بالنسبة إلى محدودي الدخل في هذا العالم معقدة بقدر ما هي عليه تركيبات الأدوية وهيكليات السوق.



براءات الإختراع: إحتكار القلّة
ما هو الدافع الذي يجعل شركات الأدوية تسعى وراء التقدّم العلمي المستمر في مجالاتها؟ براءات الاختراع. عندما تتوصّل شركة ما إلى دواء جديد تحصل على براءة اختراع خاصة بهذا الدواء ويصبح إنتاج تركيبته «محمياً» بهذه البراءة، ما يتيح المجال أمام الشركة للتفرّد بتصنيعه وبيعه لفترة من الزمن. قد تصل مدة «الحماية» التي تؤمّنها براءات الاختراع للأدوية إلى 20 سنة ما يجعل هامش الربح يتضاعف مرّات. في هذه الفترة ليست هناك قوانين تحدّد الأسعار أو سقوفها ما يعني أن إنتاج دواء جديد سيكون مربحاً جداً للشركات ومغرياً من أجل المزيد من الاستثمار في الأبحاث والدراسات. «براءات الاختراع» تثير نقاشاً يتعلّق بقدرة الشركات على «احتكار» الدواء والتلاعب بأسعار الأدوية من دون أي معايير واضحة أو قوانين تنظّم عملية التسعير. قد تصل أسعار بعض الأدوية إلى معدلات مرتفعة جداً تجعلها غير متاحة لجميع الناس، فيصبح توافر الدواء للقلّة القادرة على تحمّل ثمنه فقط. هذه استراتيجية أيديولوجية قادتها موجة النيوليبرالية ونشهد اليوم نتائجها في ظلّ تفشّي وباء كورونا بعنوان استغلال الأمراض لجني الأرباح.
(الأخبار)